قراءات نقدية

الشاعر راتب سكر يستعيد محنة يوسف الذي أكله الذئب (3-4) في المعنى العام:

مفيد خنسةإن المعاني التفصيلية التي تحملُها الجمل والتراكيب لا تحيط بمعاني القصيدة العميقة، كما لا تكفي لتوضيح دلالاتها الحاضرة، لأن الشاعر يتّكئ على الرمز، فيوسف يرمز إلى ذات الشاعر النقيّة البريئة الطاهرة، والذئاب رمز لنمط من البشر الذين لا يردعهم رادع، ولا يوزعهم وازع، نمط يسود ويطغى، يتعدون الحدود، يسرقون وينهبون ويسبون ويخطفون ويقتلون، وليس في قلوبهم رحمة، إنهم ذئاب بصور بشريّة، وقد شاءت الأقدار أن يكون الشاعر بين هذا النمط من البشر، الذين حاولوا أن يقضوا على أصالته ونبله وصفاء روحه، ومن أجل أن يتخلص من سطوتهم وهيمنتهم ولؤمهم، اضطر لمصاحبتهم، والسير معهم، حتى تبين لهم معاً، أن دورة الحياة، هي كدورة الطبيعة، يباسٌ فانبعاث فاخضرار، كالتينة اليابسة التي تتدلى غصونها بالذنوب، لكن الشاعر على الرغم من أمله الكبير بغدٍ مشرق، بقي يكابد من الحرقة والحسرة والحرمان والخيبة.

أولاً: المعاني والبيان والبديع:

المعاني:

(1) الأسلوب الخبري

نلاحظ أن الأسلوب الغالب في القصيدة هو الأسلوب الخبري، وعلى اعتبار أن الجملة الخبريّة هي كل جملة تقبل التصديق أو التكذيب، فإن كل جملة خبريّة يمكن اعتبارها قضيّة، والقصيدة تشكل شبكة من القضايا المركبة بواسطة أدوات الربط المعروفة: وعلى سبيل المثال لا الحصر، قوله: (يدي جمرة من حنين) جملة خبريّة، وقوله: (أداري مكاني) جملة خبريّة، وقوله: (أحبو على فسحةٍ) جملة خبريّة، وقوله: (أوجعت ضيق صدري)، ويصبح قوله: [((1) أداري مكاني) وَ((2) أحبو على فسحةٍ)، ((3) أوجعت ضيق صدري)]، تركيباً شعريّاً مؤلفاً من ثلاث جمل خبريّة، باستخدام أداة الربط (وَ) بين الجملتين الأوليين، اما الجملة الثالثة فيهي في محل جرّ صفة،... وهكذا يمكننا أن نفصل في القصيدة بشكل عام على هذا النحو مكتفياً بهذه الأمثلة، للإيجاز وعدم التكرار.

 (2) الأسلوب الإنشائي:

تكاد القصيدة أن تكون خالية من أسلوب الرجاء، إلاّ من قوله: (لعلي أرى إخوتي قادمين.) يفيد الرجاء، فهو إنشاء غير طلبي، وقوله: (يا رياح احمليني) إنشاء طلبي.

(3) أسلوب التوكيد:

يستخدم الشاعر في القصيدة أسلوب التوكيد، كقوله: (أن الذئاب انتهت/من طعامي) توكيدٌ ب(أنّ)، وقوله: (خطوةً، خطوةً) توكيد لفظي، وقوله: (أنا والذئاب انتبهنا، أنا والذئاب انتبهنا) توكيد لفظي، كما يستخدم التوكيد بأسلوب القصر، كقوله: (بساطاً من الطين/ مدّت حروفي ..) أسلوب قصر لتقديم ما حقه التأخير، وقوله: (لها في يديه/ صناديق عشق) أسلوب قصر لتقديم الخبر شبه الجملة (لها في يديه) على المبتدأ (صناديق).

البيان:

(1) التشبيه:

يعتبر التشبيه أساس علم البيان، والشاعر يعتمد في القصيدة على التشبيه البليغ، بسبب استخدامه للرموز الشعريّة، وحرصه على إبراز الصفات المشتركة بين المتشابهات، فقوله: (عصاه الأغاني) تشبيهٌ بليغ، وقوله: (ركابي.. سريري..) تشبيه بليغ، وقوله: (وعصف الرياح ازوراري..) تشبيه بليغ، وقوله: (شفاهي ظلال لنوري) تشبيه بليغ، وقوله: (دمي بيرقٌ في/ مداري) تشبيهٌ بليغ.

(2) الاستعارة: (درجة الحرية)

تمهيد:

هي الصيغة البيانية التي تمنح المعنى درجة الحرية، وأساسها التشبيه، لأنها تشبيه بليغ، حذف أحد طرفيه وهما: (المشبه والمشبه به)، والاستعارة هي السبيل إلى بيان المعنى بشكل مختلف عن معناهُ الأصلي، أي الاستعارة تحرر المعنى الأصلي الحقيقي وتجعله معنى مجازيّاً متعدد الدلالة، مما يزيد المعنى جمالاً وغنى وتنوّعاً، كلما كانت الاستعارة بليغة، وتغدو قبيحة إذا خلت من البلاغة، فإذا صرح بالمشبه به، سميت استعارة تصريحية، أما إذا حذف فيها المشبه به ورمز له بشيءٍ من لوازمه، سميّت استعارة مكنيّة.

التطبيق:

قوله: (فتحتُ البراري) استعارة، شبه الشاعر البراري بالبيت أو بالشيء الذي يفتح، ثم حذف المشبه به (البيت)، وأبقى ما يلازمه وهو (فتحتُ) فهي استعارة مكنية، وقوله: (يصلي) استعارة، شبّه الطير بالإنسان، فحذف المشبّه به الإنسان، وترك شيئاً من لوازمه وهي الصلاة، فهي استعارة مكنيّة، وقوله: (ليشفي كلامي) استعارة، وقوله: (غفا في يديه/ الأنين) استعارة، ويصبح التركيب: (يصلي .. /ليشفي كلامي/ معيناً بقايا وجودي/ بصمت عنيد/ غفا في يديه/ الأنين) صورة بيانية ثلاثيّة الأبعاد لأنها تتضمن ثلاث استعارات بآن واحد، وكما ذكرنا فالقصيدة التي تتسم بمثل هذه الصورة تدعى قصيدة عميقة، لأنها تمتلك ثلاث درجات من الحريّة، وقوله: (تدلت على غصنها كومة من ذنوب ..) استعارة، وقوله: (ظلمتي فوق/ ظهري) استعارة، وقوله: (وقلبي .. على بابها حارس) استعارة، وقوله: (تهجي خطى العابرين..) استعارة، ..... الخ.

 البديع: (المحسنات)

(1) المحسنات اللفظية:

الروي (السجع): يحافظ الشاعر في القصيدة على الروي وهو آخر متحرك منطوق في العروض، (حنين، سنين، قادمين، طين، أنين، طعين....) ويمكن اعتبار السجع نوعاً من الروي في قصيدة التفعيلة.

حسن التقسيم: تتسم القصيدة بحسن التقسيم، وهو نوع من المحسنات اللفظية التي تكسب القصيدة حسناً إضافيّاً، والمقصود هنا أن بناء القصيدة يعتمد على جملٍ قصيرة تامة المعنى بذاتها، منسجمة في معانيها بالتجاور في التركيب الشعري الواحد، وعلى سبيل المثال: قوله:

(هزمت احتضاري

فعادت حياتي

تهزّ الغصون ابتهاجاً

بزيتونها

.. تمسح العتم

عن نبض صوتي

وتحمي سراجي

.. نفخت اشتعال الأماني بمزمار طيني

وأرقصتها..

خطوة، خطوة

في دروبي

فضمت ظنوني

.. وضاءت على جيدها

نشوة من جمان.

تدلى على خصرها

الياسمين.)

وفي هذا المقطع نجد كيف أن الجمل قصيرة، مترادفة، منسجمة في سياق المعنى العام للتراكيب الشعرية فيه.

(2) المحسنات المعنويّة:

التورية:

في الفرع الثاني، قوله: (ولما تيقنت/ أن الذئاب انتهت/ من طعامي/ وحامت.. على ما تبقى/ من الوجد في صوت روحي) تورية، لأن المعنى القريب هو، أن الذئاب الحقيقيّة كانت قد أكلت زاده ُثم حامت عليه لتأكله، وهذا ما لا يقصده الشاعر إنما قصد المعنى البعيد، وهو: هؤلاء البشر الذين يشبهون الذئاب، عندما قطعوا سبل حصوله على ما يكفيه للعيش، وحالوا أن يقتلوا فيه الطهارة والنقاء والفطرة!!.

مراعاة النظير: (أي الجمع بين الشيء وما يناسبه في المعنى بشرط عدم التضاد)، كقوله: (فمي .. في نشيد الليالي وقلبي .. على بابها حارس/ كم رعى في سماء نجوما ..! / عصاه الأغاني/ لها في يديه/ صناديق عشق/ وللريح فيها/ عرين)، نلاحظ هنا مراعاة النظير، (فمي، نشيد)، (ليل، نجوم)، (رعى، عصاه)، (حارس، باب)، (الأغاني، عشق)، (صناديق، عرين)، والمعنى كما أن الحارس يحرس الأبواب، والراعي يهش على الماشية بالعصا، فإنه هو المغني والحارس والراعي والعاشق، فمه وقلبه ويداه.

الالتفات: (أي الانتقال من ضمير إلى ضمير بهدف لفت الانتباه)، قوله: (تدلّت على غصنها كومة من ذنوب ..جعلنا عناقيدها/ بردة/ واعدتنا بلوز وتين)، نلاحظ الانتقال من الضمير(نا) الدالة على الفاعلين في كلمة (جعلنا) إلى الضمير (ها) العائد إلى التينة، في الكلمة التالية لكلمة جعلنا، وهي عناقيدها، وهو أسلوب التفات، ثم الانتقال إلى الضمير في (واعدتنا) وهو أسلوب التفاتٍ أيضاً. وقوله: (هزمت احتضاري/ فعادت حياتي) أسلوب التفات أيضاً.

ثانياً: تقاطع الأزمنة:

الأزمنة في هذه القصيدة متعددة، وما من شك أن التضمين الذي يشير إليه عنوان القصيدة يستحضر القصة الشهيرة لسيرة سيدنا يوسف وما تتضمنه من محنٍ وأحداثٍ مثيرة وتحولات استثنائيّة في مسار حياة سيدنا يوسف، وأزمنة تلك الملحمة يمكن أن تلقي بظلالها على زمن القصيدة، لكن القصيدة تبين أن الشاعر يريد أن يُسقطَ سيرة سيدنا يوسف إسقاطاً معاصراً، ففي كلّ زمن من الأزمنة هناك الابن يوسف، البار الأمين، الصادق، وهناك الأخوة الحاسدون، الذين يكيدون له، وهناك الأب الصابر الذي لا حول له ولا قوة، فيفوض أمره لله متسلحاً بالصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا، وعنوان القصيدة، (يوسف الذي أكله الذئب) يشير أنه إذا لم يأكل الذئبُ يوسف في القصة الحقيقيّة القديمة، فإن الشاعر بإسقاطه المعاصر يبين أن يوسف ومن شابهه أكل الزمان عليهم وشرب، لأن الذئاب كثروا، وأساليب الأكل تنوعت وتعددت وعظمت، ويمكن توضيح أزمنة القصيدة على النحو التالي:

أولاً: زمن المتكلم: وهو زمن الشاعر متقمصاً شخصيّة يوسف الذي أكله الذئب، أو شخصيّة يوسف الذي قيل: إنه أكله الذئب، وهو زمن يمتد على كامل القصيدة، ففي الفرع الأول زمن المتكلم هو زمن مضارع، في إشارة إلى الماضي في صورة الحاضر، كما يشير إلى الحاضر في صورة الماضي، ويتجلى ذلك في قول الشاعر: (أداري، أحبو، أرى) أما في الفرع الثاني فزمن المتكلم يشير إلى الماضي، ويتجلى ذلك في قوله: (تيقنتُ، فتحتُ) وفي الفرع الثالث يتحول المتكلم من المفرد إلى الجماعة، (أنا الشاعر والذئاب) والزمن فيه يشير إلى الماضي، ويتجلى ذلك بقوله: (انتبهنا، واعدتنا، انتبهنا، عدونا)، مع بقاء زمن المفرد في الماضي، ويتجلى ذلك بالفعل: (صاحبتها) وفي الفرع الرابع يتجلى بالماضي لقوله: (هزمتُ، نفختُ، أرقصتها) وفي الفرع الخامس زمن المتكلم بصيغة المفرد ويتجلى بقوله: (تقمصتُ، صعدتُ، حفرتُ، أطلعتُ، ركزتُ).

 ثانياً: زمن الغائب:

وهذا الزمن لا ينفصل عن زمن المتكلم، وهي أزمنة الأفعال التي يكون الفاعل فيها ضمير الغائب، كقوله: (رماني، غطى، يصلّي، يهذي، انتهت، حامت، واعدتنا، ....الخ).

ثالثا: زمن المماثلة والتقابل:

ويقصد بهذا الزمن، زمن الشاعر المعاصر وما يقابله من زمن ملحمة يوسف، في الزمن المعاصر الذي يرمي الشاعر هو الدهر، وهو زمن ممتد، من الماضي البعيد إلى الحاضر الذي يمكن له أن يمتد في المستقبل، والشاعر الذي يمثل يوسف في الزمن المعاصر هو رمز الإنسان العفيف الطاهر النقي، وبالتالي، يمثل شخصيات متعددة، وقوله في التركيب الأول من الفرع الأول: (وغطى صراخي/ غبار السنين) يشير إلى الزمن الطويل الذي مضى على الشاعر معزولاً في غيهب الجب، وفي التركيب الثاني من الفرع الأول، يشير إلى فرض الأمر الواقع عليه حتى لم يبق له في محيط حركته الضيق سوى المداراة، على أمل قدوم إخوته، والأخوة هنا محاولة لاستحضار محنة يوسف الحقيقية، أما هنا فالإخوة بالنسبة للشاعر هم أنداده بالاستقامة والعفة والنقاء، أما الحركة الثالثة فيبين الشاعر خلالها الزمن المعنوي المتمثل بزمن الكتابة، في محاولة للنجاة مما هو فيه عن طريق الكتابة، والشاعر إذ يختم الفرع الأول بالقول: (راح يهذي زماني/ دمي في حديدي/ رهين.) ليشير أنه رهين القيود الحديديّة التي لا يمكنه الفكاك منها.

زمن المحنة والمواجهة:

وهذا الزمن يتجلى في الفرع الثاني من القصيدة، ويبدأ حين يتيقن الشاعر أن الذئاب تريد أن تأكله وتقضي عليه، وهذا الزمن لا يخلو من الإشارة إلى الزمن الحاضر، وهو الزمن الذي تحاول فيه الذئاب من البشر قتل الإنسانيّة وما تبقى من الوجد في الروح، ويستمر هذا الزمن إلى أن يتداخل مع الزمن الذي يقرر فيه أن يصاحب هذه الذئاب، في محاولة منه للنجاة منها، بعد أن تنبهوا إلى حقيقة دورة الحياة لشجرة التين، ويتجلى هذا الزمن في الفرع الثالث من القصيدة، وفيما أرى فإن مصاحبة الشاعر للذئاب هي إدانة صريحة لتواطؤ النخبة المثقفة من المجتمع مع الذئاب الآكلة للبشر، على الرغم من إقراره بأنه هزم احتضاره، وعادت إليه الحياة، (هزمت احتضاري/ فعادت حياتي) لأنه يختم القصيدة بالوهم، وهو وهم هذه النخبة أنها إذا انخرطت مع الذئاب، تصبح في مأمنٍ منها.

رابعاً: زمن المكونات المعنويّة:

وهو في القصيدة زمن (الحنين، الحزن، الخشوع، الأنين، الوجد، الظنون، الوهم، الوجع...الخ). 

خامساً: زمن المكونات الحسيّة:

وهو في القصيدة زمن (الجب، الإخوة، السواقي، الحديد، الذئاب، الرياح، التينة، الليالي، السماء، النجوم، ... الخ).

سادساً: زمن الموسيقا الشعرية:

وهي أزمنة تفعيلات البحر المتقارب (فعولن، فعولن، فعولن، فعولن) وجوازاتها وتكراراتها في أشطر القصيدة، حيث تطول وتقصر بحسب رؤية الشاعر في توزيع الجمل الشعرية وترتيبها.

سابعاً: الزمن الغائب: وهو الزمن الذي يختزن فيه الشاعر مكونات القصيدة، ويمتد حتى بدء الشاعر بإزالة السواد عن بياض الورق.

ثامناً: زمن الكتابة الشعريّة:

ويمتد هذا الزمن من الكلمات الأولى التي يخطها أو يسجلها على الورق أو على الشاشة وحتى اكتمالها واعتمادها ونشرها رسميّا للعامة بشكلها النهائي عبر وسيلة نشر، أو نشرها في مجموعة شعريّة.

تاسعاً: زمن اللغة: ويمثل أزمنة الأفعال التي تضمنتها القصيدة.

ويمكن القول باختصار: إن زمن القصيدة هو تقاطع أزمنتها الحسيّة والمعنويّة.

 ***

مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم