قراءات نقدية

إشكالية "العنونة" في الرواية العربيّة المعاصرة

لا أحد من القرّاء الجادين، أو من النقاد الأكاديميين، يقلّل من كينونة العنوان في العمل الروائي، أو يشكّك في أهميّته، من حيث المبنى والمعنى. فهو عتبة المتن الروائي، بما يمثّله من دلالة ورمزيّة وتوجيه لعقل القاريء، وتحفيز عاطفة المقروئية لديه.

و العنوان الروائي، في حدّ ذاته، هو رأس العمل الأدبي وناصيته، وقاطرته الأولى، الجاذبة لذائقة المتلقّي، والدافعة بشغفه للغوص في ثنايا النص السردي. وبالتالي، فهو غاية ووسيلة في آن واحد. وهو الواجهة الأولى التي تغري القاريء لاقتناء العمل الروائي وقراءته، واكتشاف جغرافيّة سرديّته.

و هو عمليّة معقّدة ورئيسة، تعكس شخصيّة الكاتب الروائي، وليس عملا سهلا وثانويّا، كما يعتقد بعض الكتاب الشباب. قد يستغرق الكاتب، لصياغته والوقوف عليه، وقتا معيّنا، ويكلّفه ذلك جهدا مضنيّا.

إنّ الكثير من الأعمال الروائيّة، نجحت أو فشلت بسبب جودة العنونة أو رداءتها. وقد سمعت، بعض الكتاب الروائيين، يسألون ويتساءلون : متى يضع الكاتب العنوان النهائي لعمله الإبداعي؟ قبل بدء الكتابة أم أثناءها أم بعد إتماتها؟

والحقيقة، أنّ وضع العنوان النهائي لأي عمل روائي، لا لقاعدة زمنيّة ثابتة، فلكل كاتب روائي، طريقته في وضع العنوان. وقد يضطر بعض الكتاب إلى تغيير عناوين رواياتهم مرات عدّة، لأسباب فنيّة أو نفسّية أو سياسيّة أو إيديولوجيّة. وربّما يستغرق التفكير والتردّد، في صيّاغة العنوان النهائي عند بعض الكتاب أياما أو شهورا، وهذا حرصا منهم على الإجادة والإفادة، لا عجزا عن الإبداع..

وقد لاحظت، ولاحظ جمهور القرّاء والنقّاد، انّ الكثير من الروائيين المعاصرين، وخاصة فئة الشباب منهم، يلجأون إلى وسم أعمالهم الروائيّة السرديّة، بعناوين غريبة، تثير التساؤل والاستغراب، وكأنّ همّهم الوحيد، هو الجري وراء إغراء المتلقي ودغدغة عواطفه ومراوغة قناعاته. وهي عناوين مفردة أو مركبة السيّاق. عربيّة الأصل، أو أعجميّة معرّبة، صادمة للذائقة الإبداعيّة السليمة، متناسين في ذلك أصول العنونة ودلالاتها.

لقد كان القدماء، من سدنة السرد العربي الأصيل، ينحتون العنوان نحتا، لإخراجه في حلّة زاهيّة، جزلة اللفظ،عميقة المعنى، راسخة المبنى، وذلك بتوظيف أساليب البيان والمجاز، من كناية واستعارة وتشبيه، ومحسّنات البديع ؛ من سجع وطباق ومقابلة وجناس.

إنّ بعض العناوين الروائيّة المعاصرة صادمة للقاريء والناقد. سواء أكانت تدلّ على مكان ما، أو سلوك إنسانيّ معيّن، أو تصوّر ذهنيّ، أو نظرة فلسفيّة، أو قصد الكاتب، من ورائها، رمزيّة معيّنة. وحجة الكاتب، في ذلك، أنّ القاريء المعاصر قد سئم من العناوين الكلاسيكيّة الجاهزة. ولا بد للكاتب الروائي المعاصر، أن يتحلّى بالجرأة الخارجة عن المألوف، وأن يثير كوامنه، ويخرجه من قوقعة الماضي، بما لم يألفه، ولم يكن ينتظره، ويزلزل شعوره ومخياله باللامعقول واللاممكن، ليدهشه، ويسكب في ذهنه علامات التعجّب. وكلّ تلك الحجج الواهيّة، مبعثها – في رأيي – السير على مقولة (خالف تُعرف). إنّ المخالفة هنا، لم تنتج لنا سوى مزيدا من الرداءة والتفاهة، ومزيدا من الانحدار الفنّي، والضعف اللغوي.

وليتأمل معي القاريء المحترم هذه النماذج من العناوين الروائيّة (دون ذكر أصحابها)، ثم يصدر حكمه عن قناعة أو عدل وتبصر. (شمينغوم، العربي كحل الراس؛ اختفاء السيّد لا أحد – الكاسكيطة والسيجار – نسيان دوت كوم - أمس لا يعود – اللاز – الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق – تغريبة العبدي المشهور بولد الحمريّة – لنرقص الترانتيلا ثم نموت – قلوبهم معنا وقنابلهم علينا – شهيا كفراق – زوج بغال – كلاندستينو – قتلت والدي – سيلازار الجن الملعون – شيزوفرينيا آناستازيا-..)

لا أدري، بالضبط، ما هو الدافع النفسي، والمبرّر الإبداعي، والسيّاق الفنّي، لمثل هذه العناوين، التي لا تستقيم والذائقة الأدبيّة السليمة، ولا علاقة لها بالأسلوب العربيّ القويم، بل تكرّس أسلوب الرداءة، وتساهم في تشويه الذائقة الفنيّة.

ربّما، كان هؤلاء الأدباء - وهذا من زاوية التخمين والحدس، لا التبرئة - يهدفون من وراء هذا الشذوذ الفنّي إلى إدهاش المتلقي، وانتشاله من الروتين والتقليد والاتّباع.. لكن يبدو أنّهم فشلوا في تحقيق مبتغاهم، لأن الغاية، مهما نبلت وعلت، لا تبرّر الوسيلة العليلة، العرجاء.

لكن، التجديد في صياغة العناوين، لا يحصل بما هو سيء أو أسوء وشاذ المبنى والمعنى.. التجديد معناه الإتيان بما هو أفضل من القديم. أمّا السير على منهاج (خالف تُعرف)، فهو شبيه بغثاء السيل لا غير.

إنّ العمل الروائي، الذي يصبو صاحبه من خلاله إلى إمتاع القاريء وتفاعله وإفادته وتحريك أحاسيسه وتشويشها - كما هي عادة الرمزيين - واستفزاز الذائقة النقديّة لدى الناقد،.. يعتمد على عنوان يعكس معماره. إذ لا يمكن أن نبني عمارة من اسمنت، ورخام فاخر، وألوان زاهيّة، بينما بوابتها الرئيسة من خشب التدفئة الزهيد، أو من أعواد القصب.. والأمر، كذلك، إذا عكسنا المعادلة، فإنّ العناوين البرّاقة، الرنّانة، لا يمكنها إخفاء رداءة المتن الروائي.. فالروائي الناجح – برأي النقاد الأكاديميين، لا برأي القرّاء الارتجاليين والمجاملين – هو من استطاع الجمع بين سلامة العنوان من الشذوذ اللفظي وجماليات المضمون، كما هو الحال عند روائيي القرن التاسع عشر في روسيا القيصريّة ووروائيي القرن العشرين في العالم العربي وأوربا الغربيّة والأمريكيتين.

وبالعودة إلى عناوين روايات شيوخ الرواية العربيّة؛ كهيكل، ونجيب محفوظ، وطه حسين، والطيّب صالح، وحنّا مينة ويوسف السباعي وو العقاد، وابن هدوقة، والطاهر وطّار، وواسيني الأعرج، وأمين الزاوي غيرهم.. نكتشف شدّة الاعتناء بها، ومدى جماليّتها وجودة صياغتها وعمق رمزيتها ودلالاتها. (زينب، زقاق المدق، بداية ونهاية، السراب، دعاء الكروان، موسم الهجرة إلى الشمال، المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، نائب عزرائيل، إنّي راحلة، سارة، ريح الجنوب، الزلزال، طوق الياسمين، الملكة..)

وهي عناوين، جاذبة للقاريء، مثيرة لشهوة القراءة، وموحية للناقد الحاذق، لأنّها عناوين صحيحة المبنى والمعنى، وغير معتلّة، دالة على موهبة أصحابها وخبرتهم في صياغة العناوين الدالة على المضامين، ومعبّرة، أيضا، عن رسوخ ملكتهم الإبداعيّة.

لا بد من احترام عقل القاريء، مهما كان بطيء القراءة، قليلها. والروائيّون الذين يكتبون دون مراعاة القواعد الفنيّة السليمة في وضع العناوين، يساهمون في انتشار ظاهرة ضعف المقروئيّة العربيّة ومحدوديتها والعزوف عنها، واعتبارها كلغة ثانيّة، والاتجّاه نحو المقروئيّة باللغات الأجنبيّة، ووضعها في الموضع الأول، سواء أكانوا مدركين لعاقبة سلوكهم ذاك، بحسن نيّة أو بسوئها، أو غير مدركين وواعين، لذلك السلوك، بسبب الجهل والغفلة والسذاجة.

العنوان، ليس مجرّد، كلمة أو جملة، تُلصق على رأس المتن الروائي. بل هو عتبته الرئيسة، التي توجّه القاريء وتجذبه، وترغّبه في القراءة. وقد يصدم بعض الروائيين القراء، حين يكتشفون في ختام قراءة الرواية، ذلك الانفصال الفاضح بين العنوان والمضمون السردي. وهي صدمة تشوّش مشاعر القاريء. فقد يضع الروائيّ لروايته عنوانا ذا دلالة رومانسيّة خالصة، بينما يأتي معمارها السردي خاليا وجافّا من العواطف الرومانسيّة. أو يضع الروائيّ عنوانا رامزا لقيمة أخلاقيّة معيّنة، كالشرف أو الصدق أو الوفاء أو الأمانة أو الصداقة، وغيرها، في الوفت الذي يكتشف القاريء أن المتن الروائي يخلو من تلك القيمة التي رمز لها في العنوان. وقد يكون عنوان الرواية اجتماعيا، بينما مضمونها سياسيّا أو تاريخيّا، والعكس قد يحدث أيضا. وهذا يدلّ على قلّة اعتناء الروائي بوضع العنوان المناسب، أو اعتباره عنصرا ثانويّا، غير مؤثر في انسيّاب أحداث الرواية وسيرورتها ومصائر شخوصها..

ولا يخفى على النقاد الأكاديميين، أنّ أنجح الروايات العالميّة وأجملها وأوسعها مقروئيّة، وخصوصا تلك الفائزة بالجوائز القيّمة، كنوبل مثلا. هي الروايات الموسومة بعناوين مصوغة صياغة جيّدة ومعبّرة، وذات دلالة رمزيّة قويّة، وخالية من شذوذ المبنى والمعنى والانحراف اللفظي والدلالي.. (الأم - لغوركي - الإخوة كرامازوف – الحرب والسلام – ألف عام من الحنين – الشيخ والبحر – ثلاثية نجيب محفوظ (السكرية، قصر الشوق، بين القصرين) – العمى – قصة موت معلن – سحب عابرة – الشوك يزهر – الزنبقة الحمراء – ولا تزال الشمس تشرق – الحب في زمن الكوليرا.. وغيرها من الروائع الروائيّة عبر الفضاء الروائي العالمي.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي

 

في المثقف اليوم