قراءات نقدية

أين وكيف سيشيع جثماني؟..

قراءة في القصة القصيرة "البحث عن قبر الشاعر عبد الوهاب البياتي" لعلي اللقاسمي

استهل القاسمي مجموعته القصصية بأول نصّ اعتبره “ما يُشبه المقدّمة ، ما يُشبه القصّة” . هذا الوصف له بلا شك دوافع. والنص هو قصة مشوقة للغاية من بدايتها إلى أخرها.

زاره أخاه الأصغر منه سنا حبا فيه والتقاه في فندق إقامته بسوريا بعد فراق دام أكثر من ثلاثين سنة. زيارة الكاتب لسوريا شغلت تفكيره بزيارة قبر الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي،من رواد الشعر الحر عربيا، ليتلو على روحه الفاتحة. تجاوز انشغاله بهذا الموضوع اهتمامه بأخيه. لقد استهل القصة بمشاعر جياشة تستحضر في ذهن القارئ الهاجس الكلي الذي يسكن السارد. الأخ الماثل أمامه كان يطمع في اصطحابه إلى مطعمٍ فاخر في أحد المصايف الجبليّة الرائعة. ردة فعله كانت تعبيرا عن امتعاضه من شيوع الموت في بلاد العراق. براثن الموت قاسية ببلاده لا ترحم وتلتهم بشراهة الدناصير أبناء أجيال الخليقتين البابلية والسومرية بأساطيرهما التاريخية وأمجادها الحضارية.

أبرز السارد خاصية السلوك النفسي للعراقيين الممزوج بالقلق من الموت وفضاءاته المعقدة. البياتي بأشعاره الريادية عربيا وعالميا استضاف جثمانه فضاء خارج تراب وطنه لم يعره أهمية وجوده الدنيوية. كتب على شاهد قبره عبارات ركيكة. أحب وطنه بإخلاص النوابغ، وطمع في أن يحتضن وطنه جثمانه أو رفاته بعد الموت، لكن بقي هذا المبتغى مستحيلا في العراق.

كتب القاسمي القصة مشتاقا للعراق (العراق في القلب) بالرغم من حبه للمغرب وناسه. أبدع بالمغرب وألف ثروة معرفية زاخرة وخاطب العرب والعجم، لكن هواجس فضاءات الموت المختلفة وطغيان المستبدة منها تجعله يحس بغربة خاصة عندما يفكر قيد حياته في تأبينه وتشييع جثمانه.

قرار التوجه لزيارة قبر البياتي كان وراءه رغبة دفينة لعلاج ضيق صدره منشغلا بمصير أبناء العروبة والإسلام خصوصا حاملي أمانة العلم والمعرفة. عاش السارد مع الفقيد لحظات بحثه عن مكان موته ودفنه. إنها لحظات استشراف رسم من خلالها البياتي لوحة موته غريبا، ودفن في دمشق في مكان مخالف لما كان يصبوا إليه قيد حياته.

السارد، وهو القاسمي بقصته الواقعية، عاش بالمغرب القسط الكبير من عمره. أفاد بقوة العرب والمغاربيين بإنتاجاته الأدبية والفكرية. متزوج من مغربية. عاش بلا شك وسط أهله باحثا ومحققا للزهو والطمأنينة والسعادة في حياته على أرض انتماء مولاي عبد القادر الجيلالي (بالمغرب الأقصى). صداقاته لا تعد ولا تحصى. هو زعيم في المعرفة تفتخر به الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. وبذلك، على عكس أغلب النوابغ العراقية، هو ليس غريبا يعاني تمظهرات الموت البطيء. الدولة المغربية احتفت بنوابغها وخصصت لهم مقابر الأفداد الوطنيين (عبد الرحمان اليوسفي وعبد الله إبراهيم المدفونين جنبا إلى جنب بأوامر ملكية بالدار البيضاء، ومحمد الخطيبي، فاطمة المرنيسي،......). والقاسمي مشرقي مغربي لا تنقصه إلا الجنسية. أبلى البلاء الحسن في هذا الوطن بشعبه الكريم. فكره وأدبه شيد الجسور بين الرباط وبغداد.

وبذلك، فالقاسمي في بلاده الثانية، وهو مفكر وأديب نابغة بلا جدال. أبواب غربته ليست مشرعة على المجهول. الرغبة في الوقوف أمام قبر عبد الوهاب البياتي هو تعبير عن حزنه لمصير مئاتٍ من نوابغ العراق الأحياء والأموات المغربين غربا، والذين نهشتهم مخالب الغربة وضياعات المنافي.

كل المثقفين بالمغرب يتمنون له عمرا مديدا للاستمتاع بدفء وجوده العاطفي والمعرفي، وكل أصدقائه على استعداد لتحمل مسؤولياتهم الكاملة لتلبية رغباته بعد حدوث النهاية القدرية. لن يرض أي مغربي أن تكتب على قبره عبارات ركيكة.

المبتغى لدى المغاربة هو أن ينجح شعب العراق في إعادة بناء دولته الديمقراطية، ويعود القاسمي فاعلا إلى وطنه الأم، مناضلا من أجل تقوية التعاون بين الرباط وبغداد وبناء فضاء جهوي تنموي عربي. المغاربة يعانقون هموم القاسمي الطامح لإخراج العراقيين من غربتهم في بلادهم، ومفتخرون بمشروعه الفكري النهضوي الذي سيوطد بتحقيقه الجسور بين الأقطار العربية.

***

الحسين بوخرطة

في المثقف اليوم