قراءات نقدية

الشاعر يحيى السماوي.. ومكابدة التصالح بين الجسدي والروحي

في مجموعته الشعرية (بعيداً عنّي.. قريباً منك)

يقع الشاعر الوجداني في التباس القيم، تلك التي تحكم السلوك والتي تحكم الإبداع، سلطة المقدّس التي تقود الروح (السماء)، وسلطة الواقع التي تمتلك الجسد (الارض)، من هذا الالتباس يولد الصراع الدامي المختلط بالأحداث والألغاز، بالسموّ والسقوط، بالإنبعاث والدمار. فإذا تمرّد الشاعر على سلطة الروح وتحرر من قيود اليقينيات، سقط في وحل الجسد، وإذا ثار على سلطة الجسد وقهر إدّعاءاته وإغواءاته سقط في قدر الروح، وإذا تورّط برفض السلطتين معا للتحرر من الإشكالات المعرقلة للحياة وقع في التجريد، في فراغ المعنى، في مناورات الفكر.

والشاعر الوجداني لا يقيم سدودا بين الجسدي والروحي لكنّه لا يحلّ الصراع بينهما، لأنّه يحيا على هذا الصراع، إنّه يطير بهما معا لكنه ذلك الطيران الصعب الذي يحتمل التجاذبات والردّات والتمردات التي تثار في هذا الجناح أو ذاك، ونادرة هي لحظات التصالح بينهما.

وهذا النصّ: (بعيدا عنـّي..قريبا منك) يترجم هذه اللحظات النادرة في تصالح الجسدي والروحي، وتماثلهما في مواجهة ندّيّة في ذات الشاعر، لكي يكون طيرانهما من دون عوائق ومعارك وضحايا، وهذا التصالح ـ كما سنرى ـ لايحدث إلاّ في اللحظات الأخيرة من حياة الشاعر.

والشاعر يحيى السماوي، شاعر وجداني كبير، أضفى على الوجدان الشعري بُعـْداً تنويريا أبعده عن الإنغلاق والتسطيح والذاتية المفرطة، كما منحه فضاءً مفتوحا، وموضوعات تنزل الى العمق القصيّ من الذات مثلما تصعد الى سطح الحياة المحتدمة بالآني والعاطفي والسياسي، في خطاب شعري واضح حميم، خطاب المعاني الكبيرة واللغة الصافية والدلالات المغروسة في الوعي الجمعي.4333 يحيى السماوي

بدايةً من العنوان "بعيدا عني..قريبا منك" يفصح الشاعر بالتخلّي عن أنّاه وإزاحة كينونته ليكون الطريق ممهّدا للإتحاد بالآخر.

وكأنّه روّض ذاته على التنازل الطوعي عن تمرّده، عن مكنوناته السريّة، وكأنّ هذا التنازل هو التضحية التي لابدّ منها لإستحقاق كفـّارةٍ واجبة.

إنّ النصّ بمقاطعه الثلاثة والثلاثين أشبه بعتبات تبتـّليـّة يرتقيها الصوفي ليتحوّل من (مريد) الى (وليّ)، أو هي أشبه بالصعود الى الجلجلة (ولكل شاعر جلجلته)، حيث يتسنّى له عبْر معاناة باهضة القسوة أنْ يصعد فوق الألم إثناء إجتيازه صفاءً روحيّاً يقرّبه من المراد، وهي أيضا (العتبات) تماثل حبّات المسبحة التي ينقطع العابد بتسبيحاتها عن الواقع ليتعلّق بالهيام الروحي.

والنصّ بعد هذا قصيدة حبّ حواريّة تتقنّع بخرقة الصوفي، لكنّها لا تقعُ في إغراءات أساليب الشعر الصوفي، ومكاشفاته الوجـْديّة ولغته الإشاريّة، وتوريّاته الملغزة، وإنّما تسعى الى هدف (طهراني) في تصفية الروح وتحريرها من عذابات الجسد ومداهناته:

صرتُ حـــراً،

قـَتـَلـَتْ كلّ شياطيني،

فأضـحى،

ناسكاً نُسـْـكَ نبـيٍّ جسدي...ص211

إنّ القصيدة بمجموع عتباتها تحتفل بالحبّ الذي يملأ الوجدان، ويفيض عليه رحمةً وديمومة وصفاءً، الحبّ المكتفي بنفسه، الذي يصعد فوق الألم والشهوة، الحبّ الذي يتناغم فيه الجسد والروح في نشيدٍ واحدٍ متـّصل، الحبّ المديني الذي هذّبته الحضارة، وعرّفه المجتمع، وطهـّرته المعتقدات والعرف، وخلخلت قواعده التراجعات والتوبات الروحيّة.

صحيح انّه حبّ غير مُعقلنٍ، ماتزال هواجس الروح البريّة تضطرب بأجنحته، لكنه حبّ مسيطر عليه، عبر زمنٍ من المعاناة والتراشق الظنّي، والمعارك السريّة والمعلنة بين الجسد والروح، بين الحلم والواقع، بين الذات والآخر.

إذن هذا الحبّ المديني ليس مدينيّـا بالكامل،إنّه يسقط ضحيّـة الحبّ الرعوي، فما شأن الحبّ الرعوي بشاعر مدينيّ، حتى لو اختلف مع المدينة واغترب عنها وفيها. فالمدينة ليست مكانا عاريا إنّها مجموعة محمولات تتفـصّـد منها أقنعة الحضارة وقيمها المتداولة كتراث ومفاهيم وأبنية سلوكيّة.

والشاعر لمْ يتقـرّ ـ في نصّه ـ المكان مصعّـدا به كإحدوثة سرديّة، وإنّما تركه مكانا مبهما غائما عن التوصيف، سواء أكان المكان سماوياً أم أرضياً، لأنّ مايحتاجه الشاعر من الأحدوثة هو الدراما وليس السرد.

لكن اللغة في تشكيلاتها التعبيرية، وأنساقها البلاغيّـة تكشف عن هذا الغموض الذي يكتنف المكان. فمفردات مثل: (الوردة،النجمة،

الماء،النهر،الندى،الشذى، الينبوع،الزنابق العذراء....) وثنائيّات مثل: (أقمت آصرة الهوى بين الحمائم والصقور، بين صحراء المراثي والسحاب، تنهال على الظلمة مشكاة الضياء، أنبذ الشهد وأحسو بكؤوس الطيش سمّا).

وملاذات مثل: (شباك الصيد، حضن الفضاء، مرّي بصحرائي، في خلوة الفجر على الساحل). تحملنا الى الطبيعة الخلويّة والمكان البرّي، وهذه التشكيلات اللغوية هي الأثيرة في قاموس الشاعر، بما يعني إنّها تحتمل التأويل بما يثقلها الشاعر بمحمولات المعنى، ومؤثراته البلاغيّة التي فاضت بكنايات وإحالات معروفة في سياق الشعر الوجداني .

إنّ روح الطبيعة الرعويّة هي المكان الحر غير المهذّب، الجمال الحسّي، الجمال المنفلت من عقاله دونما وصايا حضاريّة،

فكيف يأتلف مع شاعر مديني يغمس وجدانه بمائدة الله سعياً لتوبة أبديّة، لقناعات مؤمّـن عليها، وإيمانات بيض بعيدة عن الشعور بالذنب.

ربما في هذا التناقض تكمن فذلكة الشاعر الوجداني الذي يجمع المتناقضات، ويوحّـد الاضداد، ويخترق المحظورات.

"إنّ عقل الشاعر الناضج، أداة أصلح لاستقبال مشاعر وجدانيّة، متعددة للغاية، تتفاعل فيه في حريّة، وتتحـوّل الى مركبات جديدة" (ت. س. إليوت / مقالات في النقد الأدبي ـ ص13)

هذه المركبات الجديدة جاءت بشكل أحدوثة شعرية مؤسطرة تستعير من تراث وادي الرافدين بعض أنماط أساطيره ومسميّات شخصياته كما تقتبس من الصوفية حالات تدرّج الصوفي من مريد الى وليّ، وتعجنها بواقع معاصر ومشاغله المدويّة بحيث يتيه القارئ بين الأصل والهامش بين الأسطورة وظلالها المعاصرة بين الشخصيات ورموزها المفترضة إذا لم يمتلك خلفية ثقافية تعينه على تتبّع المراقي التي يصعدها الشاعر حتى يستحق التوبة.

هناك خيط درامي يربط هذه العتبات ببعضها، يشدّها ويجمعها في طريق واحد بشخصيات مرمّزة (البتول التي ليس تسمّى و صوفائيل)، وشخصيّات ثانوية تحاول خلق الاثر في بعض العتبات (الممرضة والطفل)، وحوارات هذه الدراما يديرها الشاعر بتقويل الشخصيّات، وإثراء الفضاء الوجداني بالإشارات والرموز، بتفجير ماهو حسّي داخل أقنعة التبـتّل الديني وبالعكس.

بعض هذه العتبات جاءت خارج السياق (9 و14)، وبعضها محطّات استراحة يتأمّل فيها الشاعر مفارقات حياته، يدرّب روحه على خلع آخر ورقة من كتاب الجسد، يتنفّس الصعداء قبل أنْ يرتقي عتبات أخرى.

والشاعر في استطلاعاته الوجدانيّة لم يتقيّد بالخط الدرامي الذي رسمه منذ عتباته الاولى، بل ظلّ يقفز على العتبات وبينها ويتناسى الإشارات التي بثّها في خطواته الاولى، ونثر في طريقه بعض أسراره وهوامشه، وسقطت من حافظته الواعية بعض خفايا النص، وخلط في مفارق النص بين الإذعان لسلطة البتول وبين مساقط همومه الوطنيّة:

صرْتُ الذليلة ـ نخلتي قالت ـ وكنتُ مدللةْ

بستاننا مرْمى الذئاب، وحارس البستان لصُّ

حصّتي دغْل، وحصّته البيادر والغصون المثقلةْ

الثوبُ ثوبُ الهاشميّ الطفْلِ،

لكنْ في جيوب الطفل نبلة حرملةْ

لان ّ الشاعر ليس في تقنيته كتابة دراما متسلسلة الحلقات، وإنما كتابة نص بقصائد يأخذ بعضها بتلابيب بعض، يشدّها نفَس دراميّ، نصّ شعريّ مبنيّ على مداخل رؤيويّة صُلبة ومقنعة.

انتظمت هذه العتبات بإيقاعات البحور الخليلية موسيقيا، وهي إيقاعات متقاربة النبرات ذات تفعيلة سباعية في جميع بحورها:

(بحر الرمل = فاعلاتن)

(بحر الرجز = مستفعلن)

(بحر الكامل= متفاعلن)

وعمد الشاعر لكيْ يبْـعد عنها رتابتها التقليديّة الى اختيار اسلوب التدوير، لكي يحرر القافية من زمنها المحسوب، والى إدخال قواف عديدة في المقطع الواحد، وبناء الجملة الشعريّة من خلال سيْل من المفردات المتواشجة في معانٍ مشتركة ولصيقة برموز عاطفيّة وإشارات جمعيّة، حيث تولد من خلالها ترجيعات لموسيقى داخليّة ذات بحّة منعشة ؛ وكأنّ البحر الخليلي هو القرار، وترجيعاته العاطفية هي الجواب.

كان (الرَمَل) أكثر حضورا حيث هيْمَن على خمس عشرة عتبة، وبعده (الرَجَز) بأربع عشرة عتبة، ثمّ (الكامل) بثلاث عتبات و(الهزَج) بعتبة واحدة.

ماذا نستخلص من هذا التناوب والتكرار والتنـقّل بين بحرٍ وآخر ومن بحرٍ الى آخر، بطريقة لايمكن تفسيرها سوى أنّ الشاعر انساق الى إيقاع الهاجس الشعري ونبراته الميلوديّة ومقاماته الشجنـيّة، وهو واعٍ كلّ الوعي بتقارب الإيقاعات وامتزاجها، في هذا العصف الوجداني والإعتراف العلَني الذي يصعدُ من مرْقى نفسي الى آخر حـَدَسي الى آخر شعري، فتسمو هذه المراقي في الذرْوة، حيث تتصالح روح الشاعر وجسده في تجربة تطهريّة من ندَم الخطيئة وألَم الإغتراب.

***

عباس حويجي

في المثقف اليوم