قراءات نقدية

التّعالق الأجناسيّ بين الغنائيّة والسّرديّة في تجربة الشّاعر يحيى السّماوي الشّعريّة

يحيى السّماوي شاعر غادر وطنه هربًا إلا أنّه بقي مشدودًا إلى مهده ونهريه من خلال حبل المعاناة الذي ألهب شاعريته كونه يتمتع بموهبة شعريّة وفنِّيَّة فذّة غنية بالإِبْداعِ الجميل، ولأنّ الشّاعر هو مرآة مجتمعه دائمًا لذا تراه يعبّر من خلال قصائده عن الآخرين، فالشّعر هو التّعبير الفنّيّ لأحاسيسه الدّاخليّة، فإحساسه بالجمال، ووعيه الجماليّ للأرض والحضارة هو ما منح شعريّته خصوصيتها الفنّيّة ومداركها الشّعوريّة العميقة.

فعلى الرّغم من الايغال السّرديّ المتمثل بمُدخلات السّرد المتتالية في نصوصه الشّعريّة؛ إلا أنّه في الوقت نفسه انشغلت الذّات الشّاعرة لديه بجماليّات الإيقاع في خلق الصّور الفنّيّة المركزة ليتّخذ من التّشفيرات صورًا يكون للإنسان والحبّ والجمال حضور وجداني، موظّفًا ما تكتنزه ذاكرته المتقدة والمتوهّجة من صورٍ ما بين طياتها التي ظلّت ملتصقة بوجدانِه ولم تفارقه. فثمة فعل غنائيّ/ شعريّ يخفّف من وطأة التّوالي السّرديّ في قصائده. فذاته الشّاعرة، هي محور الإرتكاز في أغلب نصوصه الشّعريّة وتكون في مواجهة جدلية مع ذات الموضوع (الآخر) كونها الوسيلة التّعبيريّة لصياغة وجدانه الدّاخليّ الذي ساير معاناة الأنا وكابد ظلم الآخر بقلمه، ونتاجه الشّعريّ المفعم بالتّرنيمات الأليمة والمتفائلة في الآن نفسه، من خلال إيقاعٍ تتولّد منه نظرة ورؤية ذاتيّة ووعي ذاتي يعبّر عن ذات إنسانيّة تعيش صراعًا تنفجر داخل الذّات أوّلا ثم تخرج من أعماق الشّاعر قصيدة. لذا لا يتوقف الشّاعر عند سرد الواقع كما هو على نحو قصصيّ أو فوتوغرافي بل يقوم الشّاعر بسرد الواقع المعاد تشكيله وتجليّاته بأسلوبيّة فنيّة كي تحقّق للنّصّ مستواه الجماليّ والغنائيّ.

ما تحمله نصوصه الشّعريّة من شحنات توتريّة يكون أساسها محور الذّات الشّاعرة، المتأثرة، والعلاقة القائمة بينها وبين الصّورة التي تصطادها مخيلته، من ذوات العلاقة الوطيدة بحياته اليوميّة وذكرياته، وخصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالحضور المكانيّ لعراقِه تتولد الرؤى، وتنبثق المواقف، وترسخ لمعانٍ متشظية .. وأجوبة تتجوهر وتتشاكل مع وعيه ومخيّلته النّشطة لتنتج حوارًا بين الأنا والآخر /الذّاتي والموضوعيّ كما يقول:

وفي دمي حديقةٌ مذبوحةُ الأزهارْ

 

فمن يُقيلُ عثرة َ الهارب ِ من ذاكرة ِ النخل ِ

إلى ذاكرة الإعصارْ؟

الشّاعر ينسج قصائده من الشّوق والحنين مثلما كان أجداده ينسجون سلالهم من سعف النّخيل، مما دفع بنصوصه الشّعريّة إلى أن تتجدّد فيها الحياة كي يتنفس القارئ من خلالها الوجود.

حين تقرأ شعره تجد نصوصه الشّعريّة تتحرّك مثلما تتحرّك الرّمال في الصّحراء لتبدو لك ماءً فيكون بذلك قد وفّر للقارئ التّأمل والتّبصّر في مستقبل هذا الشّعب الذي تمتد جذوره الى حيث كلكامش وأنكيدو.

فعوالمه ومنطلقاته الفكريّة تسير وفق معطيات نصوصه الجميلة المحمّلة برؤاه وتقنيّات السّرد فنيًّا وجماليًّا لتخرج معانيه الى صور شعريّة مشبعة بانعكاسات ورؤى مؤثرة من أجل خلق الدّهشة كقوله:

فتشتُ في كل نفايات حروب القهر عن مدينتي

فتشتُ عن أرومتي

وعن فرات ٍ ساحرٍ عذب ِ...

*

وفجأة

رأيتُ نخلة ً على قارعةِ الدربِ ...

*

هززتها

فانهمر الدّمع على هُدبي

*

وعندما هززت جذع الأرض يا ربي

تساقط العراق في قلبي

في قراءتنا لقصائد الشّاعر يحيى السّماوي تلمسنا ما رسمته آلام التغرب والاغتراب على صفحات مجاميعه الشّعريّة وهذا ما تعكسه عنونة مجاميعه (هذه خيمتي فأين الوطن، قصائد في زمن السبي والبكاء، قلبي على وطني، من أغاني المشرَّد، جرح باتساع الوطن، عيناك لي وطن ومنفى، البكاء على كتف الوطن ...) وغيرها من المجاميع...

إنّ اختياره لهذه العناوين يدخلك في وظائف تعبيريّة وانفعاليّة وتأثيريّة كونها مفتاحًا للبحث عن تحوّلاتٍ في تجربته الشّعريّة.

هذه العناوين تجدها تنسجم مع اشتغالاته التي تحيلك إلى حيث القرية بجمالها وصفائها وبساطتها وعلاقاتها المفعمة بالحب... إنّها الحنين إلى الماضي والتشبث بالجذور... كل هذا يوحي بالمساحة التي احتلتها القرية بمعالمها وجمالها وتراثها في تجربة الشّاعر النّفسيّة .

فتجربةِ الشّاعر يحيى السّماوي غنية بأبعادِها الإنسانيّة، قدرته على إيقاظ الإحساس بالجمال لدى المتلقي، كونه أي الوطن هو الذي يعكس بمرآته قبلات أمّه وترانيمها أمام المهد وشقوق أرجل والده وعرق جبينه الذي روّى بها الأرض. وكما يقول في قصيدته (ترنيمة حب):

حبّك يا حبيبتي علمني أشياءْ

*

أضاعني أشياءْ

*

علمني كيف أكون عاشقًا

أنسج منديل الهوى من مقل العشبِ

ومن زنابق الضّياءْ

فمقدار ما خيم عليه وطنه من الحزن والخراب فهو بهذا يضّيف على قصائده بعدًا تراجيديًّا بإيقاع مشحون بأحلامه على ما يتحمّلها بكلمات شكّلت هذه العوالم والأسرار التي يثيرها الوجود الإنسانيّ من أجل عالم أفضل خالٍ من تراكمات غبار الماضي .كما يقول في قصيدته:

هذه الأرض التي نعشق

لا تنبت ورد الياسمينْ

 

للغزاة الطامعينْ

 

والفرات الفحلُ

لا ينجبُ زيتونًا وتينْ

 

في ظلال المارقينْ

 

فأخرجوا من وطني المذبوح شعبًا

وبساتين وأنهارًا وطينْ

***

نزار الديراني – ملبورن / أستراليا

 

في المثقف اليوم