قراءات نقدية

التصوير في شعر عطاف جانم

لا يخفى على المتابعين للشأن الأدبي في الأردن أن شعر عطاف جانم بملامحه ومضامينه وأساليبه وجمالياته قد شدّ انتباه القرّاء والنقاد على حدٍ سواء، على الساحتين الأردنية والعربية، وحظيَ بنصيب وافرٍ من القراءات النقدية ربما لم يحظ به إلا قلّة من شاعرات وشعراء الأردن المعاصرين.

أذكر من هؤلاء النقاد على سبيل المثال الدكتور ابراهيم السعافين، الذي قدم للقراء مولودها الأول لزمن سيجيء (1983)، حيث أشار إلى الملامح البارزة في شعرها، والتي تتمثل في الأنوثة بتجلياتها المختلفة، والحزن العميق الكامن في قصائدها، والصوفية التي تتجلى في شعرها، والروحانية التي "تتفاعل في لغتها".  ثم قدم  لديوانها الثاني بيادر للحلم يا سنابل (1993) فركز على الجانب اللغوي، مؤكداً أن عطاف جانم لا تكرر نفسها، ولافتاً إلى أنها تستعير اللغة المحكيّة وترقى بها من خلال مزجها باللغة الشعرية الخاصة بها.

ورغم وجود مقالات أخرى تناولت قصائد عطاف جانم قبل صدورديوانها الأخير مدار الفراشات (2017)،  فإن من الجدير بالملاحظة أن مدار الفراشات على وجه التحديد نال اهتماماً خاصاً من الكُتّاب، وصدرت حوله دراسات عدة كانت أولاها المقدمة اللافتة للدكتور يوسف بكار، الذي قال إن مدارات عطاف جانم تنطوي على "إشارات وأبعاد سيميائية ذات أصداء جماعية" كما أشار إلى "الزمكانة" في شعرها وما تنطوي عليه من أبعاد إجتماعية وقومية وإنسانية وذاتية" واتجاهات "فلسفية وروحانية وصوفيةً."

الدكتور راشد عيسى في قراءة بعنوان "ظواهر فنية في مدار الفراشات" أشار إلى الظواهر الأسلوبية والقيم الفكرية التي تتمثل في الديوان، وهي الأصالة والمعاصرة والحداثة، مشيداً بعفويتها المدروسة أو ما يسميه "فن إخفاء الصناعة الشعرية."

الدكتور عمر شبانة تحدث عن أدوات التصوير والاستعارات والتشبيهات، وعن القافية التي تتمسّك بها الشاعرة، واستعارة الرموز التاريخية، وتناوُل الأمكنة.

الشاعر مهدي نصير تعرض لأربعة محاور هي "مناخات القصائد والتي تدور جميعها في أفقِ قراءة الواقع الفلسطيني والعربي المأزوم"، والإيقاع والبناء العروضي للقصائد، والتناصات في المجموعة، والقصيدة القصيرة.

أما الشاعر عبد الرحيم جداية فقد وصف عطاف جانم "بالقابضة على الجمر" التي "تمارس الحياة شعراً".

من خارج الأردن أشاد الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري بشعر عطاف جانم قائلاً إن قصائدها "تتمحور ... حول جرحنا العربي الذي ينزف ولا أحد يوقف نزفه". كذلك كانت عطاف من بين 18 شاعرة فلسطينية معاصرة تناولتهن الدكتورة ميّ عمر محمد نايف في دراسة مطولة حول شعر المرأة الفلسطينية في الثلث الأخير من القرن العشرين.

2

قبل الحديث عن التصوير في شعر عطاف جانم، أود أن أتعرض بسرعة لأهمية التصوير في الشعر وموقعه من نفس القارئ. التصوير حسب رؤية العديد من النقاد يشكّل العمود الفقري للقصيدة، ويُستخدم ليثير استجابةً عميقةً لدى القارئ. أما بالنسبة للشاعر فإن التصوير وسيلةٍ يتمكن بوساطتها أن ينقُل تجربةً إنسانيةً متكاملة في بضع كلمات. ومن خلال هذه الكلمات يضع أمام القارئ لقطاتٍ مشابهةً للصور التي يبدعها ويُدخِله في تجربة حسيّةٍ تستجيب لها حواسُّه: البصر والسمع والذوق والشم واللمس. ويرى بعضهم أن العثور على الصور الشعرية القوية من أكبر أسباب الاستمتاع بالشعر. وقد رأى أصحاب المدرسة التصويرية في مطلع القرن العشرين مثل عزرا باوند وهيلدا دوليتل وسواهما أن الصورة الشعرية هي الجانب الأعظم أهمية في الشعر.  لذا حرصوا على أن يقدموا في قصائدهم أقوى الصور واكثرها إبهاراً بلغةٍ واضحةٍ لا لبس فيها.

المهتمون بالشعر أضافوا إلى الصور الحسية لونين آخرين: الصورة الحركية والصورة الوجدانية.  وتتعلق الأولى بحركة الإنسان أو الأشياء من حولنا، في حين ترتبط الأخرى بالمشاعر والعواطف التي تعتمل في النفس الإنسانية.

3

إن المتمعن في شعر عطاف غائم لا يسعه إلا أن يلاحظ أن قصائدها زاخرة بالصور الشعرية، وأن هذه الصور تحمل مضامينَ ودلالات تتصل برؤيتها الفنية والإنسانية – هذه الرؤية التي تتراوح بين الحلم والحقيقة.

التصوير إذًا هو واحد من الملامح الهامة لشعرها. إذ لا تكاد تخلو قصيدة منه. بل إن الصور تأتي في أشكال مركبة تشي بإحساس شفيف بالمفردة والعبارة والمقطع والقصيدة برمتها والعلاقة التبادلية بينها وبين الموضوع. فالموضوع يُوَلّد الصورةَ، والصورةُ تثري الموضوع وتُعمّق إحساسَنا به.

بطبيعة الحال ليس من السهل أن نتناول قصائد عطاف جانم جميعاً. لذا أكتفي باستعراض نماذج محدودة من شعرها.

نقرأ في ديوانها الأول لزمان سيجيء من قصيدة "تشنجات على اوتار مقطوعة":

حتى النجوم تساقطت

باتت كأعقاب السجائر

مطفأة

والوقت سلطان رهيب

أغبر العينين معقود الجبين.

فنحسّ بالصورة البصرية التي تستدعيها النجوم وأعقاب السجائر والعيون المغبرة والجبين المعقود. ولا تفوتنا الصورة الحركية للنجوم المتساقطة. وهكذا نحسّ بالتشنجات التي تتفاعل في نفس الشاعرة، وبذلك السقوط الرهيب للنجوم من السماء إلى الأرض لتتحول إلى ما يشبه أعقاب السجائر.

وفي القصيدة ذاتها نقرأ أيضاً:

والحزن مثل السندباد

يجوب في أقطابها

وينام حيث يشاء..

يأكل ما

يريد،

عيونها.. أفكارها

حتى بقايا الابتسامات التي

سخرت بأرزاء السنين

ترفعا لتئن فوق شفاهها..

قامت تجرجر كالذبيحة

نفسها

فتحت مصاريع الفؤاد

هتفت به

- أرجوك .. ارحل من دمي.

في هذه السطور المكتظة بالحزن نلاحظ كيف تسيطر الصورة الحركية التي يوحي بها اسم سندباد. لكننا أيضاً نشهد تدفق الحركة التي تشير إليها ألفاظ مثل: "يجوب" و "قامت تجرجر" و"مصاريع" و "ارحل". وبطبيعة الحال فإن الحركة تستثير حاسة البصر. أما الفعل "يأكل" فيستنهض حاسة الذوق، في حين يصب الأنين والهتاف في حاسة السمع. أما "الحزن"، الذي يأتي في بداية المقطع ويتداخل مع ما تبقى منه، فيمثل صورة وجدانية لا يخطئها الإحساس. وهكذا تجمع الشاعرة في هذه السطور القليلة ثلاثة من ضروب الصورة الحسية، بالإضافة إلى الحركية والوجدانية.

في ديوانها الثاني بيادر للحلم يا سنابل تسترعي انتباهنا هذه السطور من "اجازة امومة":

ثلاثون يوما

يسلمني شارع لسواه،

ويلقمني مكتب لسواه

وآبٌ يسعّر في الهاجرة

*

ثلاثون يوما

تجيء مزاميرها دامية

فأنتزع الحلمة الحانية

ثمّةٌ صورةٌ سمعية في المزامير، وحركية بصرية لمسية في انتزاع الحلمة، ووجدانية في الحنو. وهي صور تؤثث لمعنى الأمومة وما تنطوي عليه من الوجع الممتزج بالحب. فالمزامير التي توحي أحيانًا بالفرح غارقةٌ بالدم. والحَلَمة التي تفيض لبنًا وحنانًا تُنتَزع انتزاعًا يشي بالمعاناة والألم.

في الديوان عينِهِ تنشد الشاعرة في قصيدة "طولكرم أعدي خيولك": "حفنة من عطور مهربة في يدي / وسياج يحط على القلب / يقلق غنوته الصادحة". في هذا المقطع القصير ثراء يجمع بين صور تستدعي أربعًا من الحواس الخمس: حاسة الشم المتعلقة بالعطر وحاسة اللمس المتمثلة في اليد وحاسة السمع التي توحي بها الغنوة الصادحة، وحاسة البصر المتصلة بالمشهد برِمّته، بالإضافة إلى صورة بصرية حركية تتمثل في السياج الذي يحط على القلب. ولا تفوت القارئَ الصورةُ الوجدانية الضمنية في هذا السياج الذي يطوق القلب، والصورة الصريحة في الشعور بالقلق. فالقصيدة تتخذ من مدينة طولكرم الفلسطينية الرازحة تحت الاحتلال الصهيوني مسرحًا تُعبّر الشاعرة من خلاله عن ألمها لمعاناة الشعب الفلسطيني. ولعلّ السياجَ الذي يحط على القلب يرمز إلى السجن الكبير الذي يقبع فيه الشعب الفلسطيني.

في ديوان ندم الشجرة تحمِل قصيدةُ "تَحمُّل"، جملةً من الصور الشعرية، نكتفي منها بهذا المقطع:

لعيون الصغير الذي لم يزل

غارقا في نعيم القبل

أحتمل

كل هذا الثقل

والهدير الأرق

أن أسف التراب

وأشهد أحلام عمري التي تحترق

هنا تمتزج الصور البصرية لمشهديْ الطفل والاحتراق مع الحركية واللمسية في القبل، والسمعية في الهدير، والذوقية في سفّ التراب. ويمنحنا مشهد الطفل الغارق في القبلات إحساسًا بالبراءة والفرح والحب، كما تتبدّى في مشهد أحلام العمر وهي تحترق صورةٌ وجدانيةٌ مؤلمة. وهكذا، وكما في "إجازة أمومة"، تختلط السعادة بالألم.

في ديوان  ندم الشجرة (2003)، الذي تهديه الشاعرة إلى روح سميرة جانم، قريبتها التي كانت تعمل معلمةً في دولة الإمارات العربية،  تنشج الشاعرة في قصيدة "فكيف أواجهُ موتَكِ وحدي": "غيومٌ تلف ثيابي/ تطوف بجلدي وخلدي". هنا يمكننا أن نميز الصورة الحركية للغيوم واللمسية التي تتعلق بالجلد والوجدانية التي تستثيرها كلمة "خلدي". وهي صور تعبر عن حزن الشاعرة وحالة الإحباط التي اعترتها إثْرَ موت قريبتها في حادث مؤسف.

كذلك يزدحم ديوانها الأخير مدار الفراشات بالصور الشعرية بضروبها المختلفة. ففي القصيدة الرائعة "أيّ غيمٍ في غمامة" يطغى التصوير البصري والحركي للغيم. لكن لا يمكننا أن نغفل عن الصور التي تنتمي إلى حواس الشم والذوق واللمس حين نقرأ:

بعض هذا الغيم بنت للمكان

تغسل الأطباق

تغلي قهوة السمار

أو تحمل فنجانا لنجم يتمشى في الجوار.

ففي هذه السطور تخلق عطاف جانم عالمًا خاصًا بالغيوم، وكأنها عائلة تساكن أهل تلك البلدة اليمنية الساكنة فوق قمة شاهقة، والتي تُدعى غمامة، وتصور إحدى الغيمات وكأنها امرأة تتفاعل مع باقي الغيوم. وهكذا، ومن خلال أنسنة الغيم، تعبر عن إحساس وجداني يربطها بتلك الغيمة. وكأنها (مثل الشاعرة) تعيش بين عالمين: العالم الأرضي لامرأة تغسل الأطباق وتُعِدّ القهوة، وعالم سماوي يتمثل في ذلك الغيم الحرّ الطليق الذي يحلق في الآفاق. وكأني بالشاعرة تعبر عن الحلم الذي ترى فيه ذاتها كشاعرة تريد أن تطير كما الغيم. فهو بمثابة تحقيق لأمنية عطاف جانم من خلال هذه القصيدة المُحلّقة. إنه ذلك الحلم بالحرية والانعتاق والاتحاد بالطبيعة الذي يتشارك فيه الشعراء من أربعة أطراف الأرض.

هذا المزج بين العالمين، الأرضي والسماوي، يتكرر بصورةٍ مختلفة في قصيدة "ترابها يا نور" التي تهديها إلى أحد شعراء فلسطين، حيث تقول الشاعرة في الحديث عن فلسطين:

كم نجمةٍ مازحتُها...منّيتُها

بسلّةٍ فياضةٍ  بالتينِ... والحبور

كم منزلٍ دفأتُهُ

بالطيبِ ..والحدائقِ

الغنَّاءِ والحٌلول

في هذه الكلمات القليلة تجتمع الحواس جميعًا من خلال صورٍ تستدعي البصر (النجمة والمشهد بأسره)، والذوق (التين)، والشمّ (الطيب) واللمس (الشعور بالدفْ) والسمع (الحدائق الغنّاء). وكذلك الصور الحركية  والوجدانية التي يوحي بها المشهد.

وفي القصيدة الأخيرة، وهي قصيدة نثرٍ تحمل عنوان الكتاب، تقول الشاعرة:

في يوم الإجازة

تتحرر نبضات روحي

من إيقاعاتها الرتيبة

فتعتلي باسقات النخيل

تتذوق نكهة الرمان في الرمال البكر

وتتماهى مع أنفاس المحاضر العريقة

فوق التلال المتحركة.

في هذه السطور، أيضًا، كما في سواها، تختلط الصور الحسية السمعية والبصرية والذوقية مع الصور الحركية والوجدانية.

4

التصوير بأشكاله المتنوعة في شعر عطاف جانم يُخرِج قصائدَها من عتمةِ التجريد إلى الفضاء الحسّي الذي نألفه ونأنس إليه ونتفاعل معه، ما يمنحنا الإحساس بتجربتها بأبعادها المختلفة. هذا الإحساس هو الذي تطمح الشاعرة أو الشاعر إلى إيصاله للمتلقي. وتلك هي الأرض التي تقف عليها عطاف جانم.

لكن ثمّة َجانبٌ آخر للتصوير في شعرها يُذكرنا بتعريف عزرا باوند للصورة الشعرية بأنها "تقدم  تركيباً فكرياً وعاطفياً في لحظة زمنية" وأن "تقديم هذا التركيب بصورةٍ فورية هو الذي يمنحنا الشعور بالتحرر الفجائي، ذلك الإحساس بالحرية من قيود الزمان والمكان". فنحن نجد في الصور الشعرية لعطاف جانم ما يحررنا من أطر الزمان والمكان، تمامًا كما تتحرر الغيمات في بلدة غمامة اليمنية، وكما تتحرر نبضات الروح في قصيدة "مدار الفراشات". ولعل هذه الصور تحمل كل تلك المضامين والأفكار والقيم والمعاني التي أشار إليها النقاد، لترتقي بها إلى آفاق أرحب وأسمى. وتلك هي السماء التي تتطلع إليها الشاعرة.

***

بقلم نزار سرطاوي

 

في المثقف اليوم