قراءات نقدية

الموقف الأولي أو البدئي في (أغاني المقموع) للقاص عبد الحسين العبيدي

طالب عمران المعموريإن الصيغة التجريبية في القصة القصيرة حالها حال الأجناس الأدبية الأخرى كانت تمردا فكرياً ورؤيوياً وجمالياً شاملاً وهي ضرورة حتمها جو الركود واستجابة لروح العصر، تحركت بآلية في البحث عن أفق قصصي جديد فانتهجت طريق المغامرة في مختلف أشكال التجريب، ففي اللغة حوار يجري بين المبدع ووسيلة الابداع، حضورها ومستوياتها وتشظياتها بوصفها بيتاً وجوديا للإنسان وبيتا فنيا لمكونات السرد القصصي او هو ارتياد للخيالي والمدهش (فنتازي)، الأقنعة والحلم والأسطورة والحث في الوجود الانساني وكذلك الرؤيا بتقنية التجديد والحداثة والتجريب في الموضوع والتي لمسناها في المجموعة القصصية (أغاني المقموع) الصادرة عن دار وتريات العراق - بابل في طبعتها الاولى للعام 2022.

جاءت العنونة استنباطية من أحد عناوين قصص المجموعة بلفظة اسمية ذات دلالة ايحائية، وهي بوابة العبور تمنح قارئها فتنة اكتشاف الكتاب وما يحمله من أسرار، تحتوي المجموعة على أربعة وعشرين نصاً، اتسمت مجموعته القصصية بتنوع عتباتها العنوانية واتسمت بعضها بلغة انزياحية مؤثرة التي تتحقق بدافع التجاوز والتمرد على اللغة التقريرية واليومية، لغة تتسم بالشفافية المشحونة بالتصوير فيها من التكثيف والتعدد الدلالي تستقطب المتلقي ويدفعه الفضول لقراءتها،فقد لا تبوح بعض العنونة بسرها بل تلمح ولا تصرح بما تحمله يدفع القارئ للدخول الى المتن الحكائي وبالتالي خاضع للتأويل ويتطلب جهدا للبحث عن علاقة العنوان بجسد النص وهو مسار تجريبي تسعى من خلالها للوصول الى التجديد والحداثة:

جمر بارد/نحيب الرجل الحجري/نخلة واشنطن/خيبة سقراط/ فراشات النار/ضحك كالبكاء/اغاني المقموع/

التداخل النصي:

اعتمد القاص تقنية التناص او التداخل النصي وهي ظاهرة تفاعل النصوص فيما بينها مجموعة من النصوص التقت فيما بينها بكيفيات مختلفة وهو اسلوب يركز على التعبير الذاتي وهذا ما لمسناه من العتبات التناصية قبل الدخول الى المجموعة، جعل من التناص عملية انتاجية التي تنشأ من تعالق النصوص:

استفتح القاص بتناصات استهلالية للمجموعة والتي تشكل نصوصاً موازية في المجموعة القصصية.. لما تكتسبه هذه النصوص المصاحبة للمتن من اهمية بالغة ووظائفها ودلالاتها، وعلاقتها بالمتن القصصي في اطار حوار خطابي المتن والهامش. وهو تداخل نصي مباشر ليؤدي وظيفة فنية او فكرية تنسجم مع السياق الحكائي وهذا ما يعده د. سعيد يقطين احد اشكال التداخل النصي1، الذي ظهر على شكل اقتباسات،استهل العبيدي مجموعته القصصية بعتبة تناصية من انجيل سومر/ خزعل الماجدي:

"وثيقة علنية

الانسان أغلى ما لدينا، وحتى الكلاب، أذا دخلوا مملكة بابل العظمى يُحرم قتلهم."

آشور بانيبال أحد ملوك بلاد الرافدين

"واجهة للعرض

لطالما أنبرى قادمون من مسالخ معتقداتهم أجازوا اباحة الموت باسم الرب، نيابة عن أقداره، فمرغوا تأريخ أيمانهم بالجثث.

لطالما نهض مهوسون بتعجيل القيامة السماوية كفراً بالأرض ومن عليها، فعجلوا بالنكسات للأبرياء."

سليم بركات / سبايا سنجار

يمهد لنا القاص لمجموعته بجملهِ الاستهلالية مضامين متون قصصه القصيرة بخلاصة مفادها انه جمع ما صدر من افعال للمهمشين الذين تعرضوا للقمع والقهر والتهميش..

 يتعايش متواصلا مع الاخرين ويشاركهم بما يمتلكه من خبرات ومعارف في زمنه الاجتماعي وينصهر معهم في الحياة وما يحمله من تصورات وافعال وسلوكيات،حيث ان الفعل الصادر من الانسان مهما كانت بساطته لا ينطلق من فراغ وانما له دوافع داخلية في توجيه الفهم والسلوك خاصة في فعل الكتابة.4157 عبد الامير العبيدي

خاتمة

"ندرج أدناه الاغاني التي كانت مبعثرة في أفواه المقموعين، بالشوارع والازقة، بالمقاهي والبيوت،تم جمعها كي لات نسى بتقادم الزمن، بقى الكثير في انتظار التوثيق. وقد اختيرت بطريقة، نزيهة، بدون ضغوط من أي جهة، حسب التقارير المعتمدة من منظمات دولية." ص5

وما تحققه النصوص الموازية من تفاعل نصي اي عندما تتفاعل النصوص الكاتب مع نصوص غيره من الكتاب وقد يأتي التداخل النصي غير مباشر يستنبط استنباطاً ويشمل تناص الافكار، تستحضر تناصاتها بروحها او بمعناها او بنسبتها الى اصحابها:

"لقد كان محقا دستوفسكي، انها جريمة بلا عقاب: قلت لايفان كاراموزوف وهو يرمقني باستغراب من على ناصية روحي" 2

يتضح من خلال تلك الاستهلالات ان شخصيات القاص العبيدي معظمهم من الفئات المقموعة والمهمشة، يتخذ شكلا واقعيا تختلط فيه الحياة اليومية المعاشة باستحضارات الماضي ولعل انعدام الامن والطمأنينة وواقع الرعب والخوف والملاحقة المخابراتية وحالة الفقر والعوز التي يستشعر بها أبطاله في ظل القمع السلطوي حيث يصور لنا القاص واقع القمع السياسي الذي يعيشه المجتمع في تلك الأنظمة

ومن مناصاته الأخرى هو الأهداء الذي جاء بصيغة إقرار الذي يعبر العبيدي عن امتنانه وشكره لأبيه الذي كان سببا في تنويره وانقاذه من أميته:

إقرار

بذلت غاية جهدك لتنقذني من أميتك.

شكرا لك، رشيد صالح خطاب العبيدي

أبي، جعلت من حسناتك.

ملامح التجريب الفني في النص القصصي..

 عبرت قصص العبيدي عن الذات المأزومة وهي تتعرض لحالة اختناق واستلاب الأنسان والقمع في ظل الانظمة الشمولية وعلاقة المواطن بالسلطة، تكاد قصصه تتشابه في مضمونها حول فكرة القمع، فان التيار التجريبي جاء عبر عملية مخاض نفسية وثقافية وسياسية.

الغائب:

اتخذ القاص نماذج قصصية اتخذت من تيمة الغائب (الاب الغائب بسبب الموت) موضوعا لها ودوها في سيرورة الأحداث، وهي واحدة من الوظائف التي حددها فلاديمير بروب في تحليله الوظائفي للقصة من استنتاج "ما سماه بالمثال الوظائفي، وهو البنية الشكلية الواحدة التي تولد هذا العدد غير المحدد من الحبكات ذات التراكيب والاشكال المختلفة"3  يتجلى ذلك في قصته (صندوق خشب):

"مع من تتكلم امي؟ من يختبأ في الدولاب، اسأل نفسي

لقاءات مدوية تتكرر كثيراً أغمض عينيّ وأحاول النوم مضطرباً، لست جاهزاً ليوم كهذا، افتح باب الدولاب خلسة لأرى، لا أحد سوى بدلة معلقة في كيس من النايلون، كان ابي يلبسها في المناسبات النادرة، احسها تربت على كتفي، تمسد على رأسي، ازحتها جانبا، فتحت أبواب الدولاب الاخرى، لا شيء سوى الملابس" ص17

" فالأب الغائب هنا عطاء ميثولوجي قديم، وصورة ترحل في اسماعنا ورؤانا الى مصاف الفكر الاسطوري الذي دار معظمه حول غياب الأب، ومن ثم البحث عنه بواسطة الابن فكانت القصص الى جانب تأكيد غياب الأب، تركز على حضور الصلة بالابن القادم"4

الفنتازيا:

وظف القاص في بعض قصصه تقنية الفنتازيا كونها تقنيه تهتم بالغرائبية وهو ما يخالف المألوف والمتبع والعجائبية تمثلت بالتقنية المشهدية الحلمية والكابوسية الذي تفتح آفاقاً تصويرية جديدة،أهمها نقل فعل القراءة من مستوى الواقعي الى المستوى التخيلي نراه ذلك جليا في قصته(مسامرة):

" يقف بمواجهتي، شبحان مستطيلا الشكل، ضخما الجثة، بضفيرتين طويلتين، وملامح غير مألوفة، كما لو أن رساماً للكاريكاتير رسمهما للمزاح، أثار ضحكي..ركلني أحدهم بقدم مفلطحة كقدم بعير

- لا تضحك، أيها السفيه.

لم يعد أمامي سوى الاذعان بدأت أناور لكسب ودهما." ص58

الموقف الاولي او البدئي:

فالموقف الاولي او البدئي، له اهمية كبيرة في تركيب الجوهر الحكائي للسرد القصصي، فهو المسؤول عن تهيئة الجو لحركة الفعل القصصي وبدء تنامي الاهداف فمن خلاله يتهيأ للقارئ من اجواء للقصة، ويعد بمثابة نواة الاستهلال

فقصة "على الرصيف" تبدأ بجملة استهلالية، تعلن عن الشخصية ويرسم السارد ملامحها ويحدد مكانها ومكانتها ويعمل على اعطاء صورة عن الاجواء الخاصة التي تعيشها:

"في الوقت الذي ضغط على بطنه ليكتم صرخاته، التي صارت قرقرقات فاضحة، تفاجأ بالقدم التي ارتقت الصندوق الظل الوارف الذي احتواه، حرضه على الاسراع. لم يحدث ان كان السيد سعيد، الذي قضى ثلاث عقود، هي كل حياته، متسرعاً في شيء، فهو لا يعير للزمن اي اهتمام،وحيداً على الرصيف، تدفعه الشمس الحارقة فيحتمي بمظلة الباص، والصندوق الذي أمامه وسيلته للتواصل مع الدنيا"ص8

وبهذا الاستهلال يحقق وظيفة جلب انتباه القارئ وشده الى الموضوع وهذه الوظيفة يعبر عنها (بروب) الموقف الاولي5.

***

طالب عمران المعموري

.................

المصادر

1- انفتاح النص الروائي، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،1989:10.

2- اغاني المقموع، عبد الحسين العبيدي، دار وتريات للطباعة النشر والتوزيع العراق، بابل،2022.

3- مورفولوجيا الحكاية الخرافية، فلادمير بروب، ترجمة: ابو بكر احمد قادر، النادي الادبي الثقافي بجدة،1989.

4- القاص والواقع، ياسين النصير، منشورات وزارة الاعلام، بغداد،1975.

5- مورفولوجيا الحكاية، نفس المصدر السابق

 

في المثقف اليوم