قراءات نقدية

تفكك / تفوق أسري حضاري غربا.. قراءة في القصة "الكلب ليبر يموت"

هذه القصة رتبت بشكل مدروس ضمن سلسلة قصص المجموعة "أوان الرحيل". مضمونها يغني مضامين النصوص قبلها وبعدها بتأثير قوي على نفسية المتلقي وعقله ووجدانه. تتوالى الاختلالات في المنظومات التنشئوية عربيا وتتفاقم وتتعمق أزمات التنظيمات الاجتماعية وتتواصل. اشتدت حدة العشوائية في الأنظمة العامة القطرية. اختلت شروط العيش المشترك وتجبر الموت المعادي للنهايات الطبيعية، وأتيحت له الفرص السانحة للاقتراب أكثر فأكثر بنعيقه المشؤوم من الرؤوس التائهة. إنه تحذير بمخاطر استفحال الخراب الحضاري النهائي في روح الأمة العربية. لم يعد عدد كبير من الجماهير قادر على تحمل أمانة الاستخلاف في الأرض، بل أغلبيتهم لا يستوعبونها غير عابئين بمآل الأوضاع والمستقبل، فيفضلون الهجرة والاغتراب متكيفين مع ضغوط نزعات الميز العنصري بحثا عن فضاء عيش آمن.

بالرغم من كون العنوان فاضح إلى حد ما "الكلب ليبر يموت"، واللجوء إلى المباشرة في عتبة القصة، فإن النص في مجمله رائع بمقاصده وتقنيات سرد أحداثه. كلمة "ليبر"، اسم الكلب، تعني بالألمانية المحبة. لقد اختارت له اسم بلغة بلاد أصله "ألمانيا". هذا مؤشر دال كونها شخصية فرنسية راقية ثقافيا. تنحدر من أسرة عريقة. كان جدها الأكبر أحد علماء الآثار الذين رافقوا نابليون إلى مصر، وأنها تجيد قراءة اللغة العربية، وهي تعرف الشيء الكثير عن الحضارة العربية الإسلامية. أبرز لنا القاسمي أن مدام ديبون سليلة أسرة كان أفرادها فاعلين في الحركة الاستشراقية. توالت الكشوفات والدراسات في العالم العربي، وأعطيت الانطلاقة للحركات الامبريالية واستنزاف خيرات المنطقة بالحديد والنار. فضح الكاتب تناقضا صارخا في شخصية المدام. اختارت اسم "ليبر"، وهي على علم بكل صغيرة وكبيرة عن أهداف الاستشراف والاستعمار. ارتباطها إذن بالكلب هو مجرد حالة نفسية ناتجة عن تدهور قيم العيش المشترك في وطن انتمائها. القارئ سيجد نفسه مضطرا لمساءلة نفسه: لماذا لم تختر المدام التكفل بأحد الأطفال غير الراشدين بدون رفيق ولا مأوى بفرنسا  (Mineurs Non Accompagnés)أو العمل في المجتمع المدني لدعم اللاجئين المهجرين من دول الجنوب؟

نفهم في مطلع النص أن كلبا في ملك امرأة فرنسية، جارة "سمير" الشاب العربي، مريض جدا ويحتضر في بيت صاحبته. أنينه المضني يصل إلى مسامع الشاب العربي، فيطرد النوم من جفونه. التعايش مع الكلاب والعناية بهم بالنسبة له أمر خارج عن قواعد تنشئته وتعوداته. الوضعية الصحية للكلب هي مصدر ضجر عاشه أكثر من سبعة أيام.

قدم لنا الكاتب كل الظروف والأسباب التي تدفع الناقد للبحث وراء نفسية وعمق الشخصيات وما وراء أفكارها ومعاناتها أو ما يعتمل في ذاتها من تناقضات. غاص بنا في أغوار أحداث القصة بلغة رفيعة المقام ومتينة الوقع. حركة معاني عباراتها تدور في مشهدية سينمائية عالية الدقة وفي وجدان المتلقي. إجمالا، أمتعنا القاسمي بنص سبك كلماته بحِرَفِيَّة دون إسفاف أو ترهل، تاركا للقرارئ مساحات واسعة للتأويل وفك رموز المقاصد والدلالات.

غرفة سمير وغرفة الفرنسية متقابلتان. هو لا يشعر بأدنى تعاطف اتجاه معاناة الكلب. لكن حشرجته تخترق أذنه كسهم مسموم فلا يجد النوم أي منفذ إلى جفونه. شدة اختناقه جعلته يفكر في التخلص من الكلب نهائيا. هو ابن ثقافة تعتبر الكلب حارسا خارج المنزل والاهتمام به يقتصر على إطعامه بقايا غذاء الأسر المحروسة. أدهشته المكانة الراقية للكلب ليبر في حياة الفرنسية. حتى وإن أراد النيل منه، فالسبيل لتنفيذ ذلك صعب للغاية. الوصول إلى القمر أيسر من الانفراد به هذه الأيام. المدام ديبون لا تفارقه البتّة، فهي تمرّضه، وتواسيه بلمساتها وهمساتها، وكأنه فردا دمويا من أفراد أسرتها. الفرنسيون يطعمون كلابهم بأيديهم، ويغسلونها في حمّاماتهم، ويفعلون كلّ شيء من أجلهم، وحتى البقالات الكبيرة تمتلئ بالأطعمة الشهيّة الخاصّة بهم. يعيش الإنسان الغربي الميول لإدمان معاشرة الكلاب والقطط، في سياقات وطنية وقارية كونية يعيش فيها الأطفال الجوع والمرض والاستغلال بمختلف أنواعه.

سمير لا هروب له من إظهار التضامن والمواساة للسيدة جارته. لم يجد بدا من مساعدتها وتخفيف العبء عليها. كان يحمله معها هبوطا ونزولا رغم ثقل وزنه من الطابق الرابع لتمكينه من قضاء حاجته. كان الكلب كبير الحجم وثقيل الوزن من نوع الراعي الألماني المعروف. تعجب سمير من ارتباط جارته بكلبها ورفضها لقتل الرأفة الذي نصحها به الطبيب البيطري. لقد اعتبرت ذلك إهانة لها وسلوكا وحشياً ضد حق كلبها في الحياة وتعبيراً عن فقدان الذوق واللطف الرفيعين لدى الفرنسيين. غضبت وحاولت أن تمتحن سمير سائلة إياه عن موافقته من عدمها بخصوص ما اقترحه الطبيب عليها. اعتبرته من ورثة الحضارة العربية ذات الصلة القوية بالكلاب. تهكم سمير منها خلسة هامسا لنفسه: هذه السيدة لا تعرف شيئا عن حضارتنا. فهي لا تعلم أنّ الكلب لدى قومه نجس.

لقد برع الكاتب بحياده في هذا النص الرائع. اقتصر على ترتيب التفاصيل وعبارات الحوار والسرد على لسان الراوي، تاركا للقارئ حرية التموقع العاطفي. تساكنت الشخصيتان البارزتان في القصة بشكل متقون إلى أن تعمد الكاتب ترجيح الكفة لصالح المدام في آخر القصة بشكل واضح. اختفى سمير قبل النهاية عن توالي الأحداث، ولم يبق فيها إلا السيدة ديبون وكلبها. وصف وضعيتها الاجتماعية بشكل يثير التعاطف. هي امرأة أرملة وحيدة في مجتمع تتفاقم فيه الانكسارات الأسرية والاجتماعية. هي وحيدة مع كلبها الذي داهمه المرض إلى درجة الاحتضار. تصلّي من أجله راجية من الله شفاءه ونجاتها من غربة في حضارة عريقة وئد الدفء الإنساني بها. تستحضر ذكرياتها معه التي دامت أكثر من خمسة عشر عاماً. فلا مؤنس لها طوال تلك السنين العجاف إلا هو. يملأ حياتها في الصباح والمساء والليل. يضع رأسه الدافئ على فخدها ليلا فتستسلم للنوم. يساعدها على ترتيب أغراضها ويساعدها على إيجاد وجلب المفاتيح قبل خروجها. يخرج معها في المساء إلى الحديقة مرحا مغتبطا.

لقد قدم الكاتب وصفا دقيقا لمآل الحياة الاجتماعية غربا. تفككت الأسرة وتجبرت الوحدة والعزلة والقلق واستفحلت التناقضات والمكبوتات النفسية. في نفس الوقت وضعنا أمام تقابل لمقومات حضارتين وتطوراتهما. سمير المغترب الساخط على الأوضاع الذي لم تحتضنه بلاده. والمدام الوحيدة الحانية. أزيح سمير عن المشهد كباحث عن لقمة عيش وسلام يعيش بدوره العزلة. تغير موقفه قبل مغادرته الأحداث متكيفا مع واقعه الجديد. لم يعد يمتعض من أنين الكلب بل اهتم بلحظات نهايته: "أنفاس الكلب ليبر تتلاحق صاعدة هابطة، وتمتزج بحشرجة حزينة، وتختلط مع نحيبٍ خافت، ثم تتلاشى رويداً رويداً، ولم يبق سوى نحيب الأرملة المتوجّع المتقطّع.

مكانة القصة الحالية بين قصص مجموعة "أوان الرحيل" تؤكد حرص الكاتب التعاطي مع الثيمات ذات الصلة بمستوى التحضر والنماء بغية فتح النقاش فيها وإغنائها واستخلاص السبل الحاملة لإمكانيات التغيير الكامنة. تناول قصته "كلب ليبر يموت" على شكل كليشيات تقابل بمنهجية هادفة سلوكيات شعوب الحضارتين العربية والغربية اتجاه الحيوانات الأليفة خاصة الكلاب والقطط مع تجاهل واضح لم ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بالإنسان. إنها مقارنة لتقييم المسار التنموي وارتباط مؤشراته بمفهوم كرامة الإنسان والحيوان على السواء. لقد تبين غربا أن التراكمات في تقديس كرامة الإنسان الغربي تحولت إلى دافع أساسي ومقوم مدعم لتعميم الدفاع على الحيوانات وتطوير حقوقها. في المقابل تم التعاطي مع واقع العرب في هذا المجال وكأنه أصيب بترهل وتراجع كبير متباين حسب الطبقات الاجتماعية. أبرزت القصة منطقين لعلاقة الإنسان بالإنسان كونيا. حقوق الإنسان الكونية بعيدة كل البعد عن الواقع المصلحي والمخططات الجيواستراتيجية المصلحية.

بالفعل، على لسان السيدة الفرنسية، كان العرب تاريخيا جد متحضرين ولا يرضون بقتل الكلاب "أنا متأكدة، يا عزيزي سميغ، أنَّك لا ترضى بذلك؛ فأنتم العرب أربابُ مدنيةٍ عريقة. لقد كان جدّي الأكبر أحد علماء الآثار الذين رافقوا نابليون إلى مصر، وأُمي كانت تجيد قراءة اللغة العربية، وأنا أعرف الشيء الكثير عن حضارتكم. فأنتم تعتبرون الكلبَ كائنًا حيًّا كالإنسان، له مشاعره وأحاسيسه التي ينبغي مراعاتها".

بلور الكاتب مشاهد التقابل بين الحضارتين في تعاطيها مع الحيوانات الأليفة بفنية عالية. فبقدر ما أثار تعاطفا كبيرا مع المشهد الذي تتألم فيه الفرنسية إنسانيا لتوجع كلبها ليبر المحتضر مرددة عبارات مواساته بحنان وتأثر شديدين، بقدر ما برع في وصف الضجر الذي أصاب سمير.

قد نستحضر المقولتين "الإنسان ابن بيئته" و"من شب عن شيء شاب عليه" لتفسير موقف الشاب العربي. فعلا كل الدول العربية كانت تنظم رسميا وفي العلن حملات في القرى والمدن لوأد الكلاب الضالة والمريضة "كانوا يفعلون ذلك في قريته الصغيرة، فيريحون الكلب المسعور أو المسلول ويستريحون"، لكن الالتزام بالقوانين واستيعاب درجة وقعها في دولة الإقامة جعلته يرغم نفسه على التحمل، وكأنه يخضع نفسه لضوابط تنشئة جديدة. لقد اعتبر الإقدام على تنفيذ ما يراوده من أفكار عدائية من المستحيلات.

أكثر من ذلك علاقة سمير مع السيدة ديبون، وحرصه على كضم غيظه وغليانه تعبيرا على تحضره، جعله يكابد بصبر عبء مساعدتها "يحاول أن يُخفي لهاثه، ويضبط أنفاسه"، ولا يتردد في مساعدتها على نقل الكلب المعدوم إلى الطابق الأرضي "في الصباح وقبل أن يذهب إلى جامعته كان عليه أن يساعد مدام ديبون على حمل هذا الكلب في بساطٍ، والنزول به إلى الطابق الأرضيّ". موازاة مع هذا التقابل الفني لمقومات حضارتين، بين الكاتب كذلك مقاومة الفرنسيين لمطلب تشريع "قتل الرأفة". لقد رفضت مدام ديبون بشدة تطبيق هذا الخيار على كلبها الراعي الضخم.

لا يمكن للقارئ وهو يلتهم بلذة هذه القصة أن لا يقابل في مخيلته ماضي وحاضر الثقافة العربية الإسلامية، التقابل الذي سيفضح بؤس الصورة الحالية لحياة الإنسان. حق الإنسان في الكرامة والحرية والرفاهية في الحياة لا زال مطلبا ملحا لا يجد بالشكل المطلوب منفذا للبرامج العمومية تفكيرا وتنفيذا. المؤسسات لم تتطور بالشكل الكافي. مسار تأهيلها لا زال في بدايته. الشوارع مغمورة بالمشردين والمتسولين والمختلين عقليا.

فباستحضار تفاوت حدة انشغالات الدول العربية بالتنمية البشرية والاجتماعية تبرز الخصوصية المغربية بجلاء. لقد اتخذ هذا البلد قرار تعميم مؤسسات الصحة النفسية والعقلية بالتراب الوطني، لكنه حدة إكراه الإمكانيات جعلته يفضل التغطية الصحية والاجتماعية للأسوياء. أما ما يتعلق بالكلاب الضالة، فعمليات وأدها في السابق كانت جد مخيفة بسبب عشوائية تنظيم حملاتها. فهي مشابهة إلى حد ما لواقع بلاد سمير: "لا شكَّ أنَّ هذه العجوز تهرف بما لا تعرف. آه لو رأتِ الكلاب السائبة في البلدة المجاورة لقريته، حينما كانت الشرطة تطاردها من آونةٍ لأُخرى، وتقتلها رميًا بالرصاص. هو يذكر ذلك جيدًا، ورآه بعينيْه عندما كان صغيرًا. وكان أخوه الكبير يداعبه أحيانًا بقوله:لا تخرج، يا سمير، من الدار هذا الصباح، فالشرطة تتصيّد الكلاب اليوم، وأخشى أنْ يتوهَّموا بكَ". أما اليوم، مع تقدم المغرب في احترام حقوق الحيوان، أصبح التعاطي مع الكلاب الضالة مختلفا بشكل كلي. فنتيجة لما تسببه من مصائب وأضرار بليغة للمارة خصوصا للأطفال، دفع الدولة منذ سنوات إلى التدخل لمواجهة الظاهرة ببناء ملاجئ خاصة لجمع هذا النوع من الكلاب للعناية بهم وترويضهم وإعادة إدماجهم. الظاهرة مستفحلة في المدن الصغيرة والمتوسطة والقرى وتكاد تنعدم في مراكز المدن الكبرى الميتروبولية (الرباط، مراكش، أكادير، طنجة، تطوان، العيون، الناظور، وجدة، .....).

التنشئة المندمجة للكلاب داخل الأسرة عربيا لا زالت بعيدة المنال. هناك تطورات في مجال تغذيتهم والعناية بهم، لكن أوكار معيشتهم لا زالت في سطوح المنازل في المدن، وخارج الدور في العالم القروي "وحتّى في قريته، حيث تُستخدَم الكلاب للحراسة، ليس هنالك من فلاحٍ يسمح لكلبه بولوجِ الكوخ أو الاقتراب من مجلسِ الجماعة. الكلابُ جميعها نجسة".

ببراعة المحترف في التصوير التوثيقي، أبرز الكاتب كليشيين مضيئين للتعبير عن تباين الهوة الثقافية والحضارية بين شعوب العالمين الشمالي والجنوبي. فسمير لم يفرق بين أكل الكلاب وأكل البشر في الفضاء التجاري "لا ينسى حينما اشترى ذات مرَّةٍ، في أول أيام إقامته في باريس، بعضَ المعلبات لنفسه من البقالة الكبيرة لرخص ثمنها". إنها المعلبات التي قوت من مكانته لدى صاحبته: "الآن أعرف أنَّكَ تودّني حقًّا، فالمثل الإنكليزي يقول: " مَن يحبُّني يحبُّ كلبي"".

مكانة الكلب غربا ارتقت إلى مكانة الأطفال لدى الأسر. يمكن التجرؤ على تفسير ذلك باستفحال التفسخ الأسري وارتفاع نسبة الأمهات العازبات.... الشعور بحب الحيوان الأليف أصبح ثقافة راسخة غربا، فهو المؤنس والوفي والمدافع على صاحبه أو صاحبته "تغمض عينيْها المرهقتيْن، كأنَّها تصلّي من أجل ليبر. وتطول إغماضة عينيْها، وتمرُّ في مخيَّلتها صورٌ من رفقتها الطويلة السعيدة مع ليبر. منذ خمسة عشر عامًا وليبر رفيقها في وحدتها، أَنيسها في عزلتها، يجلس معها في المساء والظلام يدثِّر المدينة النائمة، والمطر يغسل نوافذها برفق، والريح تداعب أغصان أشجار حدائقها المستسلمة، وليبر يضعُ رأسه الدافئ على فخذِها، فتستسلم للنَّوم. وفي الصباح، حينما تستعد للخروج تخاطبه: ليبر، أينَ وضعتُ المفاتيح؟ ليبر، ألَمْ ترَ حقيبتي البيضاء؟ ابقَ هنا حتى أعود. كُنْ عاقلًا ... وفي العصر، يخرج معها إلى الحديقة القريبة، وهو يقفز هنا وهناك. وترمي له الكُرة، فيلتقطها، ويعود إليها مسرعًا. وفي الطريق إلى البيت، يلتقي ليبر بكلبٍ آخر، فيقف كأنه يتبادل التحية معه، فتتبادل هي الأخرى كلماتِ المجاملة مع السيدة صاحبة الكلب الآخر، إنْ لم تكُن التقتها سابقًا. وإذا كانت من معارفها، تشعَّب الحديث.ـ آه يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فارقني ليبر؟"

حالة سمير هي نموذج مواطن عربي ضحية مجافاة البلاد العربية للمتعلمين وللنوابغ من أبنائها. استلب واغترب في فرنسا مستسلما للنفعية رابطا مصيره مع امرأة فرنسية. كما طرحت القصة إشكالية تناقح الثقافات بالتلازم في مجال أنسنة التعاطي مع الحيوان وتطبيع وجوده داخل الأسر كعنصر منها يحتاج إلى الاهتمام والعناية والحنان وإدماجه في انشغالات أفراد الأسر.

العلاقة بين الحيوان والإنسان غربا لا يمكن أن تخفي حقائق علاقة الإنسان الشمالي بالجنوبي. التاريخ زاخر بالأحداث الهمجية والعنيفة التي ميزت عقود الحركات الامبريالية. هذه العلاقة كانت كلها ألم ومعاناة. وئدت قبائل بأكملها، وعذبت أخرى. في الوقت التي كانت تتطور العلاقة بين الإنسان الغربي وحيواناته الأليفة، كان التعذيب يمارس في أبشع تجلياته على الإنسان في عالمنا الفسيح الممتد من الخليج إلى المحيط.

ليبر هو مكون أساسي في قصة رفعت من شأن محبة الحيوانات في الحضارة الغربية. هو مؤنس للإنسان واقيا إياه من ويلات الوحدة بمختلف أشكالها. الكلب غربا يشارك سيدته العازبة فراشها طاردا وحدتها. الكلاب والقطط والأسماك والسلاحف.. تحولوا إلى أفضل الأصدقاء ومنافذ شافية للهروب من الإحساس بالوحدة. الفرنسيون ينعتون بعشاق الكلاب. إنه هوس يجتاح الأغلبية (أكثر من نصف السكان). الافتقار إلى الصداقات الحقيقية زمن الفردانية تمخض عنه تفاقم اختلال وظائف الأسرة ككل وابتعادها عن أدوارها التربوية وبناء شخصيات الأجيال وتوجيههم. ليبر بالنسبة للمدام هو أقرب ما لديها في الحياة. تتعايش معه بعطف كبير طوال اليوم ولا يفارقها حتى في النوم.

بالتفاقم الملحوظ لحدة التعسف الغربي لترسيخ ثقافة صناعة الإنسان العالمي كثرت حالات الانفصال عن الأسر وتفشي النزاعات بداخلها وساء السلوك المدني. التوترات والنزاعات تزداد عنفا متجاوزة بسرعة مراحل الكمون والاستثارة والاصطدام فاتحة المجال للتسابق في البحث عن الحلفاء الخارجيين، الشيء الذي يعجل من عمليات إنهاء علاقات الزواج وإهمال الأطفال، وبالتالي الإسهام في استمرار انهيار بنيات الوحدات الاجتماعية بسرعة غير مألوفة.

أما في الحضارة العربية الإسلامية، العناية بالكلاب لا زالت تعتبر سلوكا مكروها، وتملكها الوظيفي مرتبط بأدوارها الهامة في الحراسة والصيد والرعي.

***

الحسين بوخرطة

..........................

النص الكامل للقصة: الكلب ليبر يموت

أنفاس الكلب المريض تتردَّد، تتصاعد، تتلاحق، وتمتزج بحشرجةٍ، فتطرد النوم الوجل المتعثِّر على أهداب عينَيْ سمير. منذ سبع ليالٍ متواصلة، والكلب ليبر يحتضر في الغرفة المجاورة حيث تنام صاحبة المنزل؛ والجدار المصنوعة من ورقٍ مقوّى لا يقوى على منع توجُّع الكلب أو صدِّ عبارات المواساة التي تردِّدها صاحبته الفرنسية، من اختراق أُذنَي سمير، وحرمانه من النوم.

كم مرَّةً غازلتْه فكرة التخلُّص من الكلب، ألحَّت عليه، ذكَّرته بالماضي، كانوا يفعلون ذلك في قريته الصغيرة، فيريحون الكلب المسعور أو المسلول ويستريحون. ولكن، كيف السبيل إلى ذلك؟ فالوصولُ إلى القمر أيسر من الانفراد بالكلب ليبر هذه الأيام؛ إذ إِن مدام ديبون لا تفارقه البتة، فهي تمرِّضه، وتواسيه بلمساتها، وهمساتها، ونظراتها الحزينة، طوال النهار. إذن، متى يموت الكلب ليبر فيستريح ويُريح؟

في الصباح ـ وقبل أن يذهب إلى جامعته ـ كان عليه أن يساعد مدام ديبون على حمل هذا الكلب في بساطٍ، والنزول به إلى الطابق الأرضيّ، لكي يقضي حاجته في الشارع المجاور كما تعوَّد؛ ثُمَّ عليه أن يحمله معها، ويرتقي السلالم الطويلة، ليصل إلى الطابق الرابع، وهو يحاول أن يُخفي لهاثه، ويضبط أنفاسه. كم تمنّى لو أنَّ هذه السيدة اختارت كلباً أصغر حجمًا، وأقلَّ وزنًا من هذا الكلب الألمانيِّ الضخم من نوع الراعي، أو أَن هذه البناية القديمة لحقتها التكنولوجية الفرنسية على صورة مصعدٍ كهربائيٍّ.

ـ لنسترِح قليلاً هنا، ياعزيزي !

ـ كما تُحبِّين، يا سيدتي !

ـ تصوّر، يا عزيزي سميغ، أنَّ الطبيب البيطري الثاني الذي عرضتُ عليه ليبر لعلاجه هو الآخر، وبكلِّ وقاحة، اقترح إعطاءه الحُقنة (القاتلة). ما أَبشَع هذه الوحشية !

ـ لعلَّ الطبيب أرادَ أن يضع حدًّا لآلام ليبر ومعاناته، يا سيدتي !

ـ لقد فقدنا، نحن الفرنسيين، اليوم، الذوق واللطف الرفيعيْن اللذيْن كنّا نتحلّى بهما. أنا متأكدة، يا عزيزي سميغ، أنَّك لا ترضى بذلك؛ فأنتم العرب أربابُ مدنيةٍ عريقة. لقد كان جدّي الأكبر أحد علماء الآثار الذين رافقوا نابليون إلى مصر، وأُمي كانت تجيد قراءة اللغة العربية، وأنا أعرف الشيء الكثير عن حضارتكم. فأنتم تعتبرون الكلبَ كائنًا حيًّا كالإنسان، له مشاعره وأحاسيسه التي ينبغي مراعاتها.

لا شكَّ أنَّ هذه العجوز تهرف بما لا تعرف. آه لو رأتِ الكلاب السائبة في البلدة المجاورة لقريته، حينما كانت الشرطة تطاردها من آونةٍ لأُخرى، وتقتلها رميًا بالرصاص. هو يذكر ذلك جيدًا، ورآه بعينيْه عندما كان صغيرًا. وكان أخوه الكبير يداعبه أحيانًا بقوله:

ـ لا تخرج، يا سمير، من الدار هذا الصباح، فالشرطة تتصيّد الكلاب اليوم، وأخشى أنْ يتوهَّموا بكَ.

وحتّى في قريته، حيث تُستخدَم الكلاب للحراسة، ليس هنالك من فلاحٍ يسمح لكلبه بولوجِ الكوخ أو الاقتراب من مجلسِ الجماعة. الكلابُ جميعها نجسة. أمّا هنا، في فرنسا، فهم يطعمون الكلاب بأيديهم، ويغسلونها في حماماتهم، ويفعلون كلَّ شيء من أجلها، وحتى البقالات الكبيرة تمتلأ بالأطعمة الشهية الخاصَّة بالكلاب.

لا ينسى حينما اشترى ذات مرَّةٍ، في أول أيام إقامته في باريس، بعضَ المعلبات لنفسه من البقالة الكبيرة لرخص ثمنها، وعاد بها إلى الدار، وعندما رأتها مدام ديبون تهلَّلَ وجهها وهي تقول:

ـ شكرا لك، يا عزيزي سميغ، على هديّتك الكريمة. لا بُدَّ أنَّ ليبر سيقدِّر لك صنيعك بعد تناول هذه الأطعمة اللذيذة. الآن أعرف أنَّكَ تودّني حقًّا، فالمثل الإنكليزي يقول: " مَن يحبُّني يحبُّ كلبي". ربما لا تدري أنَّني درست اللغة الإنجليزية وسافرت إلى ..."

أمّا اليوم فليبر لا يقوى على الأكل منذ سبعة أيام، ومدام ديبون تجلب إليه طعامه في ميعاده، وتضعه أمامه، تقربه إليه، تدعوه متودِّدةً، فيلتفتُ بتودةٍ إليها، وينظر بعينيْن ذابلتيْن أسًى، كأنَّه يعتذر عمّا يسبِّبه لها من نصبٍ وحزن.

ـ أرأيت، يا عزيزي سميغ؟ لم يعُد ليبر قادرا على تناول طعامه، وأنا خائفةٌ، خائفةٌ حقًّا هذه المرَّة. يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فقدتُه؟

وتغمض عينيْها المرهقتيْن، كأنَّها تصلّي من أجل ليبر. وتطول إغماضة عينيْها، وتمرُّ في مخيَّلتها صورٌ من رفقتها الطويلة السعيدة مع ليبر. منذ خمسة عشر عامًا وليبر رفيقها في وحدتها، أَنيسها في عزلتها، يجلس معها في المساء والظلام يدثِّر المدينة النائمة، والمطر يغسل نوافذها برفق، والريح تداعب أغصان أشجار حدائقها المستسلمة، وليبر يضعُ رأسه الدافئ على فخذِها، فتستسلم للنَّوم. وفي الصباح، حينما تستعد للخروج تخاطبه:

ـ ليبر، أينَ وضعتُ المفاتيح؟ ليبر، ألَمْ ترَ حقيبتي البيضاء؟ ابقَ هنا حتى أعود. كُنْ عاقلًا.

وفي العصر، يخرج معها إلى الحديقة القريبة، وهو يقفز هنا وهناك. وترمي له الكُرة، فيلتقطها، ويعود إليها مسرعًا. وفي الطريق إلى البيت، يلتقي ليبر بكلبٍ آخر، فيقف كأنه يتبادل التحية معه، فتتبادل هي الأخرى كلماتِ المجاملة مع السيدة صاحبة الكلب الآخر، إنْ لم تكُن التقتها سابقًا. وإذا كانت من معارفها، تشعَّب الحديث.

ـ آه يا إلهي، ماذا سأفعل إذا فارقني ليبر؟

أنفاس الكلب ليبر تتلاحق صاعدة هابطة، وتمتزج بحشرجة حزينة، وتختلط مع نحيبٍ خافت، ثُمَّ تتلاشى رويدًا رويدًا، ولا يبقى سوى نحيب الأرملة المتوجِّع المتقطِّع.

***

د. علي القاسمي

 

في المثقف اليوم