قراءات نقدية

انزلاق التأويل في العلاقة اللاشعورية الكامنة في منعطفات القص

دراسة تحليلية في تراث أقاصيص إدغار ألن بو.. وقفة مبحثية مع قصة (حكاية الجبال الوعرة) أنموذجا

توطئة:

إن المنظومة التأويلية قد تعني لدى نقاد التفكيكية عملية انزلاق أو انحراف المعنى إلى ما لا نهاية له، إذ لن يكون بإمكاننا أن نتوقف عند معنى محدد لنشير به على أنه المعنى.. وهذا الأمر الذي جعل غالبية الفكر التفكيكي يخلص إلى أن النص يمكنه أن يقول أي شيء وأنه لن يستطيع أن يراقب هذا الانزلاق في موجهات المعنى أو أن يتحكم فيه.. تدعونا قصة (حكاية الجبال الوعرة) للقاص الأمريكي إدغار ألن بو، نحو ذلك التأويل ذا الوسيلة الشاقة من تحديد المعنى القصدي في متن ومبنى النص القصصي.

ـ التشاكل الدلالي في مدار العناصر النصية.

إن طبيعة المعيار في الاقتصاد اللغوي لدى عوالم بو القصصية، تستأثر لذاتها تلك الجملة من المساحات العلائقية المتشاكلة والمتخالفة في فعالية القص، لذا نجد طاقة الإظهار الدلالي في موضوعة النص، تلزمنا بمراقبة وتحري الزمن والمكان وطبيعة الأفعال كليا، حتى نصل منها إلى ضرورة تفعيل مداركنا التأويلية التي من شأنها الكشف والتحقق في أعماق ذلك النص القصصي.

1ـ الأبعاد الزمنية وإحالات الممارسة النصية:

يقوم المنهج الفنومنولوجي، كما أسسه هوسرل، على فكرة جوهرية مفادها أن الأشياء لا توجد كأشياء في ذاتها، بكيفية خارجية وقبلية، بل إنها تظهر دائما كأشياء يفترضها أو يقصدها الفعل القصدي.. /تيري أيفلتون، نظرية الأدب، ص100.. من هنا يمكننا مقاربة الأحوال الزمانية والمكانية في مراقبة الفاعل السردي في قصة (حكاية الجبال الوعرة) من خلال فرضية المنهج الفنومنولوجي، ونتعامل مع محددات الرؤية الواصفة لدى السارد العليم على أساس من كونها ذلك الوعي الذي يتأمل في استنتاجات موضوعة وشخصية تقع بين (التعليق ـ الامتناع) أن القارىء إلى تمفصلات قصة (حكاية الجبال الوعرة) لربما يواجه ذلك الظهور الغريب لأحوال السارد العليم، وهو يقص لنا ذلك الأطر من حقيقة الانطباعات الحسية والصورية لديه إزاء ذلك الشخصية الملقب بـ (بيدلوا) وما تترتب على هذه الشخصية من المواجيد الفريدة والموحشة من الأوصاف والعادات النادرة: (في خريف عام 1827، عندما كنت أسكن قرب شازلوتسفيل من ولاية فيرجينيا، تعرفت صدفة إلى السير أوغسطس بيدلوا، كان هذا السير ذا مظهر غير عادي إلى درجة إثارة دهشتي واهتمامي الشديد.. أدركت أنه من المستحيل علي فهمه على حقيقته في علاقاته الأخلاقية أو الجسدية.. أما عائلته فلم أفلح أبدا في أن أعرف عنها ما فيه الكفاية، كما لم أعرف أي شيء عن المكان الذي جاء منه.. /ص97 النص القصصي) لقد أشرت منذ برهة إلى إن قارىء ألن بو، يقع دائما في متواترات الحقيقة القلقة من جراء انطباعات المقروء في النص.. فإذا سلمنا بأن إدغار يتعامل مع الوقائع بروح فريدة، فذلك ما يدفعنا إلى الاعتقاد في كون أسلوبه القصصي ذات معطيات مجملة من فاعلية (الأحلام ـ الأطر النفسية) ويمكننا القول ـ بإيجازـ إلى أننا نواجه في نصه شخوصا يعيشون تجربتهم الفريدة في محصلات اللاشعور أو الذروة في مسار اللامتوقع.. لاحظنا بأن صفات المكان والزمان في النص ذا حكاية تتدفق من خلال شاهدية السارد العليم، ولكن الإحساس المرافق لهذا السارد يضفي عليه طابع الشخصية المشاركة.. هذا الأمر ما جعل من بو مأخوذا في تقديم سارده تمهيدا للدخول في طبيعة الوصف الاستهلالي: (حتى في ما يتعلق بعمره كان هناك ما يحيرني إلى درجة كبيرة، بالرغم من أنني أدعوه بالسيد الشاب.. لا شك أنه كان يبدو صغير السن.. كان مظهره هو ما يميزه عن غيره أكثر من أي شيء آخر.. إذ كان طويلا مفرط الطول، دقيق البنية، متقوس الظهر، ذا ذراعين غاية في الطول والهزل، كانت جبهته عريضة ومنخفضة.. أما لونه فلم يكن يبدو فيه أي أثر للدم كان فمه كبيرا ورخوا.. /ص97 النص القصصي) ومن خلال متتاليات هذه الأوصاف يتيح لنا السارد التعرف على مظاهر ذلك الرجل الخارجية، أي بما يسعنا تسميته (الوصف الممهد لنمو السرد) وكثيرا ما يشكل الوصف في الحكاية القصصية، كل الحدود المشخصة في لغة الراوي.. غير أن عملية الوصف في قصة (حكاية الجبال الوعرة) حلت في مستهلها الأوصاف لغاية تعريفية وإضاءة أداتية في ممارسة السياق المتحرك في بنية الحكي.. وقد تبتدى العلاقة بين (المؤلف ـ السارد) في هذا المضمار من المزامنة نحو تفعيل ذلك الشكل من الذاتي والموضوعي.

2ـ التمويه والتضبيب في متغيرات الشخصية:

أن الاستحالة في بنية معرفة الشخصية في علائقها وصفاتها، تضفي على معالم الحكي ذلك الأنموذج من ثنائية (التمويه ـ التضبيب) لقد حاول بو في حدود تراتبية أنساق شخصيته القصصية تغليفها بذلك الطابع من الإحالة نحو متغيرات الجنس الطبيعي في مكونات الشخصية، لذا نراها تشكل بذاتها عبر مواصفاتها اللامألوفة تفصيلا دلاليا يسعى بذاته إلى اشتغال نصه في مواقع (ميتاواقعية/ ميتاحلمية) وهذه العلائق بدورها سوف يسودها الاقتران الجزئي من حياة الشخصية في متطلباتها الفريدة: (هذه المظاهر كانت على ما يبدو تسبب له ارتباكا كبيرا.. إذ كان يشير إليها باستمرار بطريقة فيها شيء من الاعتذار وشيء من التوضيح، مما أحزنني عندما سمعته لأول مرة.. لكني سرعان ما أعتدت على هذه الإشارات، ولم يعد يضايقني سماعها.. فهمت أنه يقصد من هذه الإشارات إقناع السامع بطريقة غير مباشرة أن حالته الجسدية لم تكن دائما بهذه الصورة، وأن سلسلة من النوبات العصبية قد أحالته من كائن متميز بقدر بالغ من الجمال إلى ما هو عليه الآن.. /ص98 النص القصصي) أن السياق السردي في حكاية النص، تقودنا نحو معطيات مجملة بالتواتر والتوسع والتبادل من حيث أوجه الأنموذج الشخوصي، وإذا كانت حالة الوساطة في النص تتم عن طريق السارد العليم، فإنها أيضا تتمة عبر مستوى يتصير من خلاله الصوغ للمرجع الحكائي تلفظا بمحكي العلاقة المتعاقبة في زمن ما من وحدات ومتواليات الذاكرة النصية.. تخبرنا القصة حول الدكتور ثمبلتون وهو رحالة في شبابه، كان لعدة سنوات خلت يكرس وقته وجهده وجميع مهاراته الطبية للعانية بحالة الشخصية بيدلوا، ولأن الأخير كان رجلا واسع الثراء خصص لهذا الطبيب راتبا سنويا مقابل عنايته وإشرافه على حالته المرضية.. كان الدكتور ممن اعتنقوا مذهب التنويم المغناطيسي، وقد أفلح على حد تعبير السارد في النص، في أن يريح مريضه من أوجاع سقمه المؤلمة بواسطة هذا العقار المغناطيسي، وقد بذل هذا الطبيب جهدا إلى جعل مريضه يسلم تسليما مطلقا بمبادىء هذا العلاج.

ـ التعاطف المغناطيسي والغور في زمن الباطن اللاشعوري.

1ـ شعرية الرؤيا والارتداد في التأثيرات الماقبلية:

إذا أتاح لنا المجال إلى الانتقال نحو وظائف المستوى الدلالي من بعض الأجزاء في النص، لوجدنا أن عملية النفاد بعمق إلى المعنى، يتطلب منا إدراك الانطباعات الأولى الناتجة من ظواهر وحالات التنويم المغناطيسي التي يتلقاها الشخصية من قبل ذلك الطبيب: فهل هي عودة بالإنسان إلى التسليم بالكامل عن جل قدراته الحاضرية بالمقابل منها أن يكون حيا داخل رؤى ما قبلية من مستوى معرض نوبات هذه العقاقير المغناطيسية؟إذا كان الأمر كذلك، فيمكننا التعرف على رحلة الشخصية المريضة نحو حكاية الجبال: (كانت حرارة بيدلوا شديدة الحساسية تكمن إثارتها بسهولة، وكان خياله قويا خلافا بشكل فريد، زادته قوة جرعات الأفيون التي يتناولها بكميات كبيرة والتي بدونها يستحيل عليه مجرد الوجود /وذات نهار ضبابي دافىء من أيام نوفمبر، وفي الفصل الذي يعرف في أميركا بالصيف الهندي، توجه السيد بيدلوا كعادته إلى الجبال، ومر النهار دون أن يرجع.. /ص98 النص القصصي) ويضعنا هذا المطلب، في ما يخص حالات السيد بيدلوا إزاء معادلات نفسية وفنية كبيرة، فهو بين الإثبات في الواقع وغيبوبة الجرعات الأفيونية والتعاطف في إفرازات التنويم المغناطيسي، لذا فهو في (المابين؟) أما خطاب السرد فقد جاء منقولا على حال لسان شهود الشخصية بيدلوا ذاتها.. أي أن خطاب السارد غدا في المستوى الاصغائي لحكاية بيدلوا بعد عودته من زمن الجبال الوعرة: (تذكرون أنني غادرت شازلوتسفيل حوالي الساعة التاسعة، وقد توجهت مباشرة صوب الجبال.. حوالي الساعة العاشرة دخلت مضيقا لم يكن لي عهد سابق به/مشيت ساعات عديدة وأنا على هذا الحال، بينما الضباب يشتد كثافة، حتى اضطررت إلى تلمس طريقي خطوة خطوة واحدة لئلا أغرق في هوة لا قرار لها.. /ص99 النص القصصي) كل الوقائع الدائرة هنا بالشخصية هي جارية في أفق الحضور المتحول في أطوار الرؤيا المتأثرة تأكيدا، من جراء الجرعات المغناطيسية وثمالة الأفيون بكميات كبيرة.. ربما أيضا يمكننا القول أن طاقة التنويم المغناطيسي أكثر حصولا على التفاعل الارتدادي في المشاهدات اللاشعورية، أي ما هي في شكلها الدال، تعني ذلك الانخطاف نحو ملابسات عالم المؤثر الأول، وهو الطبيب الذي يشرف على حالة الشخصية، طبعا أن مسألة حدوث التزامن ما بين الطبيب والمريض ـ تلاقيا ـ في المحسوسات والمدارك الباطنية، هذا ليس بالأمر الحقيقي أبدا، ولكن بو حاول جعل العلاقة المغناطيسية بين المريض والطبيب، علاقة تستقرىء كل مواجيد الاثنان معا في الآن نفسه، أي بمعنى ما أن الطبيب في حالة المريض يتفرس كل مواجيد عقله الباطن، كذلك المريض أيضا عندما تم له مشاهدة تلك القرية وذلك الضابط: (وجدت نفسي في سفح جبل مرتفع.. أمامي نهر عظيم يجري في سهل فسيح.. وعلى ضفة ذلك النهر، تنتشر مدينة بدت لي أشبه بالمدن الشرقية التي نقرأ عنها في القصص العربية، لكنها كانت تتميز بشيء فريد لم نسمع به في أية قصة من تلك القصص.. كنت أقف في نقطة ترتفع كثيرا عن مستوى المدينة، لذا كان بأستطاعتي أن أشاهد كل حدودها وزواياها كما لو إنها مرسومة على خارطة.. كانت شوارعها عديدة لا تحصى، تتقاطع في مختلف الاتجاهات بدون انتظام وهي أشبه بالأزقة الضيقة الطويلة.. /ص100 النص القصصي).

2ـ فنتازيا الشرود الذهني وزمن جنوح القص:

لا يمكن بأي حال من الأحوال تقدير المسافة النواتية المتخيلة في زمن النص لدى بو، ولكن بالإمكان الجزم بأن العلاقة متراكبة من جملة مؤشرات (فنتازية) بين خطية الواقع وصعود المحتمل التخييلي إلى أقصى درجات الشرود الذهني أثر استجابة قادمة من عملية التداخل ما بين (الطبيب ـ المريض ـ التنويم المغناطيسي) غير أن هناك ما يسترع ملاحظتنا سريعا في هذا الصدد:ما دام العقل الباطن مفتوحا ما بين الطبيب والمريض، لماذا جاءنا الأمر مقتصرا على مرأى المريض إلى عوالم الطبيب القبلية، ولماذا لم يشاهد الطبيب أدق العوالم اللاشعورية للمريض نفسه؟تبقى محددات الفارق الزمني مفتوحة من جهة رؤية المريض إلى شواهد الطبيب اللاشعورية من الماضي الخاصة به دون معرفة أسباب ومبررات عدم رؤية الطبيب إلى معالم اللاشعورية للمريض نفسه، قد يكون في هذا الأمر سببين، أولهما أن المريض لكونه مريضا بأمراض العصابية، أخذ الطبيب بمهاراته يسيطر عليه ربما، أما الأمر الآخر فربما الطبيب قد عاين في المريض ما يجعله لا يصرح به لأسباب طبية للمريض، وربما أيضا مستوى الارتباط كان تعلقا بالطبيب أكثر عمقا وتأثرا من مستوى طاقة المريض؟على أية حال نلاحظ أن مغامرة الرجل المريض في تلك المدينة الواقعة على مسافة سفح من الجبل، كانت أكثر شرقا من طابعها الغربي، وهذا بدوره ما راح يعكس لنا قصة حياة الطبيب في إحدى مدن الشرق التي قضى فيها ردحا من الزمن: (لست واثقا بأنك مخطىء؟قال الدكتور تميلتون مقاطعا، ولكن تابع حديثك/نهضت؟قال بيدلوا متطلعا إلى الطبيب بدهشة بالغة.. نهضت كما قلت وهبطت إلى المدينة.. في طريقي إليها مررت بحشد كبير من الناس يتقاطرون من كل صوب ويتوجهون وجهة واحدة، وفي حركاتهم أشد دلائل الهيجان، فجأة وبدافع مجهول شعرت بالاهتمام الشديد بما يجري وينبجس في صدري.. بدا لي أنه يترتب علي القيام بدور معين في هذا الحشد الذي يحيط بي، أحسست بشعور العداوة العميقة.. حاولت أن أختفي من بينهم، وبسرعة هربت سالكا زقاقا جانبيا ودخلت المدينة من جهة أخرى.. هناك كان يرتفع الضجيج الصاخب والجدال العنيف.. رأيت فرقة صغيرة من الرجال ترتدي أزياء نصفها هندي والنصف الآخر أوربي، وعلى رأسها رجال بلباس الجيش البريطاني، تشتبك في قتال غير متكافىء مع الحشود.. /ص101 النص القصصي) نحاول هنا اقتفاء أثار الحقيقة من الحلم أو المغامرة الأفيونية من واقعة المفترض في زمن رحلة الشخصية المريضة، وهل كان ذلك حلما حقا؟يبرز لنا في رؤيا بيدلوا، ذلك الضابط البريطاني لديب والذي يكتشفه الطبيب من بين منقولات سطور حكاية بيدلوا، أنه كان صديقا له، وأن الطبيب كان أحد جنود الفرقة العسكرية، على حين غرة يخرج الطبيب إلى بيدلوا تلك اللوحة التي قام برسمها الطبيب اعتزازا لشخص صديقه الراحل بيدلوا، والغريب في الأمر أن ملامح ذلك الضابط تشابه ملامح بيدلوا إلى حد غريب، كما وأعرب الطبيب تعقيبا على حكاية بيدلوا الفنتازية، بأنها واقعة حقيقية جرت فيها تلك المعركة بين حشود الهنود قرب النهر المقدس إزاء الجيش البريطاني.. هكذا وجدنا مقاصد البنية الحكائية في قصة (حكاية الجبال الوعرة) تنصب في دلائل النص المتعدد الذي يتقاطع بين الخيوط المرجعية للواقعة وحقيقة الرؤيا في فنتازيا حكاية الرجل المريض بيدلوا.

ـ تعليق القراءة:

في الواقع لاحظنا في مجريات قصة إدغار ألن بو كيفية أن يقترب النص من نقطة مجهولة، فإذا بها هي عين الحقيقة منذ عدة عقود.. فهل يمكن أن يكون الشخصية بيدلوا هو الضابط نفسه، ولديب صديق الطبيب، وأن تلك اللوحة المرسومة هي ذاتها صورة ولديب في رحلة حكايته في الجبال الوعرة؟أن كان الأمر كذلك فكيف المقارنة بين تلك الأحداث في الواقعة القديمة وبين هذا الرجل الذي يدعى بيدلوا وهو مريض الآن تحت عناية هذا الطبيب؟قد تكون هناك طرائق أكثر دهاء في قصة (حكاية الجبال الوعرة) تتعدى حدود أذهاننا التقديرية والتحليلية والتأويلية.. والغريب في أمر هذه القصة هو موت بيدلوا في خاتمة النص، وعندما يذهب السارد للصحيفة التي قامت بخطأ إسقاط الحرف الأخير من أسم بيدلوا حتى بدا في جملة التعزية في الصحيفة (لديب) تصادفا مع أسم ذلك الضابط الانكليزي تماثلا في خلق ذلك الانزلاق من تأويلنا في إيحاءات ومنعطفات القص الكبير لدى إدغار ألن بو.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم