قراءات نقدية

الشاعر راتب سكر يستعيد محنة يوسف الذي أكله الذئب (2-4)

مفيد خنسةالفرع الثاني: (حبل الأنثى = النجاة)

يقول الشاعر:

(ولما تيقّنت

أن الذئاب انتهت

من طعامي

وحامت..

على ما تبقى

من الوجد في صوت روحي

فتحت البراري

على أضلعي

يا رياح احمليني

لأنثى تناءت

تحثّ الخطى

في غضون الجبين.)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الترقّب والاستغاثة من أجل النجاة من الذئاب، وعقدته (ولما تيقنت) وشعابه الرئيسة هي: (أن الذئاب انتهت/ من طعامي) و(وحامت.. / على ما تبقى/ من الوجد في صوت روحي)، أما شعابه الثانويّة فهي: (فتحت البراري/ على أضلعي) و(يا رياح احمليني/ لأنثى تناءت/ تحثّ الخطى/ في غضون الجبين.)

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبريّ أيضاً، وفيه مناجاة للأنثى التي لا تكتمل الحياة من دونها، فقوله: (ولما تيقنت/ أن الذئاب انتهت/ من طعامي)، أي عندما تأكد من أن الذئاب قد أكلت كل ما كان لديه من الطعام، وهي إشارة إلى الذئاب الذين قطعوا سبل العيش للمستضعف البسيط الذي يعاني من العزلة والغربة في محيطه الضيق، وقوله: (وحامت.. على ما تبقى/ من الوجد في صوت روحي) أي إن هذه الذئاب حين لم تكتفِ بأكل طعامه، بل أخذت تحوم حوله لتقضي على ما تبقى من الشوق والهيام في نداء روحه، وقوله: (فتحت البراري/ على أضلعي) يمكن أن يعني أنه عندئذ أخذ يزحف على صدره ويجوب البراري، ويمكن أن يعني أنه عندئذ أراد أن يتهيأ للطيران بأضلاعه التي فتح البراري عليها، ويمكن أن يعني أنه عندئذ حرر الروح من قفص الصدر وأراد أن يطير بها على بساطه الطيني الذي مدّه من حروفه الملتهبة الصادقة، وقوله: (يا رياح احمليني/ لأنثى تناءت/ تحث الخطى/ في غضون الجبين) أي ينادي الرياح أن تطير به إلى الأنثى التي تجيء إليه حثيثة الخطى في طيات الجبين، وتلك إشارة إلى الأنثى التي غاب عنها ومازالت تأمل بعودته، الأنثى التي بقيت صادقة في سعيها للحصول على لقمة العيش بعد أن حفر الزمن الأخاديد على جبهتها المرفوعة.

الفرع الثالث: (اليقظة)

يقول الشاعر:

(أنا والذئاب انتبهنا

إلى تينة من يباس..

تدلت على غصنها كومة من ذنوب ..

جعلنا عناقيدها

بردة

واعدتنا بلوز وتين

***

أنا والذئاب انتبهنا..

فصاحبتها

في شعاب الخبايا..

عدونا معاً

ظلمتي فوق ظهري

فمي ..

في نشيد الليالي وقلبي ..

على بابها حارس

كم رعى في سماء نجوما ..!

عصاه الأغاني

لها في يديه

صناديق عشق

وللريح فيها

عرين.)

في هذا الفرع يبين الشاعر يقظة الشاعر والذئاب من الغفلة وعقدته (أنا والذئاب انتبهنا) وشعابه الرئيسة هي: (أنا والذئاب انتبهنا/ إلى تينة من يباس..) و(جعلنا عناقيدها/ بردة/ واعدتنا بلوز وتين) و(أنا والذئاب انتبهنا.. فصاحبتها)، أما شعابه الثانويّة فهي: (تدلت على غصنها كومة من ذنوب ..) و(في شعاب الخبايا.. عدونا معاً) و(ظلمتي فوق ظهري) و(فمي .. في نشيد الليالي وقلبي .. على بابها حارس) و(كم رعى في سماء نجوما ..!) و(عصاه الأغاني/ لها في يديه / صناديق عشق) و(وللريح فيها/ عرين.).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وفيه يبين الشاعر حالة الغفلة التي خيمت على الذئاب والضحيّة، الآكل والمأكول، القاتل والمقتول معاً، ومن ثم حالة اليقظة التي فتحت أبواباً للنجاة، فقوله: (أنا والذئاب انتبهنا/ إلى تينة من يباس.. تدلت على غصنها كومة من ذنوب .. جعلنا عناقيدها/ بردة/ واعدتنا بلوز وتين) أي الشاعر الذي فتح البراري على أضلعه، والذئاب التي حامت على ما تبقى من الوجد في صوت روحه، وهم على هذه الحالة من التحفز والتوتر والمواجهة، انتبهوا معاً إلى شجرة يابسة من التين.. - في إشارة إلى موت هذه الشجرة- وقد تدلى غصنها اليابس محمّلاً بالذنوب التي جعلوا منها رداء يلتحفون به، وقد واعدتهم بلوز وتين، والرمز هنا واضح، وهو أن القاتل والضحيّة، سوف يحمل كلّ منهما ذنوبه الصغيرة أو الكبيرة، ويجيء ملتحفاً بها للحساب، أما الوعد بالتين من شجرة التين، فهو وعدٌ معقول ومقبول، أما الوعد باللوز فذلك ما لا يمكن، أي لا معنى للوعود غير المعقولة، وإن تمناها المرء، وقوله: (أنا والذئاب انتبهنا.. فصاحبتها/ في شعاب الخبايا..) أي يؤكد انتباهه وانتباه الذئاب، فقرر أن يرافق الذئاب في المسالك المتفرقة المستورة، وقوله: (ظلمتي فوق ظهري/ فمي.. في نشيد الليالي وقلبي .. على بابها حارس/ كم رعى في سماء نجوما ..!) أي يوسف الذي قيل عنه: أكله الذئب، وهو يشير بمعنى من المعاني إلى الشاعر نفسه، أصبح يصاحب الذئاب رحلتها في الظلام الذي يغطيه كما لو أنه يحمله على ظهره، أما فمه فإنه يطلق نشيد تلك الليالي التي نأى بها عن الأنس وأصبح في صحبة الذئاب، أما قلبه!: فإنه يبقى حارساً لباب الليالي، وهو يرعى النجوم المنتشرة في كبد السماء، وقوله: (عصاه الأغاني/ لها في يديه / صناديق عشق/ وللريح فيها/ عرين.) أي قلبه المعذب، حارس باب الليالي، وراعي نجومها، فإنه يتوكأ على الأغاني التي تعبر عن وجعه، كما يتوكأ العجوز على عصاهُ ويمسكها بكلتا يديه اللتين تختزنان لها عشقاً لا تتسع له الصناديق، أما الريح فلها فيها الحِجر والمأوى.

الفرع الرابع: (تجدد الأمل)

يقول الشاعر:

(ركابي..

سريري..

وعصف الرياح ازوراري..

تفاصيل عمري..

صهيلي..

ونجوى شرودي..

وسمعي..

يناجي الزوايا

بألحان أوتارها

نغمة من بقايا

تهجي

خطى العابرين..

***

هزمت احتضاري

فعادت حياتي

تهزّ الغصون ابتهاجاً

بزيتونها ..

تمسح العتم

عن نبض صوتي

وتحمي سراجي ..

نفخت اشتعال الأماني بمزمار طيني

وأرقصتها..

خطوة، خطوة

في دروبي

فضمت ظنوني ...

وضاءت على جيدها

نشوة من جمان.

تدلّى على خصرها

الياسمين .)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الأمل المتجدد لدى الشاعر بعد رحلة المعاناة والخوف من تلك الذئاب التي رافقها، وعقدته (ركابي.... / سريري)، وشعابه الرئيسة هي: (ركابي.. سريري..) و(وعصف الرياح ازوراري..) و(تفاصيل/ عمري.. صهيلي.. ونجوى شرودي..) و(وسمعي.. يناجي الزوايا بألحان أوتارها / نغمة من بقايا)، أما شعابه الثانويّة هي: (تهجي/ خطى العابرين..) و(هزمت احتضاري) و(فعادت حياتي/ تهزّ الغصون ابتهاجاً/ بزيتونها) و(تمسح العتم/ عن نبض صوتي/ وتحمي سراجي) و(نفخت اشتعال الأماني بمزمار طيني) و(وأرقصتها.. خطوة، خطوة/ في دروبي) و(فضمت ظنوني.. وضاءت على جيدها/ نشوة من جمان.) و(تدلى على خصرها/ الياسمين).

في المعنى:

الأسلوب في الفرع خبريّ أيضاً، وفيه يصوّر الشاعر إصراره على المواصلة، إصراره على البحث عن مخارج للنجاة، على الرغم من العزلة التي يعيش فيها في محيط تكثر فيه الذئاب، التي لا مفر له من مصاحبتها في مساراتها المخبّأة في تلك الليالي المظلمة، فقوله: (ركابي.. سريري.. وعصف الرياح ازوراري.. تفاصيل عمري.. صهيلي .. ونجوى شرودي.. وسمعي.. يناجي الزوايا/ بألحان أوتارها / نغمة من بقايا/ تهجي/ خطى العابرين..)أي إنه في العدوِ كما لو أنه على حصان وسريره أشبه بقطعة الحديد المدوّرة التي توضع على سرج الفرس من أجل أن يدوس عليها الفارس ويقفز لامتطاء الفرس، فهو في ميلانه كعصف الرياح القويّ، أما صهيله فأشبه بصدى تفاصيل تجربته خلال أيام عمره الماضية، أشبه بحديث النفس في لحظات الشرود والتذكر، وهو يصيخ بسمعه المتوقّد مناجياً إيقاع خطو العابرين في تلك الأماكن البعيدة الضيّقة، وقوله: (هزمت احتضاري/ فعادت حياتي/ تهزّ الغصون ابتهاجاً/ بزيتونها) أي استطاع من مصاحبة تلك الذئاب في العدو أن يهزم الموت الذي كان يحاصره، فعادت الروح إليه كما تعود الحياة إلى غصون زيتونة وهي تهتز فرحاً بما تحمله من موسم الزينون العارم، وقوله: (... تمسح العتم / عن نبض صوتي/ وتحمي سراجي) أي تجدّدت حياته التي بدّدت الظلام الذي كان يغلف صوته ويقصيه، وقوله: (نفخت اشتعال الأماني بمزمار طيني/ وأرقصتها.. خطوة، خطوة/ في دروبي) أي استطاع أن يؤجج اشتعال الأماني لديه ببذل أقصى ما يمكن من طاقته الطينية الممنوحة، وأخذها ينميها شيئاً فشيئاً في دروبه التي كان يسلكها، وعبر مراحل عمره، وقوله: (فضمت ظنوني/ وضاءت على جيدها/ نشوة من جمان.) أي واستطاعت حياته التي عادت إليه أن تحتضن ظنونه وتبدد الفاسد منها، بينما تضيء الصالح منها كما يضيء الحجر الكريم، وقوله: (تدلى على خصرها/ الياسمين) أي وازدادت ألقاء وبهاء بالياسمين الذي تدلى على خصرها الجميل.

 الفرع الخامس: (الانبعاث)

يقول الشاعر:

(تقمصت طفلاً صغيراً

فهذا كلامي ..

وهذي عظامي

.. صعدت الهوينى

إلى ساحة من نهاري

شفاهي ظلال لنوري

ووجهي غريب

وصوتي حزين .

*****

بظفري

حفرت البراري.. .وأطلعت فيها وزيراً

دمي بيرقٌ في مداري

وشعري لعهدي

-إذا جن ليلي-

أمين.

*****

على تلة من رمال

ركزت انكساري..

تعرى مسيري

من الوهم طبلي وزمري

وسري

بصدري..

وجيع دفين..)

يبين الشاعر في هذا الفرع انبعاث الشاعر طفلاً من جديد وعقدته (تقمصت طفلاً صغيراً)، وشعابه الرئيسة هي: (فهذا كلامي .. وهذي عظامي) و(ووجهي غريب / وصوتي حزين) و(دمي بيرقٌ في مداري) و(وشعري لعهدي -إذا جن ليلي- أمين.) و(وسري/ بصدري.. وجيع دفين..)، أما شعابه الثانويّة فهي: (صعدت الهوينى/ إلى ساحة من نهاري) و(شفاهي ظلال لنوري) و(بظفري/ حفرت البراري.. .وأطلعت فيها وزيراً) و(على تلة من رمال/ ركزت انكساري..) و(تعرى مسيري/ من الوهم طبلي وزمري).

في المعنى:

الأسلوب خبري في هذا الفرع، وفيه يصور الشاعر صورة انبعاث يوسف الذي أكله الذئب، لكنه يعيش المأساة من جديد ويعاني من الخيبة والانكسار، فقوله: (تقمصت طفلاً صغيراً/ فهذا كلامي .. وهذي عظامي) أي تقمص طفلاً صغيراً، ينطق الكلام الذي كان ينطقه نفسه، وله العظام نفسها، وقوله: (صعدت الهوينى إلى ساحة من نهاري) أي صعد بهدوء وتثاقل من ظلام الجب الذي ألقي فيه إلى ساحة فسيحة من النهار، وقوله: (شفاهي ظلال لنوري/ ووجهي غريب/ وصوتي حزين)، أي إن شفاهه تنطق بما تفيض روحه من علم ومعرفة ونور، لكن وجهه غريب عن الأهل والديار التي كان يسكنها، وصوته تشوبه بحّة من الحزن والألم والخيبة، وقوله: (بظفري/ حفرت البراري.. وأطلعت فيها وزيراً) أي حفر البراري بظفره كما يحفر الذئب، في البراري حتى أطلع فيها ما يؤازره ويعينه، وقوله: (دمي بيرقٌ في مداري/ وشعري لعهدي -إذا جن ليلي- أمين.) أي إن دمه يبقى كالراية خفاقة على مدار ذكره، أما ما يكتبه من الشعر في العهد الذي عاش فيه فهو صادق وأمين عندما يخيم الظلام ويخلو لنفسه فيه، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يمكن له أن يكون بشعره صادقاً وأميناً علناً وفي في وضح النهار، وقوله: (على تلة من رمال/ ركزت انكساري..) أي على تلّة من رمال الصحراء البعيدة غرز انكساره لكي يبقى علامة بارزة، وقوله: (تعرى مسيري) أي أصبح مكشوفاً بعد أن كان في الخبايا بصحبة الذئاب، وقوله: (من الوهم طبلي وزمري/ وسري/ بصدري.. وجيع دفين..) أي إن كل ما أظهره من الفرح والعزف على الطبل والزمر كان ضرباً من الوهم، لا حقيقة له، لأنه بقي يكتم سرّ انكساره وخيبته ومحنته بإخوته وأهله ومحيطه، ويدفن في صدره وجعه وألمه العميقين.

***

مفيد خنسه

 

 

في المثقف اليوم