قراءات نقدية

أنساقُ شِعريَّةِ الحَدثِ الفِعلِي والمَكاني التَّتابعيَّةُ

دِراسةٌ نقديَّةٌ في مجموعةِ حَيدر الحِجَّاجِ (الوَردَةُ بِكاملِ هُجْرَاِنَها)

مِهادٌ تقديمي:

يُشكِّلُ الحَدَثُ (الفِعْلِي) التتابعي ركناً مهمَّاً في اللِّسانيات، وفي أساليب الشعرية العربية المعاصرة، ويُشكِّلُ في بناء قصيدة النثر بوجهٍ خاصٍ ملمحاً فنيَّاً رئيساً من اشتراطات قصيدة النثر الحداثوية. وذلك كون التتابع الحدثي المُقترن بزمنٍ ما يُميِّزُ أُسلوبية الشاعر المبدع المكين في ضبط رِتمٍّ إيقاعه الأسلوبي الداخلي خلال بنائه للجمل والتراكيب الشعرية، والتَّحكُّم بسريان تدفقها الموضوعي، وتوالي تلاحقها وتتابعها الجُمَلي، حيثُ يَترَى بناء الجملة الشعرية وتدفقها تلو الجملة الأُخرى بِنَفَسٍ شعري متواترٍ واحد ِالحدث، وبتساوقٍ فنِّيٍ مُتراتب مُحكمٍ رصينٍ.

ويكاد يكون التتابع الحدثي الأُسلوبي لواقعة الحدث الموضوعية الجمالية واحداً من أهمِّ خلود آليات نجاح شعرية قصيدة النثر المُتمثِّلة بعناصرها المعروفة الأخرى، مثل (التكثيف الدلالي، ولإيجاز أو الاقتصاد اللُّغوي، والوحدة الموضوعية المتماسكة، والمفارقة الإدهاشية الماتعة، وتقنية التكرار الداخلي، وجماليات صور الانزياح اللغوي، وخاصية تلاحم السبك اللُّغوي التركيبي بين أجزاء النصِّ، والحَبك الدلالي المعنوي للنصِّ الشعري، والغموض الفنِّي البلاغي لا التعقيدي المعنوي إذا كان غموضاً رمزياً إيحائياً مُعبِّراً عن سيميائية النصِّ الشعري النثري).

وعلى وفق تلك الاشتراطات والضوابط الفنية التي تتطلَّبها جماليَّات كتابة قصيدة النثر الحديثة، فإنَّ تقنية التتابع الحدثي الزمني تُعدُّ أباً روحيَّاً مؤسِّساً، وأُمَّاً رؤوماً مُؤثِّثاً لتلك الاشتراطات التكاملية في تعضيد خُلود أُسلوبية شاعر قصيدة النثر الصعبة البناء الفنِّي التركيبي. والتي لا يمكن استسهالها أو الاستهانة بجنسها الإبداعي القويم الصحيح؛ كونها لوناً أدبياً تعبيريَّاً شعريَّاً غيرَ مُقيِّدٍ بلزوميات منظومة الخليل الوزنية لقصيدة العمود التراثية، بل هي مخاض تحوِّلي تَغيُّريٍ وِلَادِيٍ جديدٍ من أجناس تطوِّر منظومة الشعريَّة العربيَّة الحديثة التي وصلت إليها.

فإذا كان مصطلح (التتابع) في معناه المُعجمي اللُّغوي القياسي النسقي القريب يعني التلاحق والتضامن والانسجام والتلاحم الجُملي الموضوعي الذي يَتتبَعُ بعضَهُ بعضاً بإحكامٍ سلاسلي مترابطٍ، أي النصّ يتلو النصَّ الآخر بطريقةٍ هندسيةٍ تتابعيةٍ متتاليةٍ، فإنَّ مصطلح الحدث (الفعل أو الفعليَّات) كما يُسمِّيهُ الناقد رولان بارت، يتصدَّر المكانة المهمَّة الأولى بين عناصر الخطاب السردي الرئيسة الأربعة الأخرى، (الحدث، أي (الفعليَّات)، والشخصيات أي (الفواعل)، ووحدتا الزمان والمكان) المحدَّدين بزمان ومكان مُعينين.

وأنَّ أهمية الحدث الأساسيَّة تكمن في ارتباطه حَبْلِهِ القوي المتين المتواشج بالعناصر الثلاثة الأُخرى، فلا وجود لديمومة الحدث واستمرارية بنائه السردي إلَّا من خلال ارتباطه الوثيق بفواعل الحدث أو شخصياته، ولا يمكن أنْ يتَحقَّق فعل الواقعة الحدثية الزمكانية وفواعلها الشخصية إلَّا من خلال قيامها بزمنٍ معيَّنٍ ما، ومكان مُحدَّدٍ ما في وحدة النصِّ الموضوعية المُبتغاة قصدياً وفنيَّاً. والتتابع الحدثي لا يقتصر تماثله الإجرائي التطبيقي على الخطاب النصِّي السَّردي، وإنَّما على واقعة الخطاب الشعري على حدٍ سواءٍ لأهميته الفنيَّة الإبداعية الكبيرة.

وتبعاً لأهمية عنصر الحدث والمكانة الفنيَّة التي يحتلها في بنية السرد الحكائي القصصي، وبنية الشعر الذي تميلُ موضوعات واقعته الحدثية الى نمطيّة التقصيص الحكائي. فقد كانت لنا وقفة تمحيصٍ وتنقيبٍ وتعقيبٍ وترتيبٍ تأمليَّةٍ جادةٍ في آثار وحفريات ووقائع المجموعة الشعرية الدالة على معانيها الرمزية والإيحائية العميقة (الوَردةُ بكاملِ هُجرانِهَا)، للشاعر حيدر الحِجَّاج، والصادرة عن دار المتن للطباعة والنشر بطبعتها الأولى عام 2022م في (136) صفحةً من القطع المتوسِّط. ونتيجة لثراء شعرية هذه المجموعة و أُسلوبيتها التعبيرية الفنيَّة الشائقة، والتي تكاد تكون في بناء تناميها الحدثي أشبه ببناء تكوين الفنِّ القصصي السردي الحكائي، آثرنا الخوض الكشفي في البحث عن غمار مثابات أحداثها الفعلية النسقية المتتابعة زمنياً، ومكانيتها المتعاقبة فنيَّاً وأسلوبياً.

لا شكَّ أنَّ مدلول لفظ التتابع الحدثي أو الفعلي الحركي يُشير مفهومه الدلالي العام إلى بيانات واقعة الحدث الجمالية الخارجة عن إطار الواقع الاعتباري الراهن، وكسر نمط جداره المحيطي المألوف بواقعية الحدث المذهل غير العادي أو المضيء. فمثلاً (الحدث السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني أو الثقافي أو الفنِّي)، هو الذي يمكن أن نطلق عليه حدثاً جوهريَّاً تحوِّليَّاً لافتاً للنظر مؤثِّراً في حياة الإنسان التفاعليَّة اليوميَّة.

ولسنا بعيدين في هذا التوجُّه المفهومي للحدث الشعري عن مفهوم الحدث الحكائي السردي؛ لأنَّ السرد خطاب نصِّي مؤثِّر يُعبِّر عن تغيُّر واقع الحال الحدثي الفعلي وتحويله من خلال إحدى أدوات الحدث (الفعلية، يَحدثُ)، أو(القوليَّة، يَقولُ)، أو الانتقال من حالٍ آني حكائي سردي إلى حالٍ حكائي سردي مستقبلي لغدٍ أخر جديد في أحداث قصةٍ ما. وعليه لا يمكن أن نرى قصيدةً شعريةً أو مقطعاً شعريَّاً خالياً من تتابع الأحداث، ولا يمكن أنْ نرى في الوقت نفسه أحداثاً شعريةً قائمةً مستقلةً بذاتها وغير متصلةٍ اتصالاً وثيقاً بعناصرها الفنيَّة الأخرى التي يكتمل بها الحدث الشعري أو السردي اكتمالاً تامَّاً بحقيقته الموضوعية.

إنَّ شعرية التتابع الفعلي الحدثي مهما بلغت أُسلوبيتها القصصية الشعرية من شدَّة التوافق والترابط الفنِّي الحميم مع مكملاتها السردية المعروفة، فإنَّها تبقى في مسارها التتابعي بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى عمل تنظيمي فعلي دقيقٍ يجعلها مبنيةً على نسقٍ شكلي كاشفٍ لحركية الصراعات الداخلية والخارجية بين رموز الشخصيات الشعرية (الفواعل)، والتَّحوِّلات الحركية (الفعليات) الزمكانية. ولا يمكن تقديم هذه الأحداث الشعرية على بعضها بصورة تلقائية تخبُّطيَّة عشوائية غير مدروسة أو مُخطَّط لها مُسبقاً، بل لابُدَّ من أنْ يقوم بناؤها الحركي الفعلي على أساس نسقي معيَّن يعتمد على أسلوبية الكاتب في رؤيته التعبيرية ونظرته الفلسفية في تقديم إنتاجية الشعرية للمتلقِّي والقارئ.

والحقيقة أنَّ اهتمام الكاتب المبدع بالأنساق البنائية لتقنية التتابع الحدثي الشعري أو النثري، وعنايته الفائقة بخطُّ انتظامها النسقي نابع من منهج وفلسفة الشكلانيين الروس وجهودهم النسقية التي قسَّموا فيها بناء الأحداث التتابعية إلى عدَّة أنساق شكليَّة، والتي اختزلها تزفيتان تودوروف بثلاثة أنساقٍ متساوقةٍ هي،(التَّتابعُ، والتَّداخلُ، والتَّناوبُ).

ومن المؤكَّد اليقيني الجازم الثابت لا المبدأ الاعتقادي الظنِّي الشكَّي المتحوِّل، أنَّ الأنساق البنائية لفعلية الحدث على اختلاف أنواعها وتعدُّد مسمياتها البنائية المتنوِّعة وأصنافها الشكلية، تكشف لنا أنَّ وحدة العامل الزمني هي التي تُحدِّد نوعها وتشخِّص صورة هذه الأنساق المتوالية. فهذه الأنساق البنائية التركيبية للحدث كما يرى أُستاذنا الناقد الدكتور صلاح فضل في كتابه (نظرية البنائيَّة) لا بُدَّ "أنَّ تخضع لمبدأ السببية وتنتظم داخل نوع من الإطار الزمني، وإمَّ أنْ تُعرض بشكل لا يخضع لمنطق الزمن، ولكنَّه تتابع دون مراعاة السببية الداخلية". إذن لا بناء حدثي من غير زمن محكوم بنظام السببية، وهما عاملان مُتَممانِ لبناء حدثية التتابع الفعلي الزمكاني.

وجدير بالذكر أنَّ هذه الأنساق البنائية لوحدة الحدث الفعلي لا يمكن أنْ تقتصر فنيَّاً في عملها الأدبي على ناتج المنجز الإبداعي السردي فقط، بل تشمل النتاجات والأعمال الشعرية أيضاً. وهذا يُدلِّل على أنَّ الأحداث الفعلية في السرد القصصي والروائي تتضامن وتترابط مع بعضها بنظام تلاحقي تتابعي أو دائري أو تداخلي. كذلك أنَّ القصائد أو المقاطع الشعرية الحديثة تترابط مع بعضها بنفس الآلية الفنيَّة أو النظام الحدثي الترابطي الشِّعري.

وأنَّ هذه العلاقة الترابطية في الأبيات الشعرية والسردية التي تتبع نظاماً بنائياً حدثياً ترابطياً معيَّناً، تُمهِّد لنا الطريق المُعبَّد الواضح وتفتح لنا الأبواب مشرعةً إلى أنْ نَلِجَ من نوافذها العديدة بالدخول إلى (مدينة الشعر)، شعرية الشاعر حيدر الحِجَّاج؛ لنسبر أغوار مدونته الشعرية الموسومة بعتبتها الرئيسة،(الوردةُ بكامل هُجرانِها)؛ ونكشف سعة هذا الفضاء الشعري وعمق تجلِّياته الفعلية، ونحلِّل تعدُّد أُسلوبية بناءاته الحدثية، ونُشخِّص مسار خطِّ وحداته الزمكانية التي تجلَّت تمظهراتها الشعرية بأنساق فعليةٍ عديدَةٍ نسلط الضوء عليها بهذه الكيفية من الدراسة.

1- شعريَّةُ الحَدثِ التَّتابعي (المُتلاحقِ):

والمقصود بشعرية الحدث التتابعي التلاحقي، أنًّ تتابع أحداث وحدة الموضوع الواحد وتتلاحق حدثاً شعريَّاً بعد حدثٍ آخر بشكل نسقي تراتبيٍ مُنتظمٍ دونَ أنْ يتداخل مع تركيب تلاحم الأحداث البنائية المتواشجة أحداثُ موضوعٍ شعري جديدٍ آخر، حتَّى اكتمال أحداث (فعليَّات) مقاطع القصيدة الحدثية ومُشارفتها فنيَّاً على النهاية. ويعدُّ هذا النسق الحدثي التتابعي من أكثر الأنساق أو الأنواع البنائية شيوعاً وانتشاراً وتمظهراً في شعرية حيدر الحِجَّاج النثريَّة؛ كونه جاء انعكاساً صوريَّاً صادقاً لمرآة الواقع المعاش ولأحداث رهان عقابيله اليومي التي تصدر عنه وتحدثُ حدثاً جزيئاً واقعياً يُلاحقهُ الحدث الجزئي الآخر من براثن أرض الواقع ومن تجليَّاته الساخنة العديدة.

ومن الطبيعي في شعرية هذا النسق ألَّا يتقدَّم حدث جزئي على حدث جزئي آخر أو يتأخَّر عنه، وإنَّما تَسير وقائع أمور الشعرية وفق نظام التِّلاحق القصصي الشعري للحدث. وذلك لأنَّ المتلقي أو القارئ النابه، وبحسب طبيعته التلهفية والابستمولوجية المعرفية يتطلَّع إلى أنَّ يتعرَّف بشوقٍ على أحداث الواقعة الفعلية الجمالية شيئاً فشيئاً، أي بشكلٍ عفويٍ لا إرادي تَسلسليٍ منطقيٍ تتوالى فيه الأحداث وتنتظم تباعاً وتصطف توحُّداً.

وإنَّ أهمَّ ما يميز شعرية هذا النسق المتوالي أنَّ أسلوبية بناءاته التركيبية الحدثية النصيَّة هي التي تُحدِّد خلفيات ووقائع تمظهراته الزمانية والمكانية، وتخضع المتن الشعري لإيقاع مدخلات تجلياته الداخلية والخارجية. وهذا التمايز الفنِّي يَشي بأنَّ مطالع القصائد أو مستهلاتها الابتدائية، هي النقطة الضوئية الأولى اتي ينطلق منها الشاعر المبدع في رسم خريطة انثيالاته الشعرية في خطاب رسالته النصيَّة. وهي العتبات الشعرية الفنارية المضيئة التي تلفت نظر القارئ إليها وتأسر لُبَابَ قلبهِ وتشدُّه إليها رغبةً وإغراءً ومحبةً، أو تُنَفِّرُهُ منها عُزوفاً رَهبةً لا رغبةً.

لِنقرأَ باهتمام واعٍ تجلِّيات هذا النسق الحدثي وتمظهراته الفعلية في نصوص حيدر الحِجَّاج الشعرية ذات النفس الأسلوبي الشعري الطويل وتحديداً في أقانيم مُناخات قصيدته الدالة على صور رمزيتها الجمعية الحُلُميَّة التي رسمها الشاعر بالعنوان الفنِّي (عِندَ قِبلةِ الحَربِ تَنامُ أحلامُنا) بهذه التراتيل الذاتية المعبِّرة عن أثر الواقع الجمعي:

قَبلَ عُقُوٍد طَوِيلَةٍ

نَامَتْ أحلَامُنَا

وَكُنَّا - نَحنُ أُولادُ المَرَارَةِ -

عَازِمِينَ عَلَى هَدْمِ الخَرَابِ؛

لَكِنَّ أحلامَنَا ذَاتَهَا

الأحْلَامُ مُنتصِبَةُ القَامَةِ

النَاطِقَةُ بِالمواويلِ

وَبِشجَنِ الصِّبيَةِ اللَّامِعِينَ،

كَانتْ حَائِلاً بَينَنَا

وَبَينَ سُفُن الهَجرةِ الأُولَى؛

وَلِهَذَا ظَلَّتْ قَامَاتُنَا تَلْحَسُ المَدِينَةَ

وَتَنَامُ عَلَى شَجَنٍ غَابِرٍ

كُلَّ لَيلَةٍ بِالشَّجن ِنَفسِهِ

عَنِ الأحلامِ وغِيَابِهَا

وَمَرَارَاتِها الطَّويلَةِ (ص 18)

في هذا المقطع الانزياحي النصِّي التدفقي من قصيدة حيدر الحِجَّاج ذات المقاطع الأربعة الطويلة الحدث، نلحظ الشاعر يستحضر فيه -عبر عقود الزمن الماضي الغابر- أحداثَ أحلامه النائمة بشكلٍ تلاحقي متتابع منتظم. فالأحداث تبدأ بمقدِّمة استهلاله الشعري من الزمن الماضي السابق بدلالة الظرف المكاني (قَبلَ) في قوله: (قبل عقودٍ طويلةٍ)، وتستمرُّ في تواليها بصيغتها الزمنية الحدثية المتراتبة التدفق بقوله: (وكنَّا ...عازمينَ على هدمِ الخَرَابِ)، خراب الأحلام الميَّتة النائمة. وقد أضفى انزياحه اللغوي (تَلحسُ المَدينةَ) على هذا التتابع شيئاً جماليَّاً.

غيرَ أنَّ الشاعر يستدرك بتسلسلٍ تتابعيٍ مُتوالٍ على تلك الأحلام المؤجَّلة ليمنحها صورةً زمنيةً حاليةً روحيَّةً، تلك هي صورة الجمال الفنِّي في حركية الانتصاب وصوتية النطق بالمواويل الغنائية ذات الشجن لتلك الأحلام التي كانت تقف حائلاً بينهم لتحقيق مسيرة سُفن هجرتهم الأولى نحو آفاق معمورة المستقبل القادم، ويعلِّل الحِجَّاج بصورة فنيةٍ رائعة التعبير بأنَّ ذلك النكوص الحُلُمي الحائل كان السبب في أنَّ قاماتهم الطويلة ظلَّت (تلحسُ) واقع المدينة المرير وتنام من حزنها المكرور على لحن شجنٍ غابرٍ عذب التساوق.

ومثل ما بدأ الحِجَّاجُ رحلته الحُلُميَّة في مطلع قصيدته بِسُبات تلك الأحلام الماضية وبعطبها الآني، أنهى تدفقات مقطعه بشكلٍ تتابعي متلاحق جميل عن غياب تلك الأحلام وأُفولها، والشعور بمراراتها الطويلة في يوميات حاضره الواعد بالكثير. ونلحظ أنَّ الشاعر قد وظَّف موضوعه الفعلي بأحداثٍ زمانيةٍ فعليةٍ وترابطاتٍ سببيةٍ مُحكمة المُخرجات، شديدةِ الأثر في رسم إيقاع ووقع ضبط تنامي أحداث المدخلات الزمانية والمكانية الثيمية.

الحِجَّاجُ في مدونته الشعرية (الوَردةُ بِكاملِ هُجرانِهَا) التي احتوت على (31) نصَّاً شعريَّاً نثريَّاً متنوِّعاً، كان -حقَّاً- شاعراً مثابراً في وقع أسلوبيته الشعرية المغايرة عن مجايليه شعراءِ قصيدة النثر الحديثة شكلاً ومضموناً؛ كونه فلاحاً حاذقاً بسيطاً ماهراً يحرث في أرض شعرية خِصبةٍ معطاء تمنحه إنتاج غِلة الزمن الماضي، وتهبه إنعام ثمار الحاضر المشحون بقلق واقعة المكابدات واضطراب المفاجآت العصيبة التي تعصف بإحسان المستقبل الواعد بتجلِّيات الأمل الجديد على الرغم من وقع هزائم الحياة المتوالية وخيانة صحائف الأيام المنصرمة، وسنين العمر الحياتية الخائبة. ولعلَّ نصَّ قصيدته (صَحيفة ُ قَيصرٍ مَهزومٍ)، تؤكِّد بواقعة فعليتها الحدثية ثيمة الصحائف:

العُمرُ صَحَائِفٌ ..

الأَيامُ صَحَائِفٌ أيضَاً

الخِيَانَات صَحَائِفٌ كَذَلِكَ !

فَمَا الَّذِي سَيَفعَلُهُ الوَلدُ الطَّيِّبُ ؟

الوَلَدُ المَخبُولُ أَكثرُ مِنْ ذِي قَبْلٍ ..

مَاذَا سَيَفعَلُ بِالصَّحيفةِ الأَخِيرَةِ

الَّتي عَلَّقَتْهَا الأَيام ُعَلَى جِدَارِ حَيَاتِهِ ؟ (ص 24)

واقعاً هذا المقطع النصِّي الذي استهل به الشاعر مطلع قصيدته الرمزية المكتنزة بِسِفْرِ الهزائم وآثار الوجع الذاتي وآلام جراحاته النازفة، تؤكِّد (الصحائف) موضوعته الحدثية التتابعية بانتظام أنَ العمر من وجهة نظر الشاعر الفلسفية، هي صحائف تمضي وتتلاحق وَتَتْرَى، وأنَّ الأيام والخيانات وِلادَاتٌ متعاقبةٌ تطوى وتمضي كصحائف العمر الزمنية الأخرى. والشاعر يقف مذهولاً من فعليته تلك الصحائف وتتابعها الزمني الحركي الذي كُتُبَ عليه بالحيرة والاندهاش.فماذا يفعل في النهاية حيال ذلك الوقع بالصحيفة الأخيرة التي عُلِّقَتْ عَلناً على جدار كعبته الحياتي، وهو المعروف عنه بالرجل الطيِّب المخبول بآثار العطب وهزائم الانكسارات الروحية العديدة:

لَا يُرِيُد أَنْ يَعرِفَ شَكلَ الهَزِيمَةِ

وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَتَهَجَّى الاِنتِصَارَ

كِلَاهُمَا عِندَ قَدَمِي القَيصَرِ

مِنْ زَوَائِدِ الكَلَامِ ! (ص42)

إذنْ الحِجَّاجُ يُعلِّلُ سببية فعل تلك الصحائف، ويُعلنُ ذاتياً أُمارات الرفض ورايات الاحتجاج، والثورة على تلك الهزائم والانكسارات المتكرِّرة بالتصدِّي المباشر لها. ولا يرغب أيضاً أنْ يقرأ حلاوة الانتصار عليها. فالهزيمة والانتصار من وجهة اعتقاده الرؤيوي يُعَدَّان لَمَمَاً من زوائد الكلام لا من أصله الجوهري، فلا يؤثِّران على خطى مسيرته الإبداعية المكينة. فهما سَيَّان عنده؛ كونه القيصر الرمز الشعري الذي تستوي عنده أنوار الانتصار المضيئة بِعُتْمَاتِ هزائم الظُلَمِ والانحسار المنطفئة؛ لذلك استحقا أنْ يكونا تحت قدميه استصغاراً وتَرَفُّعَاً وتَعاظُماً.

بهذه الشاكلة الصورية التعبيريَّة الكُماتية الشُّجاعة المُتَرَفِّعَةِ تَتَابَعُ أحداث الواقعة الشعرية عند حيدر الحِجَّاج وتتوالى دراما أفعالها الزمنية فـ (العمرُ والأيامُ) دلالات زمنية تتابعية ماضية، (الصحائف والخيانات، والهزائم والانتصارات)، ودلالة فعل المضارع المُستقبلي (سيفعل)، دلالاتٌ حدثية قارَّة تساوقت بانتظام في دفقته الشعرية.

ولنقف قليلاً بِرويَّةِ العينِ النقدية الثالثة عند نصِّ قصيدة الحِجَّاج اللافتة (الشياطينُ الأنيقة) التي حملت عتبتها العنوانية الغريبة، والتي هي مفتاح النصِّ الموازي الشعري ومرآة نافذته البصرية المضيئة صورتين من صور التضاد الفنِّي الجمالي. صورة (الشياطينُ) الفنتازية ذات المخيال غير المرئي الانزياحي العبثي، و صورة الظاهر البصري المرئي الوصفي الواقعي (الأنيقة). وكيف جمع الشاعر المشاكس فنَّاً بينهما في صورة (إيموجية) إبداعية واحدة، صورة تراتبية نسقية تتابعية حدثية لواقعة (الحزن) التي ألبسها تسربليباً ثوباً حركيَّاً جليَّاً، توصيفياً أنيقاً:

أَنِيقٌ هُوَ الحُزنُ

لكنَّ قَلِيلَهُ لَيسَ مِنْ خَشَبٍ

أَنيقٌ وَرِقرَاقٌ

مِثلُ نَهرٍ جَمِيلٍ

وَيَفَيضُ مِنْ جَنَبَاتِهِ

رِيشٌ تَرْضَعُهُ الجَنَائِزُ

وَتَطِيرُ بِهِ الأَفئدةُ (ص 106)

صورة الحزن الأنيق الانزياحية التي هي موضوع الواقعة الجمالية الحدثية عند الحِجَاج صورةٌ مغايرة لدلالة واقع الحال والمُحال المقامي، صورة مختلفة عن صور المحال المكاني المعروف؛ كون الحزن الحِجَّاجي حزناً أدبياً إنسانياً صرفاً، وليس حزناً شكلياً دلالياً معنوياً موصوفاً بصفاته الدلالية البشرية المعتادة لأرض الواقع العياني.

فالشاعر حيدر الحِجَّاج يؤنسن صورة الحزن المعنوية المعروفة ويجعل منه إنساناً وديعاً بكامل صفاته الحركية والجمالية فيضفي عليه صفة الأناقة)، وما هو جميل من الصفات الإنسانية المحبَّبة في الوجود الواقعي الاعتباري، ويمنحه صفاتٍ تتابعيةً جزئيةً أخرى، حتى تظنَّه إنساناً أنيقاً ذا قلبٍ نابض بالحبِّ رقراقٍ مثل نهر جميل جارٍ يفيض من عذوبة جنباته ريشٌ تغتسل به جنائر الموتى، وتُطهرُ به وتُكفَّنُ وضاءةً، وتُطيرُ به الأفئدة الميتة، ويا لها من صورة تلاحقية الأنساق الفعلية، فنتازية مؤطَّرة صيَّر فيها الشاعرُ الجنائزَ أُمَّهاتٍ مُرضعاتٍ، وجعل الأفئدةَ النابضةَ طائراتٍ ريشيةً خفيفةً مُحَلِّقةً ! وعلى وفق هذا النسق المتوالي تمضي مقاطع القصيدةِ بانتظامٍ فعليٍ دقيقٍ.

ولجماليات الَّلوحة الفنيَّة في شعرية حيدر الحِجَّاج صورٌ ومجسَّمات تصويرية عديدة أخرى جمعتها التقاطات عدسته الضوئية الباصرة في طيَّات قصيدته الدالة على عتبة عنوانها الصوري (عَنْ لَوحَةِ المُوتِ تَتحدَثُ). حتى ترى صورة اللَّوحة في مقطعه الأول امرأةً بكامل تمظهراتها الأنثوية، وفي المقطع الثاني هي لوحة ميلاده الأول؛ ولكن بعد المائة كما يُؤرخنها شعريَّاً، وفي المقطع الثالث للقصيدة هي لوحة الأشجار الخضراء المتكسرة. أمَّا اللَّوحة الأخيرة التي رسمها الشاعر بمرسمه الكبير في نهاية القصيدة هي لوحة الوطن الجريح المُستلب التي تتحدَّث عن نفسها شعرياً بتهجدٍ هذه التراتيل الوطنية الموقَّعة الحدث التي شكَّلها الشاعر لونياً للوطن الكبير:

فِي المَرسَمِ الكَبِيرِ نَجِدُ العَدِيدَ

مِنَ اليَافطَاتِ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى شَيءٍ

غيرَ أنَّ الوَطنَ مُبَاحٌ دَمُهُ يَسِيْلُ

فِي بُيُوتَاتِ الأَرامِلِ الطِّينيَّةِ (ص120)

في رحاب سطور هذا المقطع الأخير تتجلَّى صورة اللَّوحة الحقيقية التي أطَّرها الحِجَّاجُ بتتابع حركي فعلي متناسق في مرسمه الشعري المخيالي المتواثب مع الانثيالات الحدثية لصورة الواقعة الوطنية التي يُصَرِّحُ بها رافضاً كلَّ صور اليافطات واللَّوحات الأخرى التي لا تدلُّ معانيها غير الحقيقية على رسم دم الوطن النازف موتاً، وتستحضر جراح معاناة الناس الفقراء المعوزَّينَ، وأنَّات الأُمَّهات الثكالى والأرامل في البيوتات الطينية الشعبية. حقَّاً أجزم أنَّها لوحات انطباعية حقيقية متراتبة الإيقاع الحركي الأسلوبي تتحدَّث عن واقع سلبي جمعي مُتهالك.

وإذا كانت مقاطع القصيدة السابقة تتحدَّث بتسلسلٍ وانتظامٍ عن الواقع العيان وصوره الحدثية المتعدِّدة، فإنَّ نصَّه الشعري (حَفلةُ شُواءٍ عَلَى ضِفَافِهَا) يُدوِّنُ في مقطعه الثاني صورةً نصيَّةً محتشدة اللَّعنات عن الفيلسوف والناقد الألماني الشهير فردريك نيتشه، ويستحضر فيها ذكر كتابه (أفولُ الأصنامِ) عن فكرة الحياة بعد الممات، وصراع عنصري الخير والشرِّ في حفلة الشواء البشري وعن الرجال الَّذين سيولدون بعد الممات في محاكاة الواقع الحدثي بلعنات تتابعية يُسقطها الشاعر عليه في رحى قصديته ذات الوقع الرؤيوي الحدثي الفلسفي الجميل التعبير:

اللَّعنةُ عَلَيكَ نِيتشَةُ

بِمُنَاسَبَةِ أُفُولَ الأَصنَامِ

اللَّعنَةُ عَلَى الشُواءِ البّشَرِي

وَهوَ يَعكِسُ فِكرَةَ نِيتشَةَ

فِي الخَيرِ والشَّرِّ

الَّذي لَا يَنتَهِي بِشُوَاء ٍبَشَريٍ ( ص 121)

2- شِعريَّةُ الحَدثِ التَّداخِلِي (الزَّمَاني):

ونعني بمفهوم شعرية الحدث التداخلي أنْ تتداخل الأحداث الفعلية مع بعضها تداخليَّاً تركيبياً مترابطاً؛ ولكن من غير أنْ تأتي متتابعةً من حيث الوحدة أو الناحية الزمنية، أي على خلاف نسق الحدث التتابعي المتلاحق الذي يتحدَّد فيه الحدث الفعلي مُنتَظَمَاً وفق الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وهذا قطعاً يشي بأنَّ الزمن الحدثي التداخلي غير متراتب بنظام تسلسلي مُعيَّنٍ مُتعاقبٍ. فقد تتقدَّمُ أحداث الزمن المستقبلي القريب على أحداث الزمن الماضي البعيد، أو على تمظهرات الزمن الآني ذي الأثر الحاضر المباشر المُصيب وقوعه الحدثي الحالي.

فهذه المغايرة الزمنية مع الحدث الواقعي تؤثِّر في بناء الشعرية كما تؤثِّرِ في بناء السرد الحكائي الذي يتطلَّب مُفارقةً زمنيةً تتبعثر فيه الأحداث والأفعال أُسلوبياً وتتشظى زمنياً وفنيَّاً على وفق ضوابط السرد الحكائي وآلياته الاشتراطية الفنيَّة، كما يعضِّد ذلك الرأي السديد الناقد عبد الله إبراهيم في كتابه التنظيري (المتخيَّل السَّردي).

وهذا يتطلَّب من القارئ الواعي النابه الذهن أو المُتَّقِدِ العريكة النفسية أنْ يُعيد ترتيب تلاحق تلك الأحداث فنيَّاً؛ لأنَّ الحدث الزمني الحضوري الآني لا يكون نتيجةً سببيةً فعلية للحدث الزمني المغاير السابق. لذلك فإنَّ المتلقِّي أو القارئ لا يحتاج جُهداً ذهناً صافياً مُنتظماً في ترتيب بناء الحدث الشعري الزمني كما يتطلَّبه إعادة تنظيم الحدث الزمني السردي الحكائي الروائي (فلاش باكيَّاً). وحقيقة هنا تكمن نقطة المغايرة الضوئية الحدثية المَفصليَّة في تجلَّيات الشعر الحدثية عن تجلَّيات سرديَّات النثر الفعلية زمنيَّاً. وهذا الأمر ما يُميِّز حقيقة بُون الفرق الزمني التداخلي الدراماتيكي في الخطاب النصِّي بين الشَّعر والسَّرد.

وتبدو تمظهرات شعرية التداخل الحدثي الزمني عند الحِجَّاج واضحةً في سطور نصِّه الشعري المؤنسن فنيَّاً وانزياحيَّاً (الثُّلاثاءُ الَّذي يَنامُ قُربَ البَاصِ) الذي يُناور الشاعر في تدوين أحداثه النصيَّة من الناحية الزمنية تداخليِّاً بأوقاتٍ فعلية زمانية مختلفة صعوداً وهبوطاً وحضوراً كما تُوحي به سطور هذه الدفقة ذات البُوح الذاتي الجمعي:

نَحُن الأوَلادُ

الَّذينَ نُجيدُ كِتَابةَ الرَّسائلِ للمُراهقَاتِ

نَحنُ (المُنحدِرِينَ) مِنِ الأَسفِ

وَ (المَارِينَ) مِنْ بُوابةِ النَّدَمِ

وَمِنْ صَرَائِفِ المَحَبَّةِ الهَائِلَةِ

نَحُن الَّذين َذَرَفنَا أَعمَارَنَا

بِسَبَبِ اِبتسامَةٍ عَظيمَةٍ مِنْكِ

عِندَمَا كَانَ الضّيَاعُ بَطَلاً أُسطورِيَّاً

يِأخُذُ بِأيدينَا إلى الغِيَابِ (ص 33)

ففي هذا المقطع الشعري الذي ابتدأ به الشاعر قصيدته بمشاعر الذات الفردية الشاعرية الضائعة، والتي خصَّها بضمير التكلُّم (نَحنُ) المعبِّر عن لسان حال الذات الجمعية الثائرة بدلالة الألفاظ (الأولادُ، والمنحدرينَ، والمارينَ، والَّذينَ) من خلال أُسلوب الاختصاص الخبري الذي اِتَّبعَهُ الشاعر في تنظيم إنتاج دفقته الشعورية المقطعية، حقيقةً لمخ نلحظ فيها حدثاً زمنياً تتابعياً معيَّناً واحداً بالتلاحق المتوالي. كأن يكون الحدث بِرُّمتهِ مقصوراً على الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل الآتي، وإنَّما تجد أحداث الواقعة النصيَّة المقطعية قد تداخلت مع بعضها بأنساقٍ زمنية مختلفة يحكمها إيقاع الأسلوبية التعبيرية اللُّغوية المكين سبكاً وحبكاً. فعلى سبيل التفكيك الإجرائي لهذه المنظومة الشعرية نرى أنَّ الشاعر حيدر الحِجَّاج قد ابتدأ أحداث وحدته الموضوعية بالزمن الحاضر من خلال حضورية وجهوزية الفعل المضارع الآني (نُجيدُ). ثم انتقل بعد ذلك في تعبيره الحدثي إلى الزمن الماضي البعيد من خلال دلالة الفعلين الماضيين (ذَرَفنَا، وَكُنَّا)، ثمَّ ينتقل الشاعر في تداخل الحدث الزمني المغاير إلى دالة الزمن المستقبلي للغد الآتي من خلال شَاهدهِ الفعلي (يَأخذُ) في جملته الشعريَّة المقطعية (يأخذُ بِأيدينَا إِلى الغيابِ).

وهكذا يمضي الشاعر بمصفوفته المقطعية الانتقالَ بشعرية التداخل من فكرة زمنيةٍ مُعينةٍ إلى فكرةٍ موضوعيةٍ زمنيةٍ أخرى دون مراعاة لترتيبٍ زمني واحدٍ متواتر فيها. وأنَّ مثل هذا التعشق الزمني المتداخل لواقعة الحدث الموضوعية يتطلَّب في جماليات القراءة وآليات التلقِّي الحديثة قارئاً فذاً واعياً يُفكِّك أنساق النصِّ الزمنية ويُعيد ترتيب أحاثها ذهنياً بعد أنْ استوعبها فكريَّاً ودلاليَّاً وهضمها فنيَّاً وجماليَّاً. فضلاً عن أنَّ لغة الشاعر التركيبية قد تُضفي على الحدثية الفعلية دلالاتٍ اسميةً تُحدِّد نوع الزمنية كما هو الحال حاصل مع دالة اسمي الفاعل في المُشتقين (المُنحدرِينَ، والمارِينَ) الدالينِ على توالي (الانحدار والمرور) الذي وقع في الزمن الماضي الغابر من خلال تداخلهما الحدثي الزماني والمكاني وفق هذ التراتب الفعلي.

ونذهب في هذا النسق التداخلي إلى قراءة تصٍّ تداخلي آخر من نصوص مجموعته الشعرية المتكاملة الذي وظَّفه الشاعر لشخصية رمزيةٍ مثيرةٍ بصورها البصرية اللافتة من تجلِّيات وصميم أحداث الواقع الحياتي المرير الذي عبثت بوجهه المتعب وقائع الزمن وأحداث الدهور المكانية المتعاقبة ذلك هو الوجه العراقي السومري الذي خضَّبته ريح المحبَّة اللَّافحة بصبغة الاسمرار، مثلُ رغيف خبزٍ عراقي جنوبي ساخن لذيذ في النسق التكراري:

وَجهٌ تَلفَحَهُ الرِّيحُ البَارِدَةُ

وَجهٌ اِعتَادَ عَلَى بَارِدِ الرِّيحِ

وَهوَ ذَاتُهُ الوَجهُ الَّذي تُخَضِّبُهُ

رِيحُ المَحَبَّةِ السَّاخنِة مِثلُ رِغِيفِ جَنُوبِيٍ (ص 65)

هذا هو المقطع الأول من قصيدة الحِجَّاج الرمزية ( لِحَارِسِ المُقبَرَةِ السَّكرَانِ) الذي نلحظ على سطور الصورية دلالات الزمن المختلفة التي تداخلت فيها الأحداث تداخلاً زمنياً غير مُوحَدٍ بزمن معيَّنٍ ما في رسم وجه حارس المقبرة السكران. حتَّى تجد أنَّ السطر الأوَّل تصدَّره الزمن المستقبلي بدالة الفعل المضارع (تَلفحهُ) ذي الأثر الشديد الوقع على وجه بطل القصيدة،، أمَّا السطر الثاني فسيطَّر عليه وقع الزمن الماضي بدالة الفعل المضي الزمنية (اِعتادَ). بعد ذلك انتقل الشاعر بدلالة الزمن في السطر الثالث إلى فعلية الزمن الحاضر من خلال الفعل التداخلي (تُخَضِّبُهُ). وهو الحدث الذي اكتملت به صورة ذلك الحارس الجنوبي الذي مرَّت عليه الزمنية باوجهٍ وصور تداخلية متعدِّدةِ لا بوجهٍ زمنيٍ تعاقبي واحدٍ الحدث.

بعد أن أدركنا مغزى المقطع الأول الزمني التداخلي لقصة واقعة الحدث المكانية، نعكف جلٍيِّاً على قراءة المقطع الثاني من القصيدة نفسها لنرى كيف تصطف الصيغ الزمنية المختلفة تداخليَّاً في توظيف صورة الحارس السكران الوظيفية خلال هذه التساؤلات الذاتية التي وجَّهها الشَّاعر بتوالٍ لهذا الرَّمز الصوري الشعبي الجمعي:

ثُمَّ مَاذَا يَعنِي أنْ تَكونَ حَارِسَاً لِلقُبُورِ؟

مَاذَا يَعنِي أَنْ يَشهَدَ عَلَيكَ المُوتَى ؟

فَتَذَكّرِ الرِّيحَ البَاردةَ وَالرَّغِيفَ السَّاخِنَ

وَمِنْ ثُمَّ رُوحكَ المُبتَلَاةِ بِالأَنِينِ المَجهُولِ

الآتِي مِنِ الأَعمَاقِ (ص 65)

لو تفحصنا درامياً وفنياً تجلِّيات هذه الدفقة الصورية التي تختفي وراءها الذات الشاعريَّة المُستلبة؛ لرأينا أنَّ عتبات الزمن الحدثية قد اختلفت في تداخلها الصوري من زمن إلى أخر مغاير في إيقاعة الفعلي. فها هي موحيات الزمن الحاضر تُهيمن على وقع سطريه الأوَّل والثاني من خلال استحضاره للفعلين المضارعين (يَعني، ويشهدُ) بصورةٍ تلقائيةٍ. أمَّا السطر الثالث فكانت واقعته الزمنية الحدثية مستقبلية محضة بدالة فعل المشاركة المضارعي (تتذكَّر)، فضلاً عما توحي به السياقات النصيَّة من دلالات استشرافية مستقبلية قريبة الأثر.

عن بوصلة حياته الذاتية العاطلة، وروحه الثائرة الفائرة يتحدَّث الشاعر حيدر الحِجَّاج في نصه الشعري الموسوم بعنوانه التقريري الواضح (بُوصلةُ حَياتي العَاطلةِ) عن ذلك الصراع النفسي المُحتدِم الذي ينهش حركة قلبه النابض النقي المتعب بلواعج العطف ومشاعر الحنين الأبيض، والذي تكشف صوره الزمنية تفاوتات أحداثه الزمنية التداخلية المختلفة بحسب ما تقتضيه فعلية الواقعة الحدثية من أحداث زمانية مناسبة رغم الغلبة والهيمنة الحضورية لزمن الحاضر الفاعل الذي يُوجِّهُ تجاهَ حركة البوصلة الشعرية على وقع الزمن الماضي والمستقبل:

عَاطِلَةٌ بُوصَلةُ حَيَاتِي

وَقُبَالَتِهَا تَفُوزُ بُوصَلةُ رُوُحِي

وَكِلَاهُمَا تَنْهشَانِ قَلبَاً أَبيَضَ مِنِ الحَنِينِ !

فَلِمَاذَا إِذاً كُلَّمَا نَطَقَتْ حُرُوفُ اِسمِكِ

تَجَلَّتْ فِي عُيُونِي حَقيقَةُ الذَّهبِ القَدِيمِ

الَّذِي يَلمَعُ أَكثرَ مِنِ النُّجُومِ ؟ (ص 12)

وتكشف وقائع هذه الدفقة الشعوريَّة الحدثية أنَّ الشاعر عندما يتداخل زمنياً مع أحداثه الموضوعية المتنامية يُقدِّس بأُسلوبه الشرطي بجلالٍ وحبٍّ بِنطقِ حروف اسم محبوبته مثل ما يتجلَّى أمام ناظريه لمعانُ وبريق الذهب التراثي القديم الأصيل غير المغشوش الذي يبرق تِبرهُ لمعاناً وأصالة أكثر شدَّةً من لمعان نجوم السماء المضيئة .

3- شِعريَّةُ الحَدثِ الدَّائري (التَّحَلُّقَي):

ونعني بشعرية نسق الحدث الدائري أنْ يبدأ مطلع القصيدة الواحدة أو مقطعها النصِّي الاستهلالي الأوَّل بواقعة حدثية ما أو موقف حدثي معيَّن يُجسِّد بحرفيةٍ مُتقنَةٍ وحدة الموضوع الرئيسة وينقل وقع صداها الفنِّي المؤثر إلى ذهنية المتلقي والقارئ. ثُمَّ تقتضي فنيَّة التعبير الأُسلوبي الحدثي في ذلك النظام بالعودة إلى الموقف الحدثي الفعلي نفسه في نهايتها الختامية مع مراعاة حُسن التَّخلُصِ الختامي، أي أنَّ ختام القصيدة يدور بجلاء توافقيٍ مع حُسن ابتداء المَطلعِ. ويحصل ذلك من خلال تكرار الشاعر للمقطع الشعري المحوري دائرياً، أي يُدَاورُ الفكرة (الثيميَّة) التي ابتدأ بها أوَّل مرَّةٍ وينتهي بها في خاتمة القصيدة أو نهايتها. وسواءٌ أكان ذلك التكرار الحدثي الدَّوَّار بنفس صياغة الرؤية الفكرية المتوخاة نصيَّاً أم برؤيةٍ فنيَّةٍ نصيَّةٍ جديدةٍ مغايرة الاختلاف.

والحقيقية أنَّ شعرية هذا الحدث الدائري النسقي الفعلي يُفضي أُسلوبيَّاً إلى أنْ تكون صناعة إنتاج القصيدة، ولا سيَّما قصيدة النثر مَكينةً رصينة فاعلة الأثر تدور فيها الوقائع والأحداث الزمنية ببوصلةٍ محوريةٍ متساوقة الدوران التراتبي كحلقةٍ دائرية مفرغةٍ تأتي فيها الوقائع والأحداث مُحكمةً مملوءةً ثقيلةً. وتعود نسقياً من حيث النقطة التي انتهت بها وفق هذا النظام الفني الكروي الدائري المتوالي كحركة تعاقب اللَّيل والنهار، ظلمة وأشراقاً.

وحين نبحث بسونار حفرياتنا الكشفية عن لُقَى وآثار مُعميات هذا النسق الحدثي الدائري في مدونة الحِجَّاج الشعرية نجدها ماثلةً بتجلٍّ واع في تمظهرات قصيدته ذات النسق الفكري (فِي مِيلادِي الأَخِيرِ.. ربَّما)، والتي تدور مظان رَحى فلكها المحوري عن فلسفة الحياة والموت التي وظَفها الشاعر بلغةً شعريةً رائعةٍ شائقةِ التعبير في مقاطع القصيدة الأربعة. وبعبارةٍ محوريَّةٍ تكرارية (هكذا نمضي..)، وتحتَ نسقٍ حدثي تراتبي متباين الصيغ والرؤى في حجم الأفكار، تقنَّعَ فيها الحِجَّاج بلغة الذات الجمعية الشاعرية، وبأسلوبه التَّخصُّصي المعروف (نحنُ الأرقاءَ) في صيغة التعبير الجمعي، أي كنايةً عن المستضعفين. وبمقدمةٍ طلليةٍ ميلادية حدثية تحدَّث فيها عن الموت البطئ المؤجَّل الذي يتكرَّر كلَّ عامٍ، والذي يُطلَقُ عليه في معجمه الشعري ميلاداً جديداً، وعدَّه ما تبقى من سنين عمره الأخيرة التي يصفها ماضياً فيها القول بهذا الوقع الفعلي الدائري:

هَكَذَا تَمضِي وَكَأنَّهَا رَمَقٌ

لَمْ يَرتَدْ تَتَهَاوَى فِيهَا

كَحَبَّاتِ رَمْلٍ عَلَى طَرِيقٍ سَرِيعٍ (ص 47)

إنَّ موحيات هذا المقطع الدلالية المحتشدة السطور تُشير بنياته النصِّيَّة وفقاً لسيميائيات جوليان غريماس اللِّسانية إلى أنَّها الأيام، أيام الميلاد السريعة التي تمضي أهواؤها حياتيَّاً مثل رمقٍ خاطفٍ دون ارتدادٍ أو اهتزازٍ يعرقل عجلتها الدائرية المتساوقة نسقيَّاً. إلَّا أنَّ وقائع الحدث الفعلية تُنبئ بخطر القائمين فيها من الذين تهاوت حياتهم كحبَّات رملٍ مُتطاير الخُطى على الطريق، أي أنَّهم على (شفَا جُرفٍ هَار)ٍ في أيِّ لحظةٍ يجرفها السيل العارم.

وعلى وفق هذا النسق الدائري الحَلقي يستمرُّ الشاعر في توظيف أحداثه بتكرار نفس العبارة المركزية (هكذا نمضي ...) مع تجديد وقع دلالاتها الحدثية والموضوعية في المقطع الثاني والثالث والمقطع الرابع والأخير الذي ينهي به القصيدة مجسِّاً ثيمة الفكرة الموضوعية بهذا التوصيف الحدثي الشعري الجمالي المتناسق فنيَّاً ودلاليَّاً:

وَهَكَذا تَمضِي الرَّصَاصَاتُ

الَّتي توَّجَهَا غِيَابُهُم إِلَى مُقبَرَةِ الخَاسِرِ

الأَكبَرِ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الحِجَّاج ُ(ص 50)

وبمثل ما بدأ الشاعر فكرة قصيدته عن فلسفة (الحياة والموت) التي شغلت أكثر الشعراء والمبدعين وجوداً في الكون، أي (أكون أو لا أكون). كحامل صخرة سيزيف انهكه صعود الجبل مراراً وتكراراً في صراعٍ مستمرٍ، انتهى بها الشاعر إلى سِفرِ رحلته المعراجية المكوكية الختامية الخطرة من حيث ما ابتدأ المسرى؛ ولكن كانت بهندسة لغةٍ تعبيرية جماليةٍ مغايرة التوصيف. فالأيام استحالت في نظر الشاعر إلى رصاصاتٍ شؤمٍ قاتلةٍ توَّجها الغياب الجمعي لأصدقاء العمر المحبِّين إلى ساحة مقبرةٍ، وكان الخاسر الأكبر فيها منهم ذلك الذي أشار إليه مُلَوِّحَاً الشاعر ذاته حيدر الحِجَّاج الذي هو أوَّل ُالقتلى بغدر رصاصات الأيام،وآخر من يموت بطيئاً في حياتها.

من يتأمَّل برؤيةٍ ذهنيةٍ صافيةٍ النصِّ الشعري الآتي:(عند ضريح محمَّد عبد الواحد الربيعي) الدال على إشارات سيميولوجيته الموضوعيته الإنسانية الكبيرة، حتماً سيلفت نظره موضوعية الجودة في كمية ونوع الرثاء الخالص في الوفاء الجمعي الصادق الذي يُؤَبِّن به الحِجَّاج بألمٍ ووجعٍ وحزنٍ عميق شفيف دافئ صديق عمره الصدوق محمَّد الربيعي، ذلكَ هو الرمز الشخصي الذي أنشبته أظفار المنون على عجلٍ دون ريثٍ ولم تُبقِ من مزايا ريثه الوجودي الدنيوي سوى عذاب الفجيعة وألم التحسِّر وصدى الذكريات، وصفات ذاته الروحيَّة النقية الخالدة التي وظَّفها الِحجَّاج بعنايةٍ صوريةٍ شديدةٍ في طيَّات هذه القصيدة التي احتوت على ثمانية مقاطع شعرية دائرية حلقيةٍ.

هذه المقاطع ذات التركيب المتوالي كلُّها تناولت فكرة واقعة الموت وأثرها الكبير على نفسه الشاعرية، وأنَّ وقع هذه الحادثة الإنسانية الأليمة دفعت بالشاعر إلى أنْ يضع لكلٍّ مقطعٍ من مقاطع القصيدة الثمانية مفتاحاً محورياً دائريَّاً متوالياً ينطلق منه بسرد وقائع تلك الحادثة بعبارة افتتاحيةٍ كمقدمةٍ طلبية أمريَّةٍ مبتداها يقول: (لا تفتحْ التابوتَ) عندما وقف عن ضريحه مُتخيلاً حفاراً للقبور أمام ناظريه ناهياً إيَّاهُ ومخاطباً بتلك العبارة عن فتح ذلك التابوت الذي وُضِعَ فيه صديقه المسجَّى مُحمَّد الربيعي، وهو يُنشده تراتيل الحزن وآيات الرثاء الخالص. فقد جاء مقطع القصيدة الأول بعد أنْ ذكر سجايا محمَّد الربيعي وتخيلاته عنه، ذكر واقعة الموت التي جعلها طائراً مغرِّداً بانزياحاته الجمالية الحزينة قائلاً عنه بكل صدقٍ ووفاءٍ:

فَلَا تَفتَحِ التَابُوتَ

قَدْ غَرَّدَ المَوتُ فِيهِ

وَهَالَتْ عَلَى خَدِّيهِ

جَنَائِنُ عِطْرِهِ (61، 62)

أمَّا المقطع الثالث فقد حمل الفكرة، فكرة (الموت) ذاتها ورسم واقعتها الحدثية بدالة (الأقدار) التغيبية التي ساقته إلى فيض قبره، وانحنت على إطفاء جَمره الظاهر المعروف لنا، والمتَّقد اشتعاله، وقد وظَّفه الشاعر بنفس الترتيب الأسلوبي التكراري الدائري السابق، ولكن أكِّده صوره بلغة شجية حزينة تفطر نياط القلب وتنكئ جراحاته النائمة:

لَا تَفتَحِ التَّابُوتَ

لَقَدْ سَارَتْ بِهِ الأقدَارُ

إِلَى فِيضِ قَبرِهِ،

وَاِنحَنَتْ عَلَى جَمرِهِ المَعهُوِد

وَالمُتَّقِد أَورَاقَ حِبْرِهِ (ص 62)

وجاءت دفقات المقطع الرابع مشحونةً بنفس العبارة التكرارية الحَلَقية، ولكن بألمٍ شديد وتحسُّر ومشاعر حزينة طالت حتَّى الصبر توجِّعاً وعملت عملها المؤثِّر بحنينه وأنفاسه المعطرة التي تناثرت اشلاءً على قارعة الطريق:

لَا تَفْتَحِ التَّابُوتَ وَتُوجِعْ صَبرَهُ

فَقَدْ مَرَّ كَالشَّجَنِ

عَلَى بَابِهِ وَصَاحَ:

ظَلَّتْ عَلَى الأبْوابِ أَنْفاسُ عِطْرِهِ،

ظَلَّتْ عَلَى الطُّرقَاتِ

مَسَافَاتُ دَمْعِهَ القَدِيمِ

وَأنِيْنِهِ الخَافِتِ (ص 62)

أمَّا دائريَّة المقطع الرابع الحدثية الحلقية، فقد كانت صرخةً مُدوِّيةً أعلنت موت محمَّد الربيعي الحقيقي في عالم الوجود، ذلك الكائن الإنساني الذي رثته حتَّى الفراشات الرقيقة بهذا النشيد المتناهي عن سمفونية الموت المخيف:

لَا تَفتَحِ التَّابُوتَ

مَاتَ مُحَمَّدٌ

الفِرَاشَاتُ تَقُولُ:

مَاتَ وَحْدَهُ أَعْزَلَ

يَفُوح ُ مُوجُهُ (ص 62، 63)

وتأتي أحداث المقطع الخامس لتأكِّد -بشكل تتابعي دائري درامية لأحداث-موته وفوحان رائحة مسكه الروحي:

لَا تَفْتَحِ التَّابُوتَ

فَيَفُوحُ مِسُكهُ

وَتَئِنُّ فِي قَلبِي المَوَاجِعُ

فِي رَوضِ يُوسُفَ

وَيَضِيعُ أَمرُهُ المُوجِعُ (ص 63)

ويستمرُّ رثاء الحِجَّاج لصديقه المرثي الربيعي في المقطع السَّادس الذي جاء مُكثَّفا بأنَّاتِ النَّواح المفجع على موته بأحسن الصور والعبارات التي توصف توجّع وحزن أُسرته بنايات العذاب الروحي النثيثة بالألم المُدمِي:

لاَ تَفتَحِ التَّابُوتَ

فِإنَّ لإبْرَاهِيمَ أَلفُ نَايٍ يَفُوحُ

عَلَى مَدَارِ قَصْرِهِ

عَلَى الضِّفَةِ الأُخرَى أَنْ تَفكَّ اِشتِبَاكَنَا

نَحنُ الأَولادُ الَّذينَ نَفُورَ

مِنْ مَنظَرِ قَبْرٍ مَفتُوحٍ

عَلَيهِ زَهرَةُ المّيِّتِ (ص 63)

وجاء المقطع السادس متساوقاً بمسار تكرار عباراته الدائرية الفعل مبيِّناً رؤيا الربيعي الحُلمية التي نامت بمعية عمره الميت الفاني مع أبراره الخيرة التي تحوم في قبره الذي ثوى فيه ثواءً أبدياً، فلنمتع ناظرينا بأحداثه المؤثِّرة:

وَلَا تَفتَحِ التَّابُوتَ فِإنَّ فِيهِ

(رُؤىً) تَنَامُ وَبَقَايَا عُمْرِهِ

وَتِلكَ (أَبرَارُهُ)

تَحُومُ حَوْلَهُ (ص 64)

أمَّا وقائع شعرية المقطع الثامن الحدثية فقد جاءت تأكيداً بتكرار فكرة موضوعية الموت التي هيمنت أحداثها الدائرية الوقع على أجواء مناخ القصيدة. فبمثل ما ابتدأ الشاعر مطلع القصيدة الأول بها عاد في مطلعه الختامي الأخير بنفس الفكرة التي انتهت عندها في المقطع الأوَّل؛ لكنْ بصيغةٍ مجازيةٍ مُعبِّرةٍ عن رمزية الموت بالأحرار:

لَا تَفْتَحِ التّابُوتَ

قَدْ غَادَرَ الأَحرَارُ

وَانْتَهَى عَصْرهُ [الربيعي] (ص 64)

فهذه هي النهاية التي انتهى إليها الشاعر الحِجَّاج، هي ذاتها البداية التي استهل بها مطلعها التصديري الأول. وقد حظت الكثير من قصائده بهذا النسق الجمالي الدائري التكراري الحلقي في بناء أحداثها التركيبية الشعرية.

4- شِعْرِيَّةُ حَدَثِ التَّضمِينِ (الرَّمزي):

من الظواهر الحدثية التأصيلية التي حفل بها ديوان الحِجَّاج الشعري (الوردةُ بكاملِ هُجرانِها) شعرية تضمين الرموز الاسمية الشخصية، أي تضمين وتدوين حركة شخصيات الفواعل الاسمية في البناء الحدثي لقصة الواقعة الشعرية الأُمِّ وتعضيدها بهذا التضمين الاسمي التأسيسي التأثيثي الفرعي الذي هو جزء من نسق بنيتها الحدثية. وليس طارئاً عليها موضوعياً أو مُقحماً دون تقديم سابق مما يمنحها مِساحة من التأصيل والتأطير والتفعيل ويُضفي عليها لوناً فنيَّاً من الوحدة الموضوعية التي تتماسك تلابيب فروعها أو روافدها الإثرائية بنواة وحدتها الأصلية الأمِّ. وهذا التضمين الاسمي له ارتباط شعري (خارجي) ظاهري و(داخلي) خفي مع انثيلات مقاطع القصيدة ومحتوى إرهاصات قصتها الأصلية الذاتية التي صاغها الشاعر بلغة الذات الكليَّة الجمعية المعبِّرة.

وحقيقةً أنَّ توظيف هذا النسق التضميني بهذه الطريقة في قصيدة النثر الحديثة يعدُّ من الأنساق الحدثية الفعلية الحديثة. وهو ليس من الأنساق القديمة التي يأتي تضمينها البنائي على شكل جملٍ اعتراضية توضع بين شارحتين في الشعر العمودي إقحاماً وتنقطع عن موضوع الوحدة الشعرية الأُمِّ التي بُني عليها الخطاب النصِّي الشعري.

وعند البحث عن تمظهرات تقنية هذا التضمين الاسمي الشعري نجده مُجسَّداً بوضوحٍ تامٍ البوحِ بقصيدة حيدر الحِجَّاج (في ميلاي الأخير .. رُبَّما) التي يتحدَّث عن ميلاده الأخير ويستحضر صحبة أصدقائه من رفقاء العمر:

وَهَا هُوَ مِيلادِي اليَومَ

تُرَمِّمُهُ سَاعَاتٌ كَثِيفَةٌ

مِنْ أَسوارِ الثَّكنَاتِ

وَأصحَابِي الَّذينَ تَمَاثَلُوا إِلَى

قرْبَانِ الفَجِيْعَةِ

وَمَضَى دُونَ أَنْ أَشِيرَ

لَهُ بِمِنْدِيلِي الأَبيَضِ ! (ص49)

فأحداث هذه المقطوعة تؤكِّد أنَّ الحِجَّاج يضمّن شعرياً قصَّة صاحبه وصديقه الأديب المهجري عبد الخالق كَيطان الذي هو من الرموز الشعرية والثقافية ممن تركوا أثراً من بقاياهم الشخصية في الواقعة المكانية ومضى لسبيل حاله باحثا عن ذاته الوجودية في هذا العالم الدنيوي الفسيح الواسع . ثُمَّ يمضي الحِجَّاج قُدُماً بنفس القصيدة بتدوين قصة رمز آخر من قصيدة النثر الشعرية الذي ترك في نفسه شيئاً من ذكرياته الذاتية عالقة لا تُنسى:

وَعَلِي أَنوَرُ نَسِي مِعْطَفَهُ مُعَلَّقَاً

عَلَى بَاصٍ أَقَلَّهُ إلَى مُدُنِ الضّبَابِ

وَتَرَكَنِي أُدَوِّنُ ذِكرَيَاتِهِ بِمِحبَرَةٍ سَودَاءَ !(ص 49)

فدالة الرمز الاسمي المُدوَّن تضمينه الشخصي كما تُشير درامية سطور المقطع الصغير البائنة هو الأديب علي أنور الذي سافر مهاجراً مرغماً إلى بلد الضباب، ولم يترك أثراً خلفه سوى ذكرياته الطيِّبة التي أرَّخها الشاعر بمداد حبره الأسود حزناً على وقع هذا الفراق الموجع.

وفي مطلع قصيدته الثاني ذاتها يستحضر الحِجَّاج رمزاً ثقافياً آخر من مدينته الجنوبية الزاخرة بالرموز الإبداعية، ذلك هو الرمز الإبداعي علي سعدون الناقد الفذ والشاعر المثقف الحداثوي والإنسان الذي عدَّهُ حيدر الحِجَّاج عَرَّابا فكريَّاً مهمَّاً لاتجاه بوصلتهم الثقافية الإبداعية الجمعية حتى استأثر بسرد قصته الشعرية الذاتية في هذه السطور المتراتبة الحدث:

وَعَلِي سَعْدُونَ عَرَّابُهُم الأَكبَرُ

اِنزَوَى فِي قَريَّةٍ مَنسَّيَّةٍ

وَمَضَى لِعُزلَتِهِ فِي حَدِيقَةٍ

مَائِلَةٍ يَنظُرُ مِنْ شُبَّاكِهِ لِدُعاَبَةِ ثَمَرٍ

فَيَهوَى ضَاحِكَاً

لِسُخرُيَةِ مَا مَرَّ بِهِ

مِنْ مَهَازِلَ لَا يَستَوعِبُهَا

الفَعلُ وَلَا المَنْطِقُ (ص 50)

لم يكتفِ الحِجَّاج من ذكر وتضمين رمز الشخصية الاسمية العرَّابيَّة، بل راح يسرد بأرخنةٍ عفويةٍ شيئاً من أثر قصتها الحكائية الوجيز. فذكَّر مُلمِّحاً بإشارةٍ ذكيةٍ إلى اِنزواء سعدون في قرية شبه رِيفية مَنسية في المدينة. أي بالإشارة الواضحة إلى محل إقامته في قرية دور معمل الورق السكنية في مينة العمارة التي لم يُغادرها معتزلاً.

وفي مقطعه الشعري الثالث يستدعي الشاعر رمزا شخصياً ثالثاً من رفقاء صحبته الجمعية، ذلك هو المدعو ستار أبو شماع، ويسرد بعضاً من رحلته القصصية التي يمضي فيها مُتغرِّباً خجلاً عن مدينته المنسية الأثر:

وَسَتَّارُ أَبُو شِمَاعِ

يَكفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَجمَعُ أُلبُومَهَا

المُتَنَاثِرَ وَيَنْأَى بِخَجَلِهِ المُفرَطِ

بَعِيدَاً عَنْ مَدِينَتِهِ المَنْسِيَّةِ (ص 50)

بهذا الوقع الشعري الحدثي يقوم الشاعر حيدر الحِجَّاج بتدوين صور تلك الرموز الشعرية الأدبيَّة والثقافية ويُضمِّنها وفق هذا النسق التاريخاني المتساوق الذي يُضفي على شكل القصيدة النثرية وروحها لوناً من البراعة الفنيَّة وشيئاً من سُحرية الوفاء وجماليات الإبداع الذي يُعَوِّضُ عن فقدان تقنية الوزن والقافية. ولم ينسَ الشاعر أنْ يؤرخن لنفسه ويُضمِنُها ذاتياً بإشاراتٍ تلويحيةٍ إلى رمزية (الحِجَّاج)، لقبهِ الاسمي الشعري، والَذي عدَّ فيه نفسه الخاسر الأكبر من بين هؤلاء الصحبة في مقبرة الرحيل نحو عالم المجهول، عَالم اغتراب الذات الجمعي وجوداً:

وَهَكَذَا تَمْضِي الرِّصَاصَاتُ

الَّتِي توَّجَهَا غِيَابُهُم إِلَى مَقبَرَةِ الخَاسِرِ

الأَكبَرِ فِيهَا ذَلِكَ الحِجَّاج (ص 50)

لم يقتصر تضمين حيدر الحِجَّاج على تدوين الرموز الأدبية والإبداعية في مدينته السومرية، مالَ إلى استدعاء رموز الفنِّ واستحضارهم؛ كونهم رموز الفن والثقافة عموماً فذكر اسماءً، مثل الفنان المسرحي الكبير يوسف العاني والمطرب الشعبي الشهير سعدي الحلي، والمطرب العراقي الكبير ناظم الغزالي، والمطربة سيتا هاكوبيان والفنانة العربيةَّ الكبيرة فيروز. ووظَّف من الرموز الفلسفية المفكر(نيتشه)، ومن أبطال رموز الفن الأسطوري كاكامش، ومن شعراء قصيدة النثر الشباب جلال حسن. فضلاً عن تدوين الكثير من الصفات والألقاب الفنيَّة.

وقاده شعوره الإبداعي الجميل إلى أبعد من تلك الرموز والشخصيات الفاعلة في حدث الحياة الثقافية. فقد كان حيدرالحِجَّاج مهجوساً في مدونته الشعرية بتلك الأرخنته التدوينية. حتَّى وصل به هوس حبِّ تقانة تضمين الرموز إلى استحضار وأرخنة قصصٍ شعريةٍ في قصائده عن الرموز المثيولوجيَّة الشعبيَّة المحليَّة المؤثِّرة بيئياً في الناس بحيِّ (الماجدية) في مدينة العمارة، والتي أضفى عليها في شعريته التضمينية طابعا درامياً تراثياً من ذاكرة المدينة المنسية والمهمَّشة قصدياً عبر توالي الزمن؛ كونها مدينةً شعبيةً محضةً غارقة بالفقر والفاقة والعدم رغم إبداعها الفنِّي والجمالي.ولنقف على جانب من هذا التدوين الإجرائي الحكائي الذي لم تقله المدينة جمالياً في ذاكرتها الفنيَّة:

وَدُروبَ المَاجِدِيَة ِالمُزاحِمَةِ لِفِتيَانِهَا

البَواَسِلِ "فَيصلُ الأَعمَى"

وَهوَ يُغَنِي بِصَوتِهَ الشَّجِي

مُدْرِكَاً بأَنَّ جَمِيعَ الأسمَاكِ

كَانَتْ تَتَغذَّى مِنْ عُذوبةِ مَواويلهِ الجَنُوبِيَّةِ

و "أَبُو زُهَيرٍ" حِينَ يَكُونُ قُبَالةَ

تَهرِيجِنَا وَنَحنُ نَهرَعُ هُرُوبَاً

عِندَ قَرْعِ الجَرْسِ الأَخيرِ

**

وَجَدَّتِي "مُوشَةُ"

الَّتي تَهدِينَا (أَبُو العَسَلِ)

غَادَرَتْ هِيَ أَيضَاً وَهيَ مُبتَسِمَةٌ

**

لَمْ تَعُدْ تِلكَ الفِكرَةُ تُشَاطِرُ أُنْسِي

فـَ "بَيتُ لَفتَة"، وَ "أُمُّ زِغَيِّرٍ"

وَمُعَلِّمُو صُفُوفِنَا

المُتلْصِقَةِ كَبَرَاهِينَ لِلحيَاةِ وَحدَهَا

أصبَحُوا شَوَاهِدَ

مِنْ فِكرتِي الَّتي اَتصفَّحُهَا عِندَ كُلِّ مَغِيبٍ (ص 55، 56، 57)

بهذه الروح الشعرية المتواثبة يمنح الحِجَّاج رموزه الشعرية مساحةً واسعةً إبداعية جماليَّة من الأمل في فضائه الشعري. ولعلَّ هذا التضمين الاسمي يحمل في طياته العفوية التراثية معاني الصدق وإيثار سمات الوفاء لشريحة مجتمعية معدمة عانت ما عانت من ضيم العوز والعدمية وضيق الحياة. فشخصيات ورموز وأسماء محلية شعبية ملحمية بائنة المكانية مثل، (فيصل الأعمى، وأبو زهير، وجدتي موشىة، وبيت لفته، وأمُّ زغير، ومعلمو صفوف المدرسة)، ووغيرهم خير مثال على تضمينه الحدثي لهذه المؤثرات الرمزية في مثاباتها الجمعية المتوحُّدة.

5- شِعريةُ الحَدثِ المَكاني:

لا شكَّ أنَّ الوحدة المكانية أو تقنية المكان، تُعدُّ من العناصر الفنيَّة المهمَّة والرئيسة في بناء الخطاب السردي القصصي الروائي؛ لكون المكان يرتبط ارتباطاً جدليَّاً وثيقاً بعنصر الوحدة الزمانية وَبِفِعْليَّاتِ الحدث وبفواعله الشخصية التي بها تكتمل صناعة أركان الخطاب السردي وتُنتَجُ للمتلقِّي في الوجود. فهذا الأهمية الكبيرة التي اكتسبتها حدثية وحدة المكان في أدبيات الخطاب السردي مكَّنتها فنيَّاً وجماليَّاً وموضوعيَّاً وفعلياً من أنْ تكون على قدرٍ من عالٍ من دواعي الاهتمام الفاعل في بناء الخطاب الشعري. فلا أهمية تذكر للمكان من غير زمانٍ ما يُحدَّدُ بمكانٍ معيَّنٍ ما، وحدثٍ بنائي يحتويه، وفواعل تقوم به سطح الواقع شكلاً ومضموناً وتُجسِّده لفظاً ومعنىً وأداءً.

ولجماليات واقعية المكان في شعر حيدر الحِجَّاج مكانة خاصة وفريدة تنبع من كون الحِجَّاج ابن بيئة اجتماعية مدنية قارَّة الطبع في شعبيتها، تركت آثارها الاجتماعية وإرهاصاتها المحيطية المختلفة في انطلوجيا مرايا شعره العاكس لأرض الواقع الذي حفلت به الكثير من قصائده النثرية ذات الارتباط الشديد بـ(المَا حَولَ) البيئي المتنامي اجتماعياً وفكرياً وحضارياً وفلسفياً وثقافياً. فالتفرُّد المكاني أثره الواضح في شعريته المكانية حاضراً ومعنىً.

لا تخلو أيةُ قصيدةٍ أو أيٍ نصٍّ شعريٍّ من مدونة الحِجَّاج الشعرية وإلَّا وفيهِ تدوينٌ لمكانية الحدث باسمى تجلِّياته الواقعية التصريحية، وبكل إرهاصاته وتداعياته الداخلية الفاعلة التي تطفو على سطح القصيدة كمَعلَمٍ أثري شامخ الوضوح. فلننظر بدقةٍ كيفَ يُؤرخِنُ الحِجَّاج لحياته المنكسرة المأزومة ويدوِّن أفق ضياعات أحداثها المكانية المُتجذرة مثابةً بعد مثابةٍ أخرى في قصيدته (صَحيفَةُ قَيصرٍ مهزومٍ) الدالة على أنين وقع محطَّات وجعه الذاتي الكبير بهذا الأسلوب القصصي الدرامي المتنامي الحدث المكاني عبر وقائع انثيالاته التقريرية المحبَّبة:

وَحِينَ شَرَعتُ لِتَسديدِ تِلكَ النَّفَقَاَتِ المُدَوِّيةِ

دَخَلتُ شَارعَ المُتَنَبِّي وَأزقةَ الحُريَّةِ

عَامِلَاً خَائِبَاً مِنِ الجَنُوبِ

تَسَكَّعتُ فِيهَا طَويلَاً لِلبحثِ عَنْ هُويتِي

كعراقي مدانٍ بالوطنية لا سواها !

سَخِرَ مِنِّي أَبنَاءُ الوَطَنِ رَغمِ أَنَّنِي

أُلَوِّحُ كَثِيراً لِـ: مَعنَى الوَطَنِ

فِي اللَّا وَطَنِ (ص 25، 26)

ولعلَّ سطور هذا المقطع النازف ألماً وجروحاً وعذاباتٍ متجلِّيةٍ، والذي يبحث فيه الشاعر عن ذات هويته العراقية المفقودة ويستحضر خيبته ووجعه الذاتي المهزوم، تَشي صورة فضاءاته التمظهرات المكانية الوجودية الذاتية التي تمثَّلت بدلالة الألفاظ المكانية، ( شارع المتنبِّي، مدينة الحُريَّة، والجنوب العراقي، ورمزية الوطن في اللا وطن)، فضلاً عن وقع آثار التسكع المكاني لقصة غربته المعنوية النفسية وانعدام وجوده الذاتي التي انعكست ذاتياً على نشاطه الإبداعي الشعري بشكل سيري لافت، بائناً حبه الفطري الجمِّ لهذا الوطن الذي سخر منه أبناؤه.

وفي إثر ذلك يمضي الشاعر قُدُماً في مقاطع القصيدة ذاتها في توصيف وتدوين محطَّات وجع رحلته المكانية المؤثِّرة من الجنوب العراقي إلى بغداد العاصمة حين يصف سكارى(ساحة التحرير)في قلب بغداد، ويرسم صورة لـشحاذي (بابِ المُعظّم)، ومصاطب حي الكرادة ليلاً وهي تضجُّ وتعجُّ بمغنّيات حانات اللَّيالي الحمراء من ذوات الأرداف، وَصْفَ مُحَطَّمٍ مُعدَمٍ لا يملك سوى إمتاع ناظريه بهذه المشاهد اللِّيلية الساحرة بضوء جمال حركتها فنيَّاً:

إِذْ كُلِّ شَيءٍ

يَمُوجُ بِبُطءٍ شَدِيدٍ بِنَشوَى سُكَارَى

سَاحةِ التَّحريرِ وَشَحَّاذِي بَابِ المُعَظَّمِ

أَوَاهٌ

مَا أَجمَلَ تِلكَ الأَردافِ وَهيَ تُغَنِّي لَيلَاً

عِندَ مَصَاطُبِ الكَرَّادةِ فَيَنتَفِضُ مُوجُهَا

مُرتَفِعاً إلَى السَّمَاءِ !

لَا أُرِيدُ أَنْ أَنْسَى بَعضَاً مِنْ

مَلهَاةِ حَيَاتِي الكَافِرَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ (27)

ويبدو من خلال خاتمته النهائية أنَّ الشاعر يُنبئ بموحيات حياته المَلهَاتِيَّةِ الكافرة -كما يُسمِّيها- الناتجة عن وقع تجلِّيات غربته النفسية المكانية والشعور بالإحباط والعدمية التي استولت على نفسه. ولم ينسَ حيدر الحِجَّاج أنْ يرسم لذاته الشاعرية لوحة الأمل المنشود على لسان حبيبته المعشوقة التي يترقَّبُها كنجمةٍ مضيئةٍ يأسرها الشوق والحنين لمدينته الجنوبية (العُمَارة) التي أودعها أنفاسه المكانية ويستعيد ذكرياته اليومية في نخيلها الشامخ:

سَتُلَوِّحِينَ لِذلِكَ

الَّذِي يَنتَظِرُ وَحِيدَاً

وَهوَ يَتَرَقَّبُ نَجمَتَهُ الَّتي يَأسَرُهَا حَنِينٌ

مرَّ ذَاتَ يَومٍ عَلَى نَخِيلِ العُمَارَةِ (35)

فهذه المدينة التي أرخن لها الشاعر مكانياً وشغفته بحبِّها شعوريَّاً قد مرَّ ذكرها والتغنِّي بتاريخها في ديوانه بأكثر من موضعٍ وشاهدٍ شعري سواءٌ أكان باسمها الصريح المعروف (العمارةُ) أمْ بمركز محافظة (مَيسان).

وللمقاهي الشعبية بوصفها مثابات مكانية أثرُها البالغ في شعرية الحِجَّاح التدوينية، فقد تردَّد ذكر مفردة المقهى في قصائده كثيراً، وفي مواقع عدة منها، وعلى وجه التحديد مقاهي بغداد الشعبية العامة والخاصَّة المعنية بشؤون الأُدباء والفنانين المبدعين من المثقفين؛ كونها تعدُّ مثابات حضورٍ وتَلاقٍ زمكانيٍ مؤثِّر لهم لا مناص منه كثيراً. ففي نصِّ قصيدته (هَرَجُ بَغدَادَ) التي يستدعي فيها ويستحضر ضفاف نهري (دجلة والفرات)، ويذكر ميحانة ناظم الغزالي، وسُكارى ساحة التحرير المُتسكعينَ بشوارع بغدادَ بجدلية هذا التساؤل الذي يطلب فيه جواباً شافياً لنفسه:

أَينَ مَلَاحِمُ عُذُوبَتِهَا ؟

وَهيَ تَستَحِمُّ بِأغَانِي سِيتَا هَاكَوبيَانَ

وَهيَ تَختَلِطُ بِسحرِ فَيرُوزَ

فِي مَقَاهِي شَارِعِ الرَّشِيدِ

وُصُولاً لِشَارِعِ الجُمْهُوريةِ المُلغَى

بِمَرَاسِمٍ جَنائِزيَّةٍ لَا تَلِيقُ بِهِ

أَينَ حَمَّالُوهَا وَعُتَاتُهَا

الَّذينَ يُغَنُونَ لَيلَاً دُونَ اِنقطَاعٍ ؟

أَينَ صُرَاخُنَا فِي الطَّالبِيَّةِ ؟ (69)

فثمة ما يقوله الشاعر من تساؤلات استرجاعية كثيرة، كانت، مشروعةً عن تلك المثابات المكانية في الفضاء الكوني الوجودي الحياتي، مثل(مقاهي شارعي الرَّشيد والجمهورية، وصدى مدينة الطالبية)، وغيرها من الفنادق المتهالكة التي احتشدت صورها بتكثيف دلالي كبير مع رموزها الفنيَّة الشخوصية الفاعلة في فضاء خطابه النصي المتراتب. ولعلَّ ذاكرته المكانية للمدينة لم تنسه أرخنة واستدعاء مبدعيها من روَّاد الفن والطرب الأصيل الأوائل.

ولم تنحصر دالة الأرخنة للوحدات المكانية على الأزقة والشوارع والأحياء والمدن المحليَّة عند الحِجَّاج، وإنَّما قد تجاوزت تلك الحدود وأرخنتها التدوينية المكانية إلى الوطن المصلوب بهزائم التاريخ، وإلى شواهد حضارته السومرية الجنوبية المشرقة التي وظَّفها في نصه الشعري (صُدورُ البَيانِ التَّالي) الدال على رموز مكان فنتازيته:

وَمِنِ الوَهمِ إِلَى الوَثَنِ

وَدُعَاةِ الصَّنم أَو رُبَّمَا الوَطَنُ ...

إِلَى رَهْطِ سُومَرَ وَ لَكَّشَ

نَحنُ لَفيفٌ عَظِيمٌ مِنْ كُبَارِ اللُّصوصِ

سَلَخنَاكُمُ مِنْ أَحلامِكُم

فِي ظَهِيرَةٍ بَاردَةٍ

نَتَبَاكَى عَلَيكُم جَهَارَاً (31،32)

لقد كان الشاعر موفقاً في إشارته التاريخية المكانية عن سومر ولكش العراقية الرافدينية. وتمكَّن في الوقت نفسه من أسقاط الواقع الراهن اللِّصوصي العابث بمقدِّرات البلد وسياسته على وقائع التاريخ الحضاري. وهنا تكمن البراعة الشعرية للأرخنة التدوينية في إسقاط رهان الواقع على التاريخ لا إسقاطُ التاريخ الحضاري المشع على الواقع الاعتباري المتهالك. فالحكمة ليس بذكر شواهد التاريخ الحضارية ومدنه الشهيرة، بل تجسد المكانية بما يتناسب مع واقع الحدث التاريخي ومجدها الحضاري الكبيرة في أفول نجومية الوطن السليب التي يسعى الشاعر في توصيلها للمتلقِّي الواعي في رسالته الموضوعية المهمَّة من خلال نصوص خطابه الشعري الراكز.

وحقيقة الأمر أنَّ الشعور النفسي المتزايد بتعاظم الغربة المكانية المعنوية لدى حيدر الحِجَّاج أشدُّ وقعاً وأكثر غضاضةً ومضاضة واستلاباً وتأثيراً في وقعها على نفسه المُحطَّمة المأزومة من وجع المكانية المادية الوجود نفسها. فالعبرةُ أو الحكمة البلاغية ليس في مثابات المكانية ومحطّاتها ذاتها، بل في عقابيلها المؤلمة ورهاناتها الخاسرة عبر اجتراحات الحاضر المحتدم بالأزمات وضبابية المستقبل المجهول المُعتم بضبابيته الممتدة.

6- شعريَّةُ العَتبةِ العنوانيةِ الفنيَّةِ:

أهمِّ ما يُميز هذه المدونة الشعرية اللَّافتة للنظر بعنوانها الفنِّي الشكلي الرومانسي الحالم، (الوردةُ بكاملِ هُجرانِها) التي انمازت بلغتها الفكرية العميقة ووحدات ثيمها الموضوعية الموحدة الرصينة، وبأدلجة رؤى فلسفتها البعيدة، وبانزياحات مجازات صورها الفنية البسيطة، وبوقع نفسها الشعري التعبيري الطويل الفقرات. تلكَ هِيَ البسالة الذاتية في أسلوبيتها الشعريَّة المغايرة في التمرُّد على نسقية الذات ونمطيتها الرتيبة. فضلاً عن جرأة معجمها الشعري الحديث وشجاعة الإقدام المتفرِّد لا الإحجام المتردِّد في إقحام مناطق شعرية كثيرة ذات خطوط حمراء مائزة خطيرة في كسر واقع حدود التابو الاعتباري المحرم المألوف وتحطيم دفاعاته المجتمعية المحصنة القويَّة الرديفة في أرض الواقع، سواءٌ أكان ذلك على المستوى الفردي الذاتي لأنا الشاعرية أم على المستوى الجمعي الذاتي المشترك. مضافاً إلى تلك الخصائص الأسلوبية للشاعر تحوِّلات أنساقها البنائية المتجددة السريعة الحدث.

قد تكون دالة الوردة في أوضح معانيها القاموسية القياسية القريبة بمعاجم اللًّغة العربية الحديثة، هي زهرة الوردة المعروفة برائحة شذاها العطري الفوَّاح. وقد تكون غير ذلك دالتها المعنوية السياقية البعيدة التي يُحدِّدها سيَّاق الجملة الشِّعرية التركيبي الأسلوبي. فمن فروع حقلها المعجمي الدلالي القصدي المتوخى البعيد المبتغى أنَّ الوردة قد تعني المرأة أو الأُنثى الجميلة أو الحبيبة أو المعشوقة أو رمزاً جمالياً للأُمِّ، أو قد تكون الوردة هي الوطن الأُمُّ الكبيرُ . أمَّا دلالة مفردة (الهُجران)، فتعني القطيعة والصرم والانبتات أو الابتعاد عن الشيء كراهيةً:

وَردَةٌ سَتُحَاكِيهِ كُلَّ مَسَاءٍ

عَنْ ضَفَافِ مَدينتِكِ الَّتي

تَطلُّ عَلَى بَوَابَةِ رُوحِهِ

وَسَتُنَاغِيهِ بُوَجَلٍ

عَنِ بَرِيدِك الَّذي لَمْ تَحمِلْهٌ الحَمَائِمُ إليهِ (ص34)

ولعلَّ الحقيقة اللَّافتة للنظر في مشغلنا النقدي من خلال تفكيكنا لشفرات النصوص الشعرية في اشتغالات حيدر الحِجَّاج الشعرية بمدونته العنوانية الرئيسة الموازية للنصِّ الرسالي الإبداعي (الوردةُ بِكاملِ هُجرانِهَا) تعني غير ذلك المعنى الظاهر. وهذا التشاكل المعنوي يدعونا إلى قول الحقيقة التي تكمن وراء ذلك بكل صراحةً ووضوح.

لقد بحثت بتتبع وأناة وتفحصٍ دقيق لثريا النصِّ عن معاني ومدلولات دالة لفظة (الوردة) القريبة في مجسَّات نصوص الحِجَّاج الشعرية المتنوعة، فلم أجد أثراً أو صدىً لتلك الوردة الموعودة في عتبة الحِجَّاج الشعرية، بل وجدت -حَقَّاً- آثار هُجرانها العميقة وتشيؤها الحدثي المفجع. صدقاً وجدت اصطفافاً لمرافئ الألم والتحسر والانكسارات ولغة الهزائم والنكوص الإحباط الذاتي التي طفحت بها أنا الذات الشاعرية على أفق الإبداع وفضائه الشعري الواسع، سواء بالرفض والاحتجاج والتمرُّد، ووسائل المقاومة الشرعية الصارمة في الثورة على ظلم الواقع الاستلابي المتهالك. ولعل مطلع مستهلَّ قصيدته (ربيعُ النَّدمِ) يشي بهذه الدلالات المعنوية لمغاني الرفض:

عَلَى مُوعِدٍ مَعَ الوَردَةِ

وَلَكِنَّهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ

تَخذِلُ العِطرَ وَتَخذُلُنِي (ص7)

لقد تحسَّست بإمتاعٍ كبيرٍ وعذوبةٍ صادقة محطَّات الوجع الحِجَّاجي الذاتي الجمعي وألمه النازف المُدْمِي التي نثرها وعي الشاعر حيدر الحِجَّاج المتداعي، ونمَّاها وحصدها إنتاجياً في أرض بستان فلاحته الشعرية التي دوَّنت قطافها اليانعة وأرَّخَتْ لذاكرة الوجع العراقي الحديث موضوعياً وجمالياً وفنيَّاً في خُطى الشعرية العراقية الحديثة.

لِلخَيبَةِ صَبيحَتُهَا

وِللوَجَعِ أُغنيةٌ وَحيدَةٌ تَتَكَرَّرُ فِي اللَّيلِ

هَكَذَا يَجرِي العُمْرُ سَرِيعَاً

دَونَ أَنْ نُوقِفَهُ بِكَلِمَةٍ أَو صِيَاحٍ (ص 86)

لا ضيرَ في أنْ تكون مجموعة حيدر الحِجَّاج الشعرية الرابعة (الوَردةُ بِكاملِ هُجرَانِهَا) مصفوفةً إنتاجيةً تُضَاف إبداعياً وفنيَّاً وجمالياً إلى جَمعَ مَصفوفات قصيدة النثر الحداثوية التي ترفد القارئ والمتلقِّي بفنِّ نتاج جمالياتها الشعرية الإشراقية الماتعة في رفوف مثابات مكتبتنا العراقية المحليَّة والعربية الدولية، فتتحقَّق بذلك الحضور المائز قصديةُ الأهدافُ والغاياتُ والمرامي والتمنياتِ المنشودةِ ذاتياً منْ جمالياتِ الإبداعِ الشِّعري الفنِّي والثقافي.

***

د. جبَّار ماجد البهادلي

في المثقف اليوم