قراءات نقدية

من حلمية صور الدلالات إلى أكوان شعرية الذائقة البوهيمية

قراءة في المختارات الشعرية (طيور طاغور الشاردة) ترجمة وإعداد عباس محسن

توطئة:

تشكل أسلوبية مقاربة الواقع الحسي بأقصى درجات امتداداته المادية والمعنوية، تلك الجملة من الحدود التفاعلية الواصلة بين (موضوعة ـ ذات ـ مقاربة ـ آلية تفاعل) وتتراكم هذه الحدود في الذهن التخييلي إلى ذلك الوجود الشعوري المستقل في كيفيات نومه ونضجه في أفق التجربة الشعرية ذات المديات المنظورة في بوتقة القصيدة.تظهر لنا من خلال المختارات الشعرية التي قام الشاعر والمترجم الأستاذ عباس محسن في نقلها إلى العربية، بمثابة الأيقونة الخاصة والعامة، التي تجمع طاغور رساما وشاعرا عبر ممارسة جمالية تبدأ من نقطة العلاقة الحاصلة بين كون أوليات الشاعر إلى تجربة الرسم والتخطيط استلهاما تخييليا بمعايير المحاكاة الخيالية الحرة والدينامية في قصائد هذا الشاعر. تواجهنا في مستهل المختارات ثمة دراسة توضح للقارىء كيفية نشأة هذا الشاعر السيرذاتية، انطلاقا نحو الكشف والامتداد في أسفاره بحثا وتطلعا وابتكارا، كما وطبيعة هذه الدراسة تشتمل على عرض حياة طاغور وكيفية بداياته كرسام وشاعر، إلى جانب عرض مطبوعاته الشعرية، وقد تنطوي طبيعة هذه الدراسة على آلية هذه الإضاءة أكثر منها من المقاربة النقدية الكاشفة والمتوغلة في أعماق قصيدة الشاعر طاغور.

ـ البنيات الاستثنائية في آفاق قصيدة توالدات الذات

أن مؤديات القراءة في شعر طاغور، تقودنا إلى ثلاث أنواع من مضامين الحس المتخيل (الصورة ـ الاستعادة ـ الإدراك الحسي) وهذه البواعث التشكيلية بدورها ما شكلت الصورة الذاتية في أشكال ومضامين الدال القصدي الموظف عبر انطباعات الأغراض الشعرية الحسية في تجربة الشاعر، التي جعلت من حالة الكتابة للقصيدة بمثابة الاسترخاء والتحليق نحو معطيات نفسانية ومرجعية مؤطرة في حدود من الممكن واللاممكن في تواردات ضرورة المعطى التصوري الخاص في شحن طاقة الاحساسات الحية في تجربة لفظية من شأنها تقديم المحسوس في حدود تجربة ورؤية موضوعية وجمالية:

ياطيور الصيف الشاردة تعالي إلى نافذتي

لتغني وتطيري بعيدا،

وأوراق الخريف الصفراء،

ليس فيها أغنيات./ص15

1ـ شعرية الابتعاد وانطباعية حساسية النص:

لعل القارىء إلى هذه المقاطع الواردة في معرض الصفحة، يلاحظ فيها ثمة فعالية للصورة الشعرية التي تشتغل محفزات دوالها ارتباطا حيويا مع (شعرية التضاد) فهناك في جملة (طيور الصيف الشاردة) ذلك الأفق من المحتمل في كون الذات الشعرية تعرب عن ذاتها نحو وسائل ملاذية وهروبية من واقعها الخارج عن صورتها الذاتية الداخلية المأزومة ، أو أنها من جهة أخرى، تلوح إلى أفعال مسكوت عنها، خصوصا ما جاءت به جملة اللاحق (لتغني وتطيري بعيدا) إذا هناك استجابة لدى الشاعر بمواقف الضد من واقعه الماحولي، اشتغالا بما تمليه الجمل اللاحقة (أوراق الخريف الصفراء ـ ليس فيها أغنيات) أن الانموذج الدلالي في منحى القصيدة يقترح لذاته بديلا محتملا نحو التركيز على ثيمة (الشرود ـ الخريف ـ بعيدا) وتبلغ هذه الدوال بؤرتها التشكيلية في ترقب مخبوء المعنى الكامن في مؤثرات الجملة الختامية (ترفرف وتسقط مع تنهيدة حسرة) أن أداة التحول الأعمق جاءت مع هذه الجملة الأخيرة، التي تكشف لنا عن ضدية أفق الخارج الذاتي إزاء المعطى الدلالي في موضوعة (يا طيور الصيف الشاردة) لذا فإن تفكيك النص على هذا النحو، قدم لنا ذلك الهاجس في أن تكون واقعة القصيدة هي الحاصل الأحوالي المردود إلى واقعة الشاعر المتلاحمة في خطوط هامشها الحياتي المنفصل عبر استرجاعات وتماثلات اللاستقرار في معادلة الصورة الشعرية لديه.

2 ـ نزعة العاطفة وسؤال ترحال الذات الدالة:

يمثل المعطى الخارجي المرتبط بالتجربة الحسية والاغترابية للشاعر، عبر ذلك القدر من الاستجابة التي تخضع لآلة التفكير الحلمية، وصولا إلى المعطى الداخلي الماثل بهواجس (الترحال ـ البعد ـ الوحدة ـ العزلة) وما يتمخض عن هذه الصفات، هو ذلك التمكن في توظيف المعادلة الذاتية كطاقة تصويرية، تعبر عن مظاهر المعايشة والمشاهدة والتوغل في مساءلات الذات:

ـ 2 ـ

يا جوقة موسيقى الرحالة الصغار العالمية،

اتركي أثار أقدامك على كلماتي .

ـ 3 ـ

العالم ينزع أقنعته الضخمة من أجل حبيبته

تصبح صغيرة مثل أغنية واحدة،

كقبلة خلود واحدة./ص15

أن التصوير الشعري في المقطع الأول يبلغ من وحدة الاستنجاد بما يكفل للمسار التلفظي تركيزا ومساحة واضحة من رغبة الشاعر في الجنوح نحو فاعلية خروج كلماته بوصفها الصورة التي تحمل ذاته نحو مدن الخلاص، حيث الآفاق الحيوية في أدق مفاصلها تأملا وروحا وعبر فضاءات لا تشغلها سوى الموسيقى وإيقاعات العلاقات الحميمة مع الأشياء والحالات.تجسد حالات المقطع اللاحق ذات الإحالة على دلالة المعنى الكامن في قلب الشاعر، إذ تكشف لنا جملة (العالم ينزع أقنعته الضخمة من أجل حبيبته) هذا الانفصال التام عن دائرة التمويه، نزولا إلى زمنية الوجه المحموم الذي يسعى إلى الانتماء عبر آنية حكاية عشق، وقد تكون مقصدية الشاعر أوسع من هذا المعنى لتعالج قضايا تخص طبقات من السلطة وهم يحاولون التوحد مع أفعال الذات الحسية، تطهرا لهم من أدران الزمن المخادع (تصبح صغيرة مثل أغنية واحدة، كقبلة خلود واحدة) وعلى هذا النحو بوسعنا القول إن الدلالة التشكيلية في دوال النصوص، حلت بمثابة معادلات لأوجه انعكاسات أحلام الشاعر وحركته المتخيلة في آفاق الموضوعة الخاصة من الاتجاهات الفعلية الواردة في المحتمل القصدي.

ـ المفارقة الفنية في قصيدة الظل

لأجل دحض فرضية كون قصيدة طاغور هي من أساليب الهايكو، سوف أوضح للقارىء ببساطة بأن ليس كل ما يكتبه طاغور هو من شعر الهايكو، ذلك لأن جملة توظيفاته للقصيدة كانت محملة بالبلاغة والاستعارة والمجاز، في حين أن طبيعة الهايكو لا تتسم سوى بعدة كلمات خبرية ـ نثرية، لا تفارقها التقريرية الصحفية في أفضل أحوالها.أما ما تعرفنا عليه في هذه المختارات الشعرية، فيصح على بعضها اختياره ضمن قصيدة الظل أو التوقيعات أن صح لنا ورود المصطلح في معايير النقد الشعري. نستخلص بالمقابل من كون قصيدة طاغور هي أحدى تجارب قصيدة التوقيعات، ذلك الأسلوب من التوظيف الخاص بدلالة (المفارقة الفنية) والتي يبدو من خلالها الخطاب الشعري وكأنه الحضور الدلالي بالمغايرة والاختلاف، أي بعكس ما تظهره نواة الجملة من مرسلات لفظية متفقا على ظاهرها من المعنى بادىء ذي بدء:

ذات مرة حلمنا أننا كنا غرباء

استيقظنا لنجد أنفسنا

قد أصبحنا نحب بعضنا البعض ./16

أن مجال الممكن الفعلي في مستهل النص، يلوح نحو ذلك الأداء المؤشر نحو دال (غرباء) إي بمعنى الدلالة المشتملة على (وحشة ـ انفصال ـ تيه) ولكن سرعان ما يتم التحول الخبري في جملة (استيقظنا لنجد أنفسنا) إذا المحقق الحلمي كان هو الفاعل في صيغة (أصبحنا نحب بعضنا) ولعل ما يحفز رغبتنا في التأويل تركيزا، هو قولنا بأن فاعلية الإضمار في الشطر الأول من النص، هو ما قادنا نحو الوثوقية بمستوى الحلم الذي كان يصبو لذاته نحو (الغربةـ الغرباء) ولكن مستوى فاعلية ومقصودية (ذات مرة حلمنا) تنفتح بالمقترح الحلمي نحو صيغة غير مستقرة بعد اكتساب حالات المحتمل نوعا من الانفصال عن الحلم لاحقا (استيقظنا) بمعنى إن الذهن كان في ظاهر نوبة من الحلم والنوم الإيحائي، لذا جاءت مصورات الشطر الأخير بوصفها حالة مفارقة، نظرا لأن حالة الغربة و الأغراب حالة حسية عبر حلمية بمبلغ مستوى الواقع المتحقق في حيز محتملات الملفوظ.إلا إن الشاعر يستدرك ذلك في مقدار تحول الحال والإثارة، ليعيد قلب الحدود في تفاصيل مفارقة في الملفوظ والمعنى، غير إنها في الوقت نفسه تشع دهشة لدى متلقيها عبر مستوى خاص من الرؤية والتدليل.والأمثلة واضحة على هذا النوع من الدلالات الشعرية قاب قوسين: (ما تفعله لا يمكنك رؤيته، ما تراه هو ظلك فحسب/ لا أستطيع اختيار الأفضل..الأفضل يختارني/ يلقون بظلالهم قبلهم ، أولئك الذين يحملون فوانيسهم على ظهورهم / أشكرك لأني لست أحدى عجلات الطاقة، لكني واحد من المخلوقات الحية التي اصطدمت بها) .

تعليق القراءة:

وأمام هذه الشواهد من النصوص التفارقية والمواربة القولية، تحيلنا آليات صورة قصيدة الشاعر طاغور إلى حسابات حالة خاصة من البوهيمية الإبعادية ذات الأشكال التي تأخذ لذاتها فسحة من الإنتاج الدلالي ذي الطابع الشعري المزدان بالتواصل والفواصل والخطوط الرسمية المعادلة التي تتوازن في مكوناتها الأحوالية جملة خصائص من التشكيل والانهمار والفيض في التفكر والتأمل البوهيمي بتحليقات طيور الشاعر الشاردة نحو منصة الانموذج الشعري الذي يسعى قدما إلى تأسيس أحواله وذاته الكامنة من خلال مقصديات صور الدلالات المنقادة إلى وقائع شعرية الذائقة البوهيمية.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم