قراءات نقدية

دراسة نقدية لرواية "ثوب الأفعى" للأديب والشاعر الجزائري يوسف الباز بلغيث

علي فضيل العربيأزمة جيل الاستقلال ورمزية التأسيس لمواطنة حرّة وفاعلة في رواية " ثوب الأفعى " للروائي والشاعر الجزائري يوسف الباز بلغيث.

تعتبر رواية " ثوب الأفعى " للأديب والشاعر الجزائري يوسف الباز بلغيث، من نمط الروايات القصيرة. عدد صفحاتها 94 صفحة . وزع الكاتب أحداثها على عشرة فصول، وهي صادرة عن دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2019 م.

رصدت رواية " ثوب الأفعى " للأديب والشاعر، يوسف الباز بلغيث، مسيرة بطلها الفتى " عيّاش "، الذي يقضي بسبب لدغة أفعى، انخدع بملمس ثوبها البرّاق. ومن خلال سيرورة الأحداث وتطوّرها وامتدادها، تظهر للمتلقي شخصية البطل " عيّاش " الفريدة والمتميّزة عن أقرنه وعن أهل قريته. وتنكشف علاقاته بأسرته الضيّقة (جدّه وإخوته ووالديه)، وبمحيطه الذي يصارع الجهل والخرافة والشعوذة (الشيخ طرشون)، والفقر والحرمان والإهمال والاستبداد .

استهل الكاتب روايته " ثوب الأفعى " في الفصل الأول من لحظة موت الحفيد (عيّاش)، بتوظيف تقنيّة (الفلاش باك)، أو ما نسمّيه تقنية الاستحضار أو الخطف، بهذه العبارة " مازالت لحظات الاحتضار التي رافقت الأنفاس الأخيرة لموت الحفيد (عيّاش) عالقة بذاكرة جدّه، تقض مضجعه كل ليلة، وتأخذ بيده كلّ مرّة إلى العلاج المتهرّئة لتقدم له إسعافات تحتاج إلى إسعافات هي الأخرى " ص 11

ثم قدّم للقاريء صورة وصفية جاهزة للفتى عيّاش، " عيّاش فتى ينضح فكره فطنة وذكاء، لا يعرف الهزل إلى نفسه سبيلا، وإن اكتست به ردوده على أقرانه أو حتى على من هو أكبر سنا منه، فهي تتسم باللباقة والفكاهة والكياسة، كانت روحه ملآى بعبير البحث في حيثيات الحياة " ص 11.

وعندما نتأمّل هذين المقطعين السالفين، تتضح لنا معالم البيئة (عنصر الزمكانية) في الرواية. فعياش، هو ضحية حياة " يعيشها أهلها بصعوبة وأمل " ص 12. حياة ملؤها الحرمان المادي والنفسي والبؤس الطبقي وغياب العدالة الاجتماعية " كان لا يزال يقاوم اشتهاءه في نيل فرصة مماثلة لأهل الحيّ الراقي المجانب لحيّهم العتيق " ص 12،بالإضافة إلى الجهل والخرافة والشعوذة. " الجد مثل باقي أهل القرية البسطاء يتردد على المسمى طرشون كلما حزبه أمر ما حاملا إليه في كل زيارة ما يقدر عليه أملا في بركته.. حتى إنّه ذات زيارة له طلبًا لتميمة يربطها برأس عيّاش طردا لحكّة يعاني منها " ص 34، وأيضا يعاني أهل القرية من الخوف من الأرواح الشريرة الخفيّة التي تسكن البئر. بعدما استسلموا و" استكانوا لادّعاء الشيخ طرشون بأن الأرواح التي تموت بالقرب من الآبار إنّما هي أكباش فداء لسكّانها غير المرئيين الذين يجب الإنصياع لأوامرهم وتلبية طلباتهم " ص 35/36. والصورة هي رمز صارخ للعلاقة بين السلطة المستبِدة (بكسر الباء) والشعب المستبَد (بفتح الباء). فالمستبد (بكسر الباء) يسعى، دائما، إلى حرمان الرعيّة من نور العلم، لتظل الرعيّة قاصرة، عمياء، جاهلة لحقوقها، تخبط في ظلام الجهل والخرافة. كما وصفها الكواكبي في كتابه الشهير " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ". فالسلطة المستبدة (الأفعى) غالبا ما تلجأ وتتكيء على أفيون الشعوذة والخرافة، تحت غطاء لاهوتي، طوباويّ برّاق (الشيخ طرشون)، لتشغل الشعب (عيّاش / أهل القرية) عن حقوقه، وتزرع فيه مشاعر الخوف والهلع من المجهول. وتقمع كل مبادرة حقيقيّة للتغيير لا تخدم مصالحها ونفوذها واستبدادها.

كما رسم لنا المقطعان، أيضا، شخصية بطل الرواية (عيّاش) رسما جاهزا نفسيا وماديا. فهو فتى فقير ويتيم الأب "... بعد وفاة أبيه منذ عامين بالعمل إثر أزمة قلبية حادة " ص 11.، لكنّه ذكيّ وفطن. يحمل في كيانه جينات جيل طموح إلى التغيير والتقدم والعشق والصفاء، إضافة إلى علاقته الوطيدة بجدّه، وهو الذي يحمل بين جوانح ذاكرته تراث الحوش الواسع، المليء بالحكايات والمغامرات والثرثرات التي كان الفتى (عيّاش)، يغيب عنها بروحه، "... ولم يكن عيّاش حاضرا في كل ثرثرات الجدّ في تلك اللحظات بروحه " ص 13.

لقد انخدع الفتى عيّاش بثوب الافعى، و" لم يشعر بقرصة الأفعى، فالحرارة كانت تشعل أوعية الدم فيه، وشقاوته التي كانت تأخذ بعفويته وعدم اكتراثه بالخطر المحدق به سيقدمان للسم خدمة جليلة إلى حين وصوله القلب على طبق حار " ص 30.

لقد أثارت تفسيراته وتعليقاته في شتى أمور النقاشات تذمّرا لدى أخويه عبد الحكيم وسلافة،" بشهادة أخيه عبد الحكيم، الذي كان يتذمّر وأخته سلافة من تفسيراته وتعليقاته " ص 23 كما أثارت، أيضا، فضولا وشغفا وتعجّبا لدى ابن عمّه فواز، " المسافر منذ سنوات إلى أمريكا " ص 22.

تجسّد رواية " ثوب الأفعى " ظاهرة الاستبداد بوجهيه السياسي والاجتماعي، في جزائر ما بعد الاستقلال، بالإضافة إلى الصراع (التراجيدي / الدرامي) بين جيلين ؛ جيل مستلب، بيده زمام الحكم والتحكّم في دواليب سيرورة المجتمع، مازال لم يتخلّص (عاطفيا وسيكولوجيا وماديا) بعد، من ميوله وحنينه وإعجابه بالمدنية الغربية، ولعلّ تسمية المدرستين، باسمي (نابليون) و(بودلير)، وتكريم جوليا لمعلّمة اللغة الفرنسية بسوار ذهبيّ ثمين، لخير دليل على ذلك. " سُمع أنّها قلّدت أستاذة الفرنسية المحبوبة لدى عائلتها سوارا ذهبيّا مرصّعا باسمها، صُنع خصيصا لأجلها في باريس لقاء محبتها وتقديرا لخدماتها " ص 57. واحتقاره للذات الوطنية، وسخريته من الهويّة. " عندما دخل عيّاش قاعة التمرين لمحه الجميع بعين الاحتقار من خلال هندامه وتقاسيمه السمراء، كان هذا مدعاة للسخرية منه " 54. وجيل (عيّاش)، الذي يعاني من الضياع والتهميش، رغم محاولات إدماجه في نسق الاستيلاب الفكري والعاطفي. وما " جوليا " إلا نموذجا صارخا لجيل ممسوخ الهويّة، فعندما التحق عيّاش بالمجموعة الصوتية " التي تيقّن قبلها أنّ جوليا هي عنصر فاعل فيها، كيف لا ؟ وقد زودت المدرسة بكل لوازمها (آلات، معدات، بأجهزة الصوت، المكساج وكذا الهندام " ص 53 / 54 . " قيل له : هه، يا أنت، أبوك البواب (بن يطو) ليس هنا، وأظنّه في جناح المراحيض يلملم آخر أوساخنا بها " ص 54. جيل، يحاول بكل قواه النفسية والعقلية، المحافظة على قيّم الهويّة الوطنيّة ومبادئها النبيلة، ومقارعة دعاة المسخ والتبعية لفرنسا. استطاع عيّاش أن يوشح قميصه الأبيض " الذي لفّ خيطا أحمر على رقبته به، ليتم مراده من تشكيل ألوان الراية الوطنيّة " ص 56.

فرغم مرور خمسة عقود على الاستقلال، ما زالت فرنسا الاستعماريّة، وبمساعدة من أذنابها وعملائها وعرابيها في الجزائر وفرنسا، تحاول القضاء على التيار الوطني الحرّ، وتسعى إلى زرع الفتن بين أبناء الشعب الواحد، وإثارة النزعات العرقية واللغوية والجهويّة، تحت مظلة الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان. وكأنّها نسيت، بل تناست جرائمها الفظيعة ضد الإنسانية منذ وطأت نعال مجرميها أرض الجزائر الطيّبة.

من المتعارف عليه، أنّ اللغة في الفن الروائي ذات مستويات عدّة. فمن الكتاب الروائيين من يحرص على توظيف الكلمة والجمل الفصيحة دون الخروج عنها قيد أنملة، ومنهم من يحبّذ (اللغة الوسطى)، وهي تزاوج بين الفصحى والعامية (الدارجة) بدرجات متفاوتة . ومنهم من اتّجه إلى توطين العامية) الدارجة) في أعماله الروائية، بحجة تحقيق مبدأ الواقعية في النص الروائي.4180 ثوب الافعى يوسف الباز

أمّا لغة الروائي يوسف الباز بلغيث في هذه الرواية، فلم تخرج عن الصنف الأول. فقد ذكرتني بلغة كتاب القصة الكلاسيكيين، من أمثال محمود تيمور، وموسى صبري وطه حسين. فقد حرص الكاتب يوسف الباز بلغيث على توظيف لغة فصحى، خالية من العامية، التي يدعو لها بعض (فرسان) الفن القصصي المعاصر، بحجة تمثيل المذهب الواقعي. كما جاءت لغته مثالية ومألوفة وإبداعية. مستغلا إمكاناتها وطاقاتها الكامنة، بغرض إثارة المتلقي وشدّ انتباهه وإيقاظ مخيّلته لاكتشاف مكنونات المعاني.

وأمام هذه الرواية أقف، على القدرة التي تمتلكها لغة الرمز على رصد خيبات وخسارات جيل كامل. وعلى قدرة الروائي يوسف الباز بلغيث على عقد هذه المقاربة والثنائية ضمن معادلة الجهل والخرافة والخديعة والموت. جيل طوقته الشعارات البرّاقة (كثوب الأفعى) والوعود الجوفاء. جيل عتقه آباؤه وأجداده الشهداء والمجاهدون، من نير العبودية والاحتلال البغيض، وأخذوا له الحريّة بقوة الحديد والنار والدماء، ليجد نفسه محكوما بأساليب سلطويّة، غير عادلة . فالسجون والمعتقلات التي زجّ فيها المحتل الفرنسي المجاهدين ونكّل بهم، وجرّعهم ويلات التعذيب، هي نفسها، التي زُجّ فيها كلّ من عارض بسلميّة واحتّج وعبر عن رأيه الحرّ.

و هل يُعقل أن يتسلّط المواطن على أخيه المواطن، ويذيقه عذابا نفسيا وبدنيا، لمجرد الاختلاف في الرأي. رغم أنّ فكرة الوطن والمواطنة هي القاسم المشترك في الضمير الجمعي. الوطن ليس ملكا لأحد، أو لجماعة. الوطن هو ملك الجميع، يحكمه عقد اجتماعيّ لا لبس فيه، أساسه العدل. أليس العدل هو أساس الملك. والملك لا يعني التملّك بوسائل الاستبداد والقهر والتسلّط، بل بالحريّة وصون الحقوق وأداء الواجبات. لكن " الأفعى "، لم تترك لعياش، مجالا للحريّة والكرامة. لعبت لغة الرمز عند الروائي دور الرحى التي لا تجعجع في فراغ. بل لعبت دور التحدّي والمقاومة والتطلّع إلى التحرّر من التبعية لعدو الأمس، والعودة إلى الذات الوطنية، والاعتصام بالهويّة. فموت " عيّاش " التراجيدي هو انبعاث جديد، كانبعاث العنقاء من تحت الرماد. الموت يهب حياة جديدة، وفي مسارات خالدة. فعياش، تحوّل إلى فكرة ملهمة، والأفكار لا تموت، ولو مات أصحابها. بل تصير رموزا في مملكة اللغة.

قيل: الأسلوب، هو الكاتب نفسه. وهذه مقولة صادقة ومنطقيّة. وأعني به (النهج في التفكير والتعبير) . ويختلف الأسلوب من كاتب لآخر، من حيث الوضوح أو الغموض أو الاعتماد على العاطفة أكثر من العقل أو العكس أو التهكّم... إلخ .

أما أسلوب رواية " ثوب الأفعى " للروائي يوسف الباز بلغيث، فقد جاء، مرآة عاكسة، لمدى قدرة الكاتب على تطويع الألفاظ، وجعلها خادمة طيّعة للمعاني. أسلوب الكاتب ينم عن قدرة فائقة، وعمّا يملكه الكاتب من زاد لغويّ فصيح، ومن مخيال شاعريّ. زاخر بالإيحاء، والصور العميقة . كون الأديب الباز يجمع بين الشعر والنثر (شاعر وناثر). وقد وصف إمام الأدب في العصر العباسي وصاحب البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، المكنّى بالجاحظ، الأسلوب قائلا: " المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ"

اختار الروائي يوسف الباز بلغيث، في روايته "ثوب الأفعى" الأفعى رمزا دالا على الطبيعة الشريرة في المجتمع، بسبب خطورة سمّها ولدغها وحركاتها الملتويّة. رغم أن صورة الأفعى، عند القدماء، تستحضر، قوى الحياة والموت معا، والانبعاث والخصب، والمعرفة والحكمة في شكل سحريّ.

فالبطل " عياش "، الذي يرمز إلى الطبيعة الخيّرة، والوعي والحكمة والنبوغ المبكّر والقدرة على النفاذ ببصيرته إلى أعماق الأشياء، يواجه مجتمعا ينكر عليه تلك القدرات، ويحاول، بكل الوسائل، تعطيلها أو اعتقالها أو اغتيالها. وهو، لعمري، صراع محتدم ما بين الحكمة والمعرفة والفطنة من جهة الجهل والخرافة والسذاجة من جهة ثانية. إنّها إزدواجية الإيجاب والسلب، القوة الخيّرة والقوى الشريرة، والخصب والطلمة والليل، كما  وردت عند القدماء المصريين، من خلال الرمز الشائع جدا لحرف (زاد)، الوارد في الخط الهيروغليفي، z)

الصراع بين القوى الخيّرة والقوى الشريرة في المجتمعات الإنسانية، منذ بداية البشريّة، ويحتدم هذا الصراع أكثر دراميّة وعنف في المجتمعات المتخلّفة ذهنيا وفكريّا وأخلاقيّا وإنسانيّا. تلك المجتمعات التي تسودها الخرافة، وتتحكم في دواليب يوميّاتها الأساطير، وتطفو على سطحها الجيّف الفكريّة، بينما يكون فيها أهل العلم والمعرفة غرباء اليد والوجه واللسان. وهذا ظاهر بجلاء في الرواية. عيّاش، الذي يصارع من أجل البقاء والأفعى المخادعة بملمس ثوبها (جلدها) الأملس البرّاق، والمحيط الغارق في وحل الخرافة والأسطورة.

لقد استغل الكاتب الروائي يوسف الباز بلغيث، الأفعى (الخديعة)، رمزا للموت والشر المطلق. فقد وردت، أيضا، هذه الرمزية في التراث الديني التوحيدي، وجاء في سفر التكوين، وفي الإصحاح الثالث من التوراة، ما نُسب إلى الأفعى من دور سلبي في إغواء حواء كي تأكل من شجرة التفّاح، ثم أغوت حواء آدم ليأكل منها، وهو فكرة خرافية لا تستند إلى دليل ديني أو عقلي " لأنّك - والكلام هنا موجّه للأفعى – فعلت هذا، فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البر، على بطنك تزحفين وترابا تأكلين طول أيام حياتك، بينك وبين المرأة أقيم عداوة، وبين نسلك ونسلها، فهو يترقّب منك الرأس وأنت تترقبين منه العقب " . وهنا نجد، أن ثوب الأفعى، الذي أغرى، ببريقه وملمسه، البطل عيّاش، فذهب ضحية للخديعة. لكنّه كان يجهل أنّ وراء ذلك اللمس والبريق شر وموت. هنا تظهر قدرة الكاتب على توظيف الرمز الطبيعي بشكل دراميّ ومأساوي، لا بشكله الرومانسي.

و قد كانت الأساطير القديمة منجما خصبا ورئيسيا للرمز، ولم ينشأ الأدب الرمزي الحديث، في الغرب، وفي فرنسا بالخصوص، في فراغ. فإسهامات المصريين القدماء والصوفيين في عصر الإسلام وقبله، في الهند واليونان جليّة. وخير شاهد على ذلك ما ورد في شعرهم الملحمي.

و المتتبع لأحداث رواية " ثوب الأفعى " للأديب الشاعر، يوسف الباز بلغيث، أنّ هذا الأخير، قد اتّخذ الرمز قناعا، مثلما كان يفعل بعض الشعراء الجاهليين، الذين اتّخذوا الأطلال رموزا لمكان محبوباتهم. لأن الأعراف القبلية، كانت تحرّم عليهم ذكر أسماء محبوباتهم في القصيدة، وكان كل شاعر يذكر اسم محبوبته في قصيدته أو معلّقته، يعتبر انتهاكا للعرف ومسّا بشرف القبيلة. ورمزية " الأفعى " في هذه الرواية تعبّر عن أفكار وعواطف، بشكل خفيّ، من خلال خلق توقّعات لماهية هذه الأفكار والعواطف.

فشخصية بطل الرواية " عيّاش" مثيرة للجدل، فبقدر ما تبدو غامضة في سلوكياتها وتصرّفاتها وعلاقاتها بمحيطها البشري والطبيعي (من الطبيعة)، فهي تفتح أمام المتلقي آفاقا واسعة لتقبّل التأويل والتفاسير المختلفة. كي يصبح القارئء عنصرا مشاركا للمبدع في روايته.

و لعل من أجمل ما في رواية " ثوب الأفعى " أسلوبها السهل الممتنع، وهو أسلوب يدين المبدعون بالفضل إلى صاحب رائعتي كليلة ودمنة والأدب الكبير والأدب الصغير؛ عبد الله ابن المقفع وعميد الأدب العربي الحديث، الدكتور طه حسين (رحمهما الله).

و أسلوب هذه الرواية يعكس فكر صاحبها وشخصيته، وكذلك الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لعصر الكاتب. فرواية " ثوب الأفعى " عبّرت عن العقل والعاطفة، وأدّت دور المرآة العاكسة للواقع المعيش. من بوابة تقنية الرمز، الذي أضفى عليها لونا من جمالية التعبير. " وزاد العبقريّ هو الذي يميّز الخيط الرفيع في هذه المعادلة، حينئذ سنقف جميعا أمام حقيقة المعنى بجرأة عيّاش، وبثقة الأفعى في نيل فرصة أكبر للعيش... والنجاة " ص 87.

ومن المقاطع الواردة في الرواية، والدالة على أنّ ثمّة علاقة طردية بين الرمز والحالة النفسية للروائي. وهو بمثابة إشارة أو إيحاء يتخفّي خلفها، لايصال أفكاره بشكل غير مباشر." والعجيب أن عياش قد تمكّن من الحصول على جلد الأفعى، التي بدأت تنسلخ عنه دون أن يتأذى، وقد كان الجلد بين يديه لامعا براقا بطول متر ونصف " ص 62/63، وهو إشارة إلى الخديعة التي تعرّض لها جيل ما بعد الاستقلال. فقد أوصلته أوهام ومخططات ومغامرات السياسيين الفاشلين إلى طريق مسدود. ولم تكن فرنسا وعملاؤها في الداخل والخارج بمنأى عمّا حدث في الجزائر من أزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية. بل إن فرنسا، بمحاولات فرض سلطتها الأبوية على الجزائر، هي الكابح الرئيسي لكل إصلاح وتقدّم في الجزائر . لقد لاحظ عيّاش في فرقة جوليا، ابنة المحامي الكبير المشهور في باريس، والتي أسماها أبوها " على اسم عشيقته، التي قضت إثر حادث مرور خطير " ص 53، أن ".. الشريط الذهبي المطوّق لخصر كل فتاة في الفرقة، الموشح بشراشف يحمل ألوان علم فرنسا هو من بنات أفكارها " ص 55 .

هكذا إذن، اكتشف عيّاش معادلة التي أرقّت جيله. معادلة مبنيّة على حقائق صادمة، وتديرها أفعى ماكرة، رأسها في باريس وذيلها في الجزائر. ممّا جعلته يعيش في زمن غير زمانه. وفي جلباب غير جلبابه. " ما أصعب أن يعيش الواحد تحت جبّة أكبر منه، وهو يعتقد بأنّها على مقاسه، وما أتعس الذين يرونه كذلك " ص 56. ويحيا في واقع لا يسع أحلامه وطموحاته. " عيّاش الذي ألف العزلة حفظ قاعدة مهمة أوحت إليه بها تلك الخلوات الروحانية التي كانت تكتنفه من حين لآخر. " ص54.

ما أجمل أن يكون الرمز متخفيّا في اللغة، وبين جوانح النص الإبداعي. لا لأنّه جبان وخائف من السفور. بل لأنّ قوّته كامنة في المفاجأة والدهشة حين يتوالد كالخلايا، ويتّحد فيه عنصر الوعي بالذات بعنصر الواقع المعيش، ويتفاعلان في بوتقة الرفض المطلق والصراع المحتدم بين متناقضين ؛ الأمل والألم، الموت والحياة، الحقيقة والخرافة، المقاومة والاستبداد، الحريّة والعبودية.

لم يختر الكاتب اسم البطل (عيّاش) بصيغة المبالغة (فعّال)، الدالة على الكثرة والمبالغة اعتباطا، بل فيه من الإيحاء الكثير ؛ فهو يوحي بالإصرار على مقارعة الشر والسلبية وظلمة الليل. والتمسّك بالخصب والخير والإيجابية وحب الحياة الكريمة. جاء على لسان شبح عيّاش : " أنا لا يموت أمثالي وإن قُبرنا، وأمثالك – وما أكثرهم – ميّتون وهم أحياء، يمشون، ويأكلون...و يشربون " ص 83. وهي إشارة واضحة لصراع بين أصحاب الضمائر الحيّة، الواعية، من ذوي المباديء والقيّم التبيلة، والذين سيثورون يوما، وإن خبت، وبين الذين باعوا ضمائرهم لبطونهم وشهواتهم ورغباتهم. أولئك الذين استولوا على ثروات الوطن، من وراء شعارات الوطنيّة والشرعية الثوريّة ولغة الخشب المتحجّر. " عيّاش " لم يمت، ولن يموت، مادامت الشمس تستيقظ وتشرق كل يوم، دون انتظار لأحد من النائمين أو القابعين في ظلمة أقبيتهم، ينتظرون السراب." عيّاش "، هو عصفور الفجر التي يعرف طعم الشروق ولذته ومعناه، حين يعزف له بقيثارته سنفونية الميلاد، ويترنّم بألحان الخلود.

و عيّاش هو هذا الجيل الحالم (جيل الاستقلال)، والمتحفّز إلى حياة أفضل. لكنّ السلطة الحاكمة (الأفعى) بسياساتها الفاشلة، الخدّاعة بشعاراتها البرّاقة والزائفة كثوب الأفعى، هي التي كبحت طموحاته، واغتالت أحلامه المشروعة . بحجة انعدام الخبرة والتجربة. كما جاء على لسان، سلافة، في وصف أخيها عيّاش، أثناء حوارها مع أخيها عبد الحكيم " فلطالما اعتقدنا – أنا وانت - بأنّه طفل طائش، شقيّ، لا يهتم بالدراسة ولا يحفل بغير اللعب والشقاوة " ص 78.

لقد قضى عيّاش ردها من حياته، " ملخّصا لهفته في البحث عن آخر خيط لنشوته التي أضنته " ص 70. كي يعلّل المهجة وتقول بما قاله خبير التنمية البشرية (إبراهيم الفقي) رحمه الله ." نصف وجبة لن تشبع جوعك.. ونصف الطريق لن يوصلك إلى أيّ مكان " ص 70. والنصف في حياة الشعوب نقصان وتأجيل وتقصير وتسويف وإهدار للوقت وإرهاق للأحلام وإضعاف لقدرات الرغبة ومنح فرصة للملل كي يتمطى بكلكله وإعجازه في فناء النفس كليل امريء القيس. هو، أيضا، اغتيال للذة الاستمتاع بلحظات الانعتاق من عالم أعور، عار من القيّم. عالم تحكمه فوضى الحواس وفوضى الأشياء. "عيّاش " هذا الفتى المقاوم لواقعه المعيش، حدث له ما حدث لبرميثيوس، الذي سرق النار الإلهية المقدّسة من جبل الأولمب، فحكم عليه زوس، ملك الآلهة، بأن يُقيّد على جبل الأطلس أو القوقاز، ويترك هناك حتى تأكل من كبده النسور. ما أشبه عيّاش ببرميثيوس. كلاهما دفع ثمن رفضه ومقاومته لقوى الشر والإفناء.

أجل، إنّه أمل التغيير الشامل، لا الجزئي. الذي يحلم به جيل الاستقلال. لا بد لهذا الجيل أن يقتل " الأفعى " من رأسها، لا من ذيلها. حتى ينجز مهمة الانتقال السلمي من مرحلة الاستبداد والطوباوية السياسية والقبلية، إلى مرحلة الحريّة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهي رسالة الروائي إلى القاريء العادي، والقاريء الناقد، الذي وصفه الدكتور زكي نجيب محمود، بأنّه قارئ القارئ. وأشار إلى أنّ القراء (يتفاوتون فيما يستخرجون من الكلمات المرقومة أمامهم) 1، خاصة إذا (ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية)، حينما يصعد القارئ الناقد الحصيف إلى ما وراء الأحداث السطحية (من أبعاد نفسية ورمزية)2

و بعد، فبقدر ما كانت فكرة الكاتب في معماره الروائي " ثوب الأفعى " تنم عن وعي ناضج وإخلاص للهويّة وانتماء للواقع المعيش، وصرخة حرّ في وجه الاستبداد، كان الرمز أيضا، مذهلا، ساحرا، لاذعا. رافضا الاستسلام لموت غير موجود في لغة الرمز، التي كلّما سبرنا أغوارها العميقة، أذهلتنا أكثر فأكثر.

***

بقلم الأستاذ: علي فضيل العربي

سيدي عكاشة / الشلف

 04 / 03 / 2021 م

..............................

* 1/ 2 مقال (الناقد قارئ القارئ) من كتاب - في فلسفة النقد - ص 109 – د / زكي نجيب محمود- دار الشروق – ط / 2 – 1403 ه / 1983 م.

تحكي الرواية عن شغف كل أنوثة لتحقيق أحلامها كل على شاكلتها... فالبطلة زهراء لها شغف الحرف وأن تصبح كاتبة في مجتمع ذكوري تحالف عليها مع نساء غبيات معميات بذاك القانون.. وأيضا تعددت رغبات الأنوثة في كثير من الشخصيات وتعدد أسلوب القتل والمنع فمنهن من تعاني حرمان الحب.. حرمان الوطنية.. وحرمان الدراسة..الحرمان حتى من الأحلام...ليس هذا فقط بل تجد في الرواية نماذج عن أخريات ظللن طريقهن..فمنهن من صارت مستبدة.. وأخرى خاضعة وأخرى في الهوى ضائعة.

البطلة زهراء ترافق الحرف وجعا.. تصاحب الكتابة حلما..تتخذ حب قلبها بطالا..و أملا لينتشلها من حطام أنوثتها بسبب مجتمع الفكر الشرقي..اذ تساقطت أوراقها الواحدة تلو الأخرى من أب يتمها... وخال سبب لها عقدة ذات طفولة.. وزوج أم كتم أنفاس أحلامها.. وعم لا مبال.. وعاشق يلاحق جسدها... ومجرم كان القطرة التي أفاضت نهاية رغبتها في المقاومة....

 

في المثقف اليوم