قراءات نقدية

نص مستوحى من قبر أمه.. جواد الحطاب يوظف الإيحاء في رثاء بدرية نعمة

- منح جواد الحطاب أبياته تجانساً لفظيا أفضى منه إلى وحدة الشعور

- صاغ الحطاب بتوازن محسوس مشهداً ذهنياً بفنية رائعة احالت قصيدته لنص مكتمل البناء

التوازن اللفظي الذي يكرسه جواد الحطاب في شعره مستخدما إياه للتعبير عن حالة معينة هو تجسيد لمعاناة الجمهور بتفاصيله المعاشة، وبما تحمل من آسى جمعي يضعها بين يدي قراءه تاركاً لهم مساحة الحكم والتأويل. جواد الحطاب لايقدم صوراً متكررة، بل ذات دلالات ترتبط بالواقع وتعكسه تاريخياً على ما كان.

وقد نظلم جواد إن ركزنا على صفة تجسيده لصور الواقع بدلالة استدعاء الماضي، وإن ذهبنا إلى هذا المنحى نكون قد رسمنا صورة نمطية لاتجديد فيها، فقد ينقل الشعراء مضامين شعرية متعددة، لكن تبقى صورهم الشعرية جامدة لاروح فيها كونهم يمارسون الكتابة بنمطية ثابتة ترتبط بآفق محدود حتى وإن اختلفت رؤاهم من قصيدة إلى أخرى، إلا إن الشكل العام يبقى في حدود الأسلوب الذي عرفوا به. لكن عند الحطاب يختلف الوصف وتتنوع الأساليب، وتكثر الأغراض الشعرية حتى في بناء القصيدة الواحدة برؤى شعرية قد يجوز أن نطلق عليها (الإيحائية) تتوافق والواقع المعاش.

انا الآن من دون بدرية نعمة؟!!!

للمرة الأولى، يحدث هذا:

ان تتركني بدرية نعمة

وتذهب بزيارة مفاجئة!!

ومن خصائص رثاء الحطاب شدة العاطفة وكثرة الشجن، وتلك إشارة امتاز بها الشعراء الكبار في رثائياتهم . عمل الحطاب على توظيف المناقب والخصائص التي كانت تميز (بدرية نعمة) والعاطفة التي كانت تكتنف شعورها مثلها مثل كل الأمهات، إلا انه يضفي عليها صفة الشمولية العاطفية التي استشعر فقدها برحيلها الذي اسماه ب (الزيارة المفاجئة)، لذلك كان رثاءه لها نابع من مساحة عقلية واعية لمضامين تلك الصفات، مانحا أبياته تجانساً ووحدة في الشعور.

احساس الحطاب بالفقد متمثلاً برحيل (بدرية نعمة) أحاله إلى سمة التشويق التي تطغى على قصيدته ليُثبت جدلية المعنى وتقانة الوزن الذي ثبت ما كرسه من معنى في ثنايا أبياته بصدق الحس وسلاسة الكلمة. وليخرج من خلال ما أتقن من تصور وحكمة في الطرح بدلالة حسية واضحة.

استطاع جواد الحطاب أن يقرن قصيدته بايقاعات مختلفة، يظهرها حينا، فيما يعمد اخفائها أحيان أخرى بتوازن محسوس شكل منه مشهد ذهني بفنية رائعة، احالت نتاجه الشعري نصا مكتمل البناء شعرياً، ولم يغفل الحطاب في رثائيته الدالة الموسيقية المرادفة للنص والتكرار، لذلك عدت قصيدته (قبرك أم ربيئة دار السلام) مرثية متكاملة لاغرائبية لفظية فيها.

حين كنت ارتكب الحماقات،

وأباشر اهوائي باجتياز خطوط الرب الحمراء..

أخرج للوعيد لساني

: ههه .. معي: بدرية نعمة

...أعرف ان الله

صديق شيلتها السوداء كأفراح القديسين

أقول لصور القديسين،

للأولياء الذين تراقبني أعينهم بحنو وإشفاق:

انا في حرز مكين، فمعي: بدرية نعمة

لكن يحدث للمرة الاولى،

ان تتركني بدرية نعمة

وتذهب – لوحدها – بزيارة مجهولة!!

ركز جواد الحطاب في رثاءه على الوصف ووحدة النص، ليبتعد عن تشظي الفكرة، فكان أن أفرد للعاطفة مساحة يعتمد عليها القارئ نحو الوصول لفهم ما أراد، وجاء بدلالة الشعور الحسي للإستعارة اللغوية (القبر) ليعبر عما يجول في خاطره من احساس بالألم، خرج منها بصورة حسية ناطقة معبرة عن مضمون ما أراد.

صوتك المجعّد من سيكويه يا أمّ

منْ سيرسل هدهداتك الى المصبغة

:

:

يقول الملقّن: اسمعي يا... بدريه "بت" نعمه

وأفهمي، انّك ميّتة يا بدريه "بت نعمه"

فاذا سألك الملكان يا "بدريه بت نعمه "

فقولي ...

.

.

لم ينتبه الملقّن الى سلّة مهملات ملوّنة

أوصى لله، ليرمي الملكان بها ذنوبك اللا مرئيّات

... وما أدراك، وأنت نائمة

تتونّس الملائكة

بحياكة ذنوبك اللا مرئية، حسنات

ومن وجهة نظري كقارئ لنتاج الحطاب الشعري الثر، لمست أن جواد الحطاب يركن كثيراً لاستدعاء الماضي بشخوصه، وتوظيف الخطاب الديني في ثنايا القصيدة بحداثة أسلوبه ودلالاته التكوينية قاصداً اثراء مضامين القصيدة ورصانة محتواها الوصفي،، بل لاضفاء الرمزية الدلالية على أبياتها، وكأسلوب متفرد يحسب للحطاب.

التنوع الذي نتكلم عنه عند جواد الحطاب دفع به ليكون في مقدمة الشعراء، بل أبرزهم في توظيف الثنائيات الشعرية وتمثيلها بعذوبة اللحن وبساطة التعبير، وتجلى ذلك بوضوح في (أكليل موسيقى على جثة بيانو)، تلك التي تعامل معها جواد بحرفية متقنة وأظهر من خلالها دقة صنعته الشعرية وتوصيفاته الدلالية، وانسجام النص مع عناصر بناء القصيدة، فجاءت واقعية توصيفية بقدرة بلاغية مقنعة وصادقة ودالة شفافة.

في مسند (الحطّاب)

إنّ الربّ وجدك نامية على ضفاف سومر

فاستخرجك من لحاء الطين

ومن منكّ هات القرنفل، والقصب

... وقيل لطفولتك ضوع توابل أخرى

في مسند (سومر)

ناء قوس الليل بأقماره المتصالبة

فهبطتالآلهة من الأعالي

الآتون ..

لسدّ شقوق الريح برقائق الذهب

مرّوا على بيت الألواح

وإن جاز لي أن استعير وصف الأستاذ حسن العلوي لجواد الحطاب، والذي وصفه ب (شاعر الجدل)، فهو دائما ما يدخل القارئ الذي يتناول نصوصه بجدال عميق مع نفسه. ففي قصائد عدة ذهب الحطاب لتوظيف اللامبالاة توظيفاً دقيقاً حين ذهب إلى وصف الواقع المعاش واختلاجات الناس وما يعانونه، ليمر من خلالها إلى تصوير الحال عبر دلالات بعينها تُرسخ انشغالاته في تشكيل الاطار العام لشكل القصيدة.

وهنا لانمدح الحطاب وهو يستحق، بل نركز على ما نخرج به من إشارات واستتنتاجات تتعلق بفنية البناء الشعري المتعلقة بنصوص الحطاب، واستيفاء عناصره التي يشكل بضوئها التكوين العام أو النهائي لقصائده.

ففي نصه الواقعي المؤلم (قبرها أم ربيئة وادي السلام) حين يمزج الشجن بفنية التكوين يرتقي بالنص إلى مصاف النصوص المتفردة في الأداء الشعري، والتي قال عنها الأستاذ (رضا علي):

"قصائد الأعالي لا تنبثق إلا من أعماقِ صائغ تمرّسَ في صناعةِ الشعرِ، وكدَّ في ابتداعِ المدهش المختلف، وهذه التي بين يديّ (قبرها...) واحدة من قصائد الذروة في منتج قصيدة النثر التي يطلبها المتلقّي الخبير، ويأذنُ لها بالدخولِ إلى قلبهِ دون استئذان".

وتلك الإشارة التي نعنيها، والتي تصدر عن (متلقي خبير) تصف قصيدة الحطاب بإنها من (قصائد الأعالي)، بكل اختصار إنه نص استحق أن يقال بحقه (أنه موجع)، دخل من خلاله الحطاب ليصدم القارئ بحقيقة الفقد، ومن منا لم يعاني ألم الفقد، ومن ويلات ذاك المستدام (الموت).

استطاع الحطاب أن يجسد نصاً غاية في الدقة ينم عن انهماكه العميق باختيار الموضوع، ودقة المفردة، وحسن التصوير، وتلك العناصر الثلاث تشكل أساس نجاح العمل الفني شعراً كان أم نثرا.

وعبر (الأنا) استطاع جواد الحطاب أن يفتح قرارة الزمن ليوقفه بألم بالغ، فقد احتجز القارئ عند مدخل قصيدته (قبرها أم ربيئة وادي السلام) دافعاً إياه لإعادة النظر فيمن فقد، مشاعر قل أن يقف عندها القراء لاسترجاع الألم بفقد من يحبون.

عمل الحطاب على تكريس اللإستعارة الدينية ومزجها بالتاريخ ليوحي للقارئ وليضفي على نصه صبغة القدسية، وهو يستحق فالمخاطب (مقدس) بكل الشرائع، ومن لايقدس أمه ويجلها سراً وعلانية. لكنه أراد لنصه الخلود عن طريق انتقاء مفردات دالة تجسد صفات " بدرية نعمة" التي استخرجها من (مسند سومر) كما ذكر.

هي ترانيم بابلية جالت المعابد، ورسمت على جدرانها سيرة ماكان، فأفردت زوايا تكوين المنتج الشعري ممزوجاً بضوع روائح الرهبة من سيرة وضاءة خلفتها روائح عطرة من البخور والتوابل، كما جاء في تشبيهات الحطاب.

في مسند (الحطّاب)

إنّ الربّ وجدك نامية على ضفاف سومر

فاستخرجك من لحاء الطين

ومن منهمكات القرنفل، والقصب

... وقيل لطفولتك ضوع توابل أخرى

في مسند (سومر)

ناء قوس الليل بأقماره المتصالبة

فهبطت الآلهة من الأعالي

الآتون ..

لسدّ شقوق الريح برقائق الذهب

مرّوا على بيت الألواح

استودعوك الناموس، وارتفعوا

فيا ختما اسطوانيا

يا ابنة الآلهة والكواكب التسعة

يا بنت اثني عشر وليّا

رهبة انتابتني وأنا استفتح عنوان الخلود الذي حفره جواد الحطاب ل (بدرية نعمة) على أبواب شعر الرثاء، فيا هول ما قرأت في هذه (الأنا)، حروف ثلاثة تستجلي انعطافات الكون بما فيه ومن فيه، ورغم نرجسية الأنا التي اعتدنا قرائتها في أبواب علم الاجتماع، إلا أنها عند جواد الحطاب لاشيء. فمن أنت بعد ما كرست من وصف .

(انا الآن من دون بدرية نعمة)

خطاب التفرد مزجه جواد بالحاضر، وأعلن عن فقد أبدي (فاجعة)، ثم سجل انحسار الألم وتكريسه بشكل شخصي، واسقطه على (الأنا)، تعبير عن شمولية الفاجعة واقتصارها (الموت واقتصار الحزن) تحديداً.

(انا الآن من دون بدرية نعمة)

انحسار الوجود، وطبيعة البشر وجوده ثم رحيله دون رجعة.

(دون بدرية نعمة)

قرار صادم لارجعة فيه، ذلك ما قصده جواد (دون)، الفقد الأبدي، الفقد الشخصي، ذلك التأويل الذي ضمنه جواد استفتاح قصيدته ليوحي بما يختلج نفسه من ألم، أي اختصر كل أهوال الفقد والرحيل الأبدي بالتأويل، إشارة إلى رحيل بدرية نعمة.

التأويل والدلالة والتعريف وحصر المعنى وتكريس عائديته بالمتكلم، كل تلك العناصر اشتغل عليها جواد الحطاب لينتج بيتاً يفتتح به مرثيته لأمه. فجاء البيت متكاملاً من كل النواحي، بل ليشكل قصيدة متفردة بحد ذاته.

(انا الآن من دون بدرية نعمة)

تجربة فذة سعى لها جواد الحطاب بإتقان عهدناه منه، أن جسد عملاً فذاً داخل فيه اسم أمه ليشركها في العمل وهي في رحاب رحمة الله، وتلك سابقة تحسب لجواد لم يسبقه إليها أحد من الشعراء.

والذي هو..

أزبدتْ صحراء النجف

وتلاطم الرمل وغاضت الشواهد

وتنكرها السهل حتى إذا شثنَ الماء

ودُبِغَ الهواء

أطلقت صلواتك سهمها

فانشطر الليل إلى قوسيْ قزح

وجاء من أقصى المقبرة قمر يسعى

فسمعنا – من ظلفة قبرك المواربة‐

كورس أولياء

ورأينا إلى: ابت هالات شموع

فسبحانك ...

أعطاكه ربك ...

تنزّل الشمعدانات، والنور فيك

قلتِ لي : أمّنْ

... فأمّنتُ

وبسملتُ ...

وهيللت

وحيعلتُ : حيّ عليك بدرية نعمة

ختم لله على أيامك المسكوكات: رضواني

وعلّق في ذؤابة شيلتك الثريات

المعلوم والمجهول صفتا نقيض تمنح القصيدة مزيداً من الآلق والغموض يدفعان بالقارئ للاستزادة من القراءة واتمام أبياتها بقصد معرفة هذان النقيضان وتفاصيل ما دعى الشاعر تضمين قصيدته تلك المتضادات. ولاتكتمل حبكة العمل الفني، ونعني القصيدة مالم يورد الشاعر تفسيراً لكل ما وظفه من غموض أو تورية في طيات أبياته، وفيها ذهب الحطاب ليورد معلوما (للمرة الأولى) يتداخل مع مجهول (يحدث هذا)، ثم أن يجسد الوصف بالمُعرف (ان تتركني بدرية نعمة)، وبعدها يداخل بين الحاضر والمجهول (وتذهب بزيارة مجهولة).

للمرة الأولى، يحدث هذا:

ان تتركني بدرية نعمة

وتذهب بزيارة مجهولة!!

صورة احسبها لاتمر دون أن تُشرَح تفسيراً وتفصيلا، أي تكوين وروعة في التداخل أن يجمع الشاعر كل تلك المعاني والتكوينات اللفظية والبصرية والسمعية في اطار واحد احتوى التشويق والتوقيت والتثبت الشخصي، مؤطراً بدلالة المجهول الذي تمثله الزيارة.

أو أنك تعيشين الان"حياة سلبية!!"

أو إنك ... ميتة بالكاد.

*

فحياتك المسكوت عنها في وادي السلام...

هي ما يشتغل العلماء على تبنيه الآن

*

: النوم من دون تأويل،

أو

شروحات غير مستوفية، مع ذكر الشيء بما يناسبه

لصعود بدرية نعمة إلى حوليات النجف الكبرى..

مرثية أقل ما يقال فيها، إنها مجموعة متكاملة من الفن واللوعة والشجن، إنها تتوشح رثاء، لمن استحقت أن تقال فيها تلك الأبيات، ترنيمة حزينة عزفها جواد الحطاب، فاقت ما أردفه على (جثة البيانو).

***

سعد الدغمان

في المثقف اليوم