قراءات نقدية

مفهوم الأدب الرصين

فِي هَذَا المَقال لا أَنوِي وَضعَ النِّقاط عَلَى الحُروفِ، ولا تَحدِيدَ مَفهُومِ الأَدبِ الرَّصينِ ولا تَمييزهُ عَن سِواهُ ..

أردتُ فقط عَرضَ مجموعةٍ من التَّساؤلاتِ التي حرَّكتْ ذِهنِي، عِندمَا تعمَّقتُ بالقراءةِ حولَ هَذا المَصطلحِ.

فربُّما نَهتدِي لطريقةٍ تَدفعُنا نَحو الصَّوابيةِ القَادمةِ من تَشاركيةِ الرَّأي!!.

ما هُو الأدبُ الرَّصينُ؟ ما موضُوعاتهُ؟ وهَل يُصنّفُ شِعرُ المَدحِ المُتكسّبِ وما يُوازيهِ ضِمنَ هذا النَّوعِ الأدبِي؟.

والشِّعرُ السِّياسِي أو الدِّيني الذي يَنتمِي لتَيارٍ مُعيّن يُدافعُ عنهُ بلا قَناعَة، بهدفِ الوصولِ وتحقيقِ المصالحِ الفرديةِ، وهو فِي معظمِ الأحيانِ يُخلِّفُ مُشاحناتٍ ونِزاعاتٍ فكيفَ يكونُ أدباً رصيناً ؟

قد يَقولُ البَعضُ إنَّه يُؤرِّخُ لحقبةٍ زمنيةٍ معينةٍ، والأدبُ غالباً ديوانُ العَربِ، لكنْ من وجهةِ نَظرٍ أُخرَى يُولِّدُ إشكاليةً لا مُبررَ لهَا.

ثمّ أدبُ الحُبِّ والغَزلِ الشّهواني الذي لا يَقترنُ بأبعادٍ تَخدمُ فكرةَ النَّصِ الرِّوائي أو الشِّعري هَل هو أدبٌ رصينٌ أم أدبٌ تِجاري؟ والشَّواعرُ اللواتي يَنشرنَ كتاباتِهن بابتذالٍ و استعراضٍ لا مبررَ له ألسنَ يمسسنَ هَيبةَ الأدبِ والأدبياتِ المُلتزماتِ، ويَبتعدنَ عن الرَّصانةِ؟.

ويَتساءلُ البعضُ هل للأدبِ أيديولوجيةٌ محددةٌ أم أنَّ أدلجةَ الأدبِ تَنفِي عنهُ سِمةَ الإحساسِ والشُّعور، وتَجعلُه أقربَ للزّيفِ.. الزَّيفُ الذي يحطُّ من قيمةِ المَادةِ المُقدّمة؟.

وهنا نَلمحُ تنافراً مع قَناعاتٍ أُخر، تَرى أنّ الأدبَ يَرتبطُ بفكرِ كَاتبهِ ومَوروثهِ الثَّقافي والبِيئي والإجتماعِي، ولا يمكن أن يَنسلخَ عنه؟ وفي الإجابةُ تَكمنُ الصُّعوبة كونهَا رَهنَ نَوايا الكاتبِ الصَّادقةِ أو المُواربة!!

ويَتواردُ بالبَالِ في سِياقِ الحَديثِ سُؤالاً هَل هناكَ مَقاييسُ فعليةٌ للأدبِ الرَّصِين تُحددُ مَوضوعاتهِ ومنهجهِ و أسلوبهِ؟ ومن هُم المقيِّمونَ ؟ وكيفَ يكونُ له مقاييسُ حقيقيةٌ ولم يَتوصَّلْ أولي الشَّأن حتَّى هذا الوَقتِ لتَعريفٍ صَريحٍ للشِّعر والأدبِ عُموماً؟ والخُلافُ قائمٌ حتّى الآن .

ما هِي اللغة التي تَرتقي بالأدبِ؟

الرَّكالةُ وضُعفُ المُعالجةِ وتَجاوزُ الحَدِّ في أخطاءِ اللغةِ والنَّحو أليست تَجعلُ منهُ أدباً غريراً لا رَصيناً؟.

يَقولُ قائلٌ أنَّ الأدبَ الشَّعبي هُو نَقيضٌ للأدبِ الرَّصينِ، بما فيهِ من لغةٍ عاميّةٍ وتناولٍ لمواضيعَ يوميةٍ عَاديّة؟ عِلماً أن الأدبَ الشَّعبي جزءٌ من تُراثِ الأمةِ والمُعادلُ المَوضوعي لهَا.

فكيفَ بالأدبِ الشَّعبي أنْ يَكونَ بَعيداً عَن الرَّصانةِ والجُمهورُ الوَافرُ مُقبلٌ عَليهِ كإقبالهِ سابقاً على مجلاتِ عَبير و أمثَالها؟!!

وأليسَ الجُمهورُ مقياساً لجودةِ الأدبِ أم أنَّ الجُمهورَ يتبعُ الذَّائقةَ العامّةَ المُمَنهجة، ولا يُعوّل عليه، وبالتَّالي يَبقى الرَّأيُ الأسلمُ للنُّخبةِ والنُّقادِ المُختصِين؟

البَعضُ يُرجعُ الرَّصانةَ للتُّراثِ بمنهجهِ الكلاسيكِي التَّقليدي الذي سَلكَهُ الأجدَادُ مُتناسينَ التَّطورَ الذي جَدَّ على الحَياةِ بتَأثيراتِ التّرجمةِ والمُثاقفةِ المُتبادلةِ النَّاتجةِ عن اختلاطِ الشُّعوب!!

ثمّ ما دَورُ المؤسساتِ الرَّسميةِ ودُورُ النَّشرِ في خِدمةِ هذا الأدَب ليكونَ بَعيداً عن الابتذالِ والاسفافِ؟ أم إنّ ثَقافةَ "الصَّرعة" التي تَدرُّ الأرباحَ هِي مَن تَحكمُ مُجتمعاتِنا ومؤسساتِنا، وبالتَّالي غَدا مَفهومُ "العِملة الجَيدة تَطردُ العِملة الرَّديئة" مَفهوماً لا مكانَ لهُ في سُوقِ الكُتبِ الأدبيةِ والسَّاحةِ الثَّقافية.

البَعضُ يَقولُ و أنَا مِنهم : اِكتبْ ما تَشاء ..اِكتبْ شِعراً أو نَثراً ..مَدحاً أو رِثاء ..كُنْ عُذرياً أو عُمرياً ..اِكتب بالسِّياسةِ أو بالدِّينِ ..لكنْ اِكتبْ بتَصالحٍ مع أدبكَ ..اِكتبْ بتصالحٍ مَع نَفسك وبالمصداقيةِ التي تَصنعُ الثّقةَ بينكَ و بينَ القَارئ ..عَالجْ مَواضيعَكَ بتفردٍ يُعبرُ عنكَ بَعيداً عن المَصالحِ الشَّخصيةِ والأيدلوجياتِ الجَاهزة، بلغتكَ شَكِّل بَصمتَكَ الخَاصةِ التي لا شكَّ سيكونُ لهَا طريقٌ لذهنِ المُستقبِلِ، وعندَها- إنْ لم يَخبْ ظَني- سَيغدو أدبكَ رَصيناً.

أخيراً..

ورغم كُلِّ هذهِ الأسئلة التي تَتراودُ وتَدورُ بفكرنِا وبينَ أوراقِنا، ورغمَ تعددِ الآراءِ و تَباينها فإنَّ مفهومَ الرَّصانةِ وَمصطلحَ (الأَدَب الرَّصِين)، ما زالَ يَنتظرُ تَعريفاً، ويَبحثُ عَن إجابةٍ تُحدِّدُ هَويتَهُ وعن منهجيةٍ تَحميهِ وتُحافظُ عَليهِ..؟!!

***

ثناء أحمد / كاتبة و شاعرة من سورية

في المثقف اليوم