قراءات نقدية

حاول سبر أغوار الذات البشرية.. يحيى السماوي شاعر القلق والإنسانية

الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي، يكتب الشعر، وهو مقتنع بمدى قدرته على اكتشاف المنطقة الغامضة من الذات الإنسانية؛ وكأننا به يدرك تشظي الذات العربية، بين منطق العبث الفكري ومنطق التيه، في الحياة والسلوك والتعبير والموقف؛ فقصيدته تعلن على الملأ حيرتها من واقع الإنسان العربي، وخوفها على مستقبله، وعلى عدم حفاظه على رمزيته الثقافية والاجتماعية والدينية، المعبرة عن ثقافة مجتمعه العراقي بالدرجة الأولى، حيث يستهلك جزءاً من الوعي الجمعي، الذي يعبر عنه أدبياً وشعرياً، مستنفداً في ذلك طاقته الإبداعية في قصيدة شعرية باذخة، ومعبرة عن الذات المتشظية، وعن الجماعة الشعبية التي ينطق عنها ويكتب حولها.

يتعامل الشاعر يحيى السماوي مع القصيدة الشعرية؛ بزادٍ غني من المصطلحات والتعابير المثيرة، والقادرة على إثارة الجدل لدى متلقيه، وعلى إنارة جوانب أساسية في الواقع العربي اليوم بالدرجة الأولى؛ انطلاقاً من تحديده لمعايير الحداثة الشعرية، وتفريعاتها المختلفة، ومن تنوع الكتابة الشعرية القائمة على التنوع والاختلاف،من دواوينه

 

بينه وبين الشعراء العرب الآخرين، حيث أعلن أن الحداثة الشعرية لديه، تقوم على تجديد البنية الداخلية للقصيدة وليس شكلها بالأساس، من خلال الحفاظ على المبادئ الأساسية للشعر، وثوابته المتعارف عليها.. فالشعر عنده كما يقول: (ليس ترفاً لفظياً بقدر كونه قنديلاً لإضاءة المعتم، وسلاحاً لجمال الحق ضد قبح الباطل). وكأننا به هنا يؤكد أهمية الشعر التثقيفية والاجتماعية والتوعوية، باعتباره يبني مجتمعاً قارئاً واعياً بوجوده، وبحقيقة استمراره في هذا الوجود؛ فالشعر بالنسبة إليه سلاح قوي لمحاربة الجهل، والأمية الشعورية، والإحساس المتبلد والثقافة الرجعية والطاقة السلبية.

يدخل الشاعر يحيى السماوي بالقارئ؛ إلى عوالم من القلق ومستلزماته وتجلياته المنطقية والعبثية، التي تحتويه، من أجل خلق فسحة من الأمل، تخرجه منها معافىً سليماً من الحزن، والشعور بالنقص والدونية والخوف من المستقبل؛ لأنه شاعر يؤمن بقدرة الشعر، على إنقاذ الإنسان من السقوط والضياع، والتيه في عالم ملؤه الحقد والكراهية، شريطة التحلي بالذكاء اللازم والتجربة التي تؤمن بالواقعية والحقائق كما هي.

لا يخاف (السماوي) من قول الحق، والتعبير عنه بالقصيدة المتفجرة القلقة، التي تؤسس لثقافة النقد والموقف، ومواجهة القبح والفساد والرذيلة والجريمة والخيانة بكل أشكالها. لا يخاف من قول كل شيء عن كل شيء، وكل كلام يمكنه أن يكون خلاصة لمواجهة الابتذال، في السلوك والموقف والرأي؛ لأنه يدرك المعنى من الشعر، ومن الوجود حدّ الوصول إلى الاكتمال الشعري. فعندما يعبر عن رأيه تجاه قضية، أو موقف، أو أي شيء آخر له علاقة بوطنه العراق، فإنه لا يتراجع إلى الوراء ويختبئ تحت مظلة معينة، لأنه شاعر حقيقي لا يخاف في الصدح بالقول: من دواوينه

أنا جرحٌ يسيرُ على دروب ٍ

يتوهُ بها المُصيبُ عن الصّواب ِ

ولولا خشيتي من سوء ظن ٍ

وما سيُقال عن فقدي صوابي

لقلتُ أحنُّ يا بغدادُ حتى

ولو لصدى طنين  من ذبابِ

لا يهم لديه كشاعر، أن يفهم شعره رؤساء القوم، لأنه يعرف أنهم مجرد معاول لتدمير ما بقي، وما فضل من إنسانية ومن قيم داخل العراق، الأبي والعصي على التدجين. ولا يهمه أكثر ما يقوله الآخرون عنه، لأن الشاعر دائماً ما يخلق أعداءه بنفسه، دون حاجة إلى حساد أو حاقدين ليفعلوا ذلك ضده؛ بل لا يهمه أن يقول عنه النقاد؛ ما يرغبه الشعراء الآخرون أن يتلقوه منهم، لأنه شاعر حرّ، يحب أن يترك صدًى وأثراً لدى البسطاء، بقدر ما يتركه لدى النقاد والنخب.

يا بنتَ سبعين التي عكّازها

صدري... وأحداقي لها فانوسُ

نخرَ الأسى قلبي... فما لعراقنا

في كلّ يوم ٍ (داحسٌ) و(بسوسُ)؟

من دواوينه

تشعر وأنت تقرأ شعره بحنين إلى الماضي، برغم حداثة قصيدته في البناء والمعنى والدلالة، وحتى في اللغة الشعرية؛ تشعر وكأنك في عالم ملؤه الخوف والرعب والظلام، والتشتت والضياع والغياب، والأفول وراء الشمس.. تشعر وأنت تقرأ قصيدته الطالعة من أنفاسه وأحشائه، والخارجة من باطنه، ومن شعوره المتدفق بالحنان على زمن معين، وإلى واقع مختلف، كأنك إنسان جديد يعيد تشكيل عالمه الخاص، حيث تتشكل القصيدة وفق رؤية واضحة واعية بالتجديد الشعري، في اللغة والأسلوب والشكل والمضمون.

في قصيدة يحيى السماوي؛ تعبير واضح عن القلق والوجود.. قلق واضح من الواقع والحاضر والمستقبل؛ قلق من الناس ومن الوجود، ومن كل ما يمت إلى الواقع القميء بصلة؛ فهو الشاعر المقاوم لكل غزو وظلم واستبداد وطغيان؛ وهو الشاعر المدافع عن إنسانية الإنسان، برغم جبروته في بعض الأحيان، ومحاولته الخروج عن طبيعته في بعض المواقف؛ وهو الشاعر الذي يؤمن بوجود نوعية من الناس، الذين لا يعرفون معنى الإنسانية:

(أيّاً كانتْ مآسِي الغدْ/ أيّاً كانَ غضَبُ الأَعاصِيرِ/ البَراكِينِ... الطوفَاناتِ/ الزّلازِلِ... والأوْبِئةِ/ فَأجْيالُ الغَدِ لا بدّ أنْ تَكونَ أحسَن حالاً/ مادَامَ أنَّ الغدَ/ لنْ يَشهَدَ ولادَةَ وحْشٍ جدِيدْ).

يقول عنه الناقد حسين سرمك حسن، في مقال له: (إنه شاعر مختلف لا تتعادل كفّتا ميزان (الربح) الفردي، و(الخسارة) الجماعية عنده أبداً، بحيث عندما ننظر إلى كفة واحدة من ميزان الوجود، تهوي صامتة دون أن تثير شيئاً وبمهانة مزدوجة. وما يضاعفها؛ هو كون الغزاة يعطون الشاعر المستلب قلماً وورقة ليكتب عن الحرية، وهذا أمر مستحيل مع سلب حرية الوطن الأم، حتى لو كان الابن قد تخلص من القبضة المميتة، وبهذا لن يكون له أي دور في ترتيب عملية الاختيار، فنحن هنا، أمام خيار واحد ذي شقّين، أحلاهما حنظل: مهانة تبعية الوشاية المقيتة لمصلحة المحتل، التي لن تكون عودة إلى مهمة محتقرة أفرزها الطغيان، والتي كان شرطها الابتعاد عن دائرة التسلط والغناء لها، بل الكتابة الغادرة عمّن يشكلون ضمانة بقاء البلاد.. بقاء وحدتها الاجتماعية وتماسكها الوجداني، ورهافتها الإنسانية وخصوصيتها الوطنية، وحساسيتها الحياتية من خلال حرص روحهم الانتقادية). من دواوينه

إن استعارة الذات عند (السماوي)، تبتعد كثيراً في تحديد المناطق المحتملة لإسقاطها، واستبدالها بأخرى، حيث تتجلى استعارته هذه في كل ما يستدعيه: من أساطير بابلية وآشورية وعراقية قديمة، قادرة على إيجاد معنى جديد لما هو حادث في مجتمعه العراقي، منذ تشكل الدولة العراقية الحديثة. إنه يغوص في عوالم الناس وحياتهم ومشاعرهم، من أجل إخراجهم من خوفهم وصمتهم المطبق، الذي أنتج أشكالاً متعددة من التحكم المطلق، والفكر القروسطي.. فها هو يعبر عن كل ذلك؛ بشكل احترافي وحكمة بليغة في الوعي بالأشياء والواقع، بل بلغة بديلة تلغي كل تعبير بسيط أو نفاق، أو خوف محتمل:

(أجْزمُ أنَّ الناعُورَ/ عرَاقيّ الوِلادَةِ والنّسَبِ/ ليْسَ لِأنّنَا الأُمّةُ الوحِيدةُ الّتِي مابَرحَتْ/  تَدورُ حَوْل نَفْسهَا مِنْ قُرونٍ/ دونَ أنْ تجْتَازَ الْعتَبةَ/ إِنّمَا:/ الوَحيدَةُ الّتي تَكْتفِي بِالصَّريرِ/ وِبصهِيلِ حصَانٍ مَعْصوبِ العَيْنيْنِ/ بيْنَما الغُربَاءُ يلِغونَ فِي نَهْرهَا).

إن توظيف التحول الثقافي والفكري، الذي يعيشه الشعب العراقي بطريقة أو بأخرى، يؤكد مدى استيعاب الشاعر لما يمر به شعبه، ولما يعيشه في ظل ظروف غير طبيعية، وغير عادية، مثلها مثل باقي الشعوب والمجتمعات العربية على الأقل؛ فثقافته المحلية المتعددة، والمتحولة والمتجاوزة للنظرة التقزيمية للفرد العراقي، ترى الإنسان والعالم من زوايا نظر فردية، تستحضر الوعي الذاتي بالوجود الإنساني. ويتأمل السماوي في ما هو موضوعي واقعي، وفي ما هو ذاتي وفق قناعة معمقة في التفكير، والشعور بالآخر من خلال النظر إلى الذات، على أنها تعبير عن هذا الآخر في حد ذاته، حيث يتميز بالقدرة الكبيرة على التعبير عن التأملات، ويعيد صياغتها بإحساسه الشعري المرهف، كأنه يستعير ذاته المتشظية، المتأملة في واقع المجتمع المهترئ، لفائدة وعي جمعي، يقوم على التآلف والتوافق.

***

عزيز العرباوي

....................

الشاعر في سطور

ولد يحيى السماوي بمدينة السماوة بالعراق، في (16 مارس 1949م)؛ تخرج في كلية الآداب بالجامعة المستنصرية ببغداد عام (1974م)، وعمل في التدريس والصحافة والإعلام. وهو عضو في العديد من الاتحادات الأدبية والمنظمات الثقافية بالعراق والعالم، منها اتحاد الأدباء العراقي، واتحاد الكتاب والأدباء العرب، واتحاد الأدباء الأسترالي، ورابطة قلم العالمية، ورابطة شعراء العالم.

من دواوينه الشعرية: (عيناك دنيا)، (قصائد في زمن السبي والبكاء)، (قلبي على وطني)، (هذه خيمتي.. فأين الوطن)، (أطبقت أجفاني عليك)، (الأفق نافذتي)، (مناديل من حرير الكلمات)، (بعيداً عني.. قريباً منك)، (تعالي لأبحث فيك عني...)، (أطفئيني بنارك).. وغيرها.

 

في المثقف اليوم