قراءات نقدية

النثر وسطوتُهُ المعاصرة بلاغةً وحاجةً

قراءة في مقطع نثري قصير للأديبة التونسية هدى القاتي

تلك الانفاس الصاعدة النازلة من صدري

كلاب سائبة

ليس أمام الشّوق الا سياج الصمت

و باب لا يُفْتح لرسائل ينهشها الوقت

كم مرة احتاج الحبّ الى حجر !

كي يحمي الكلمات اذا خافت وارتبكت

كم قَفَزت لغتي نحو الاسلاك

بالفعل نجوت لكن

ندوب الجرأة على يدك ايتها اللّغة

نصوص نازفة

كم حذرتك من مأزق ذاك الشارع

حين يضيق الليل بالاحلام

كم سيحاصرني عنادك يا هذا القلب !

***

الشاعرة: أ.هدى القاتي - تونس

..................

 لقد تم القول الفصل تقريبا بين النثر والشعر، وحصيلة الأمر أنه لا يستوي تجنيس النثر كشعر، بل إن هذا يحفظ للنثر امتيازه وكرامته.

و النثر فن قديم أصيل قدم الوجود الإنساني وهو ابن الواقع قديما وحديثا، ولعله اليوم يكون الأكثر ملامسة لما يلتاع في شغاف القلوب، وما يجول في خاطر الإنسان، خاصة حين تجود به قريحة أديبة مبدعة تمتلك ناصية الحرف، كما هو لدى أديبتنا المتميزة، في هذه المقطوعة السامقة:

(تلك الانفاس الصاعدة النازلة من صدري

كلاب سائبة)

كيف تكون الأنفاس كلابا سائبة؟

يا لهذا الصخب العاوي!

يا لهذا النباح الذي تعانيه أنفاس ملتهبة!

حين تلهث تلك الأنفاس الباحثة عن الحب، المشتعلة بأوار الشوق، العطشى لقطرة لقاء، نعم تغدو كالكلاب الشاردة، التي يرهقها لهاث البحث عن طعام أو شراب يبقيها على قيد الحياة، كذلك هي أنفاس الشوق، تبحث عما يبقيها على قيد الحب.

هذا المقطع يسلمنا بالخطف خلفا لنبع لا يجف إنه نبع الشوق:

(ليس أمام الشّوق إلا سياج الصمت

و باب لا يُفْتح لرسائل ينهشها الوقت)

نعم ستلهث الأنفاس، ستعاني خفقان النبض، ورجفة الروح، ورعشة الذات، سيما وأن الشوق لا شيء يطفيه، لا شيء يشبع نهمه، فالأبواب دونه مغلقة، يحيط به سياج عال.

ترى ما هي ماهية هذا السياج؟

هل هو سياج الأعراف والتقاليد؟!

هل هو سياج الكرامة؟!

أم تراه سياج الخوف؟!

بلى إنه سياج الروح الشفافة التي تعبأ بالآخرين أكثر مما تعبأ بذاتها...

ليس أصعب من أن يظل الشوق صامتا لا يصل أذن الحبيب.

[يقول جلال الدين الرومي: الى أن يحين الوصال فإن الشوق لا ينته، فما حجم تلك المعاناة مع الشوق؟!]

و يبدو أنه الشوق الذي يرام فيه الوصال فلا يُنال، فأمامه باب موصد لا يفتح الرسائل التي يمزقها وحش الوقت إربا، وهذا يضاهي ما قاله[ المتنبي عن ابتلاع الشوق لحلم اللقيا والوصال:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

و أطلب منك الوصل والنجم أقرب]

و ليس كالشوق إحساس صادق، يؤلم النفوس ولا علاج، إنه يشف الجسوم ويبري الأرواح، وما أبلغ [أمل دنقل حين يصف حالنا مع الشوق فيقول: وفي أثير الشوق كدت أن أصير ذبابة.]

إنها صفات الشوق الصادق، وهل أصدق منه شعور؟

[يقول جبران خليل جبران: الشوق والغيرة أصدق صفات الحب، وأجمل طقوسه.]

 (كم مرة احتاج الحبّ الى حجر !

كي يحمي الكلمات اذا خافت وارتبكت)

يا للهول لهذا الابتكار البليغ!

نعم نحن نحتاج أسلحة لحماية حبنا...

نحتاج أسلحة نحمي بها ما تصنعه قلوبنا على نيران الصدق والأمل...

 نعم سلاح ساذج ولو كان حجرا، سيحمي كلمات وقصائد الحب...

حجر سيحمل الويل والقبور لكل من يحاول الإساءة لتلك الكلمات والقصائد، أو الاستخفاف بهما.

و لماذا تحتاج الكلمات المرتبكة حجرا؟

إنها تحتاجه لأن الحجر رمز للأمان، ولعله حجر من الأحجار الكريمة التي هي في التراث رمز لقضاء الحوائج.

و هكذا يلفتنا هذا الرمز( الحجر) في استخدام نادر، في سياق ساحر القراءة.

الحجر إنه الفعل المقاوم...

و للحجر دلالات لا يمكن استقراءها بسهولة ويسر، انظر إلى[ محمود درويش إذ يقول (ليتني حجر)]

..و لعل أنقى ما يمكن أن نرى قد ينبع من حجر، ولعل في الحجر ما هو ألين وأصْيَرُ من قلب البشر، ألا ننظر[ لقوله تعالى (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله)].

(كم قَفَزت لغتي نحو الاسلاك

بالفعل نجوت لكن

ندوب الجرأة على يدك ايتها اللّغة

نصوص نازفة)

(كم قفزت لغتي نحو الأسلاك).. إذا هي قصيدة بالفعل تحتاج الحجر، فالحجر قد يحميها، الحجر قد يساعدها على تجاوز الأسلاك والقفز فوقها للوصول إلى بر الأمان...

هي كلمات تحتاج حجرا ما دامت تستخدم لغة متمردة، تسعى لاجتياز ما حيك حولنا من أسلاك شائكة، تدمي قلوبنا وأرواحنا وشفافيتنا واستقلالنا.

القفز على الأسلاك هذا الفعل المتمرد، هذا الفعل الذي يحتاج العزيمة والإصرار، وربما يكون ثمنه حياة ثمينة...

القفز على الأسلاك أليس هو فضول يقودنا لمعرفة ماهية ذلك السر الذي تحرمنا متعته تلكم الأسلاك؟

[هذا الفضول الذي هو أنقى صور التمرد كما يقول فلاديمير نابوكوف].

و ما أروع القفز فوق الأسلاك في رمزيته على التمرد، حين نعلم أن [ما هو أسوأ من التمرد هو ما أدى إلى هذا التمرد كما يرى فريدريك دوغلاس].

و لا شك أن للتمرد لذة لا تضاهيها لذة، لذة ربما تفوق لذة الإدمان على المخدرات والمسكرات، [يقول د.علي شريعتي: لا شك أن من أدرك لذة التمرد والرفض والنباهة لن يبدلها بأي شيء].

(بالفعل نجوت لكن

ندوب الجرأة على يدك ايتها اللّغة

نصوص نازفة)

نعم..نعم...لقد نجح التمرد...نجحت الجرأة، لكن لا بد لكل نجاح من ثمن، لا بد لكل ثورة من ضحايا، ولا بد لكل صعود من جروح، لكنها ما أبهاها من جروح تصوغ قصائد نازفة، نازفة بالحب..بالأمل..بالإشراق، وإن كانت متمخضة عن ألم كبير...ما أشبه هذا النثر الصارخ بهذه البلاغة[ بما قاله نزار قباني:

أحاول بالشعر أن أمسك المستحيل

و أزرع نخلا

و لكنهم في بلادي يقصون شعر النخيل

أحاول أن أجعل الخيل أعلى صهيلا

و لكن أهل المدينة يحتقرون الصهيل]

( كم حذرتك من مأزق ذاك الشارع

 حين يضيق الليل بالاحلام)

في هذا المقطع هل يعاود الندم الشاعرة؟

إذ هي تعاتب كلماتها، تعاتب لغتها، تلك اللغة التي جرتها نحو شارع مليء بعصابات الجهل، بعصابات التطرف...

شارع مليء بالألغام التي قد تنفجر في أية لحظة، فالليل في رمزيته الظلامية يضيق بأحلام الطامحين لفجر النور، بضيق بأحلام الباحثين عن شفافية هذا الوجود وسره الأعظم، الباحثين عن كينونة الإنسان، ذاك الجرم الصغير الذي لأجله خلق الله الكون، فجاء الحمقى ليقيدوا هذا الوجود وهذا السلام بكلاليب من العتم والظلم.

و لعل هذا الهاجس يطرحه نزار قباني في الكثير من قصائده، إذ يقول في أحد المقاطع:

[أحاول منذ الطفولة

فتح فضاء من الياسمين

و أسست أول فندق حب...بتاريخ

كل العرب

ليستقبل العاشقين

و ألغيت كل الحروب القديمة

بين الرجال...و بين النساء

و بين الحمام...و من يذبحون

الحمام

و بين الرخام...و من يجرحون بياض

الرخام

و لكنهم أغلقوا فندقي

و قالوا بأن الهوى لا يليق بماضي

العرب

و طهر العرب

و إرث العرب

فيا للعجب!]

و لكن ألا تدري شاعرتنا أن المصيبة ليست في ظلم الظالمين ولكن في صمت المظلومين؟

بلى هي تدري وواثقة أنها تدري، وما كتابتها لهذا المقطع إلا دراية واعية وتمرد مثقفة، وهنا يحضرنا [ قول إحسان عبد القدوس (الثقافة تمثل نوع من الإرادة...إرادة التمرد)].

و برغم الطرق المحفوفة بالمخاطر فقد غزلت شاعرتنا هذا المقطع النثري الذي على عتبة تكثيفه ودلالاته قد يسيل الكثير من الحبر.

و لعل فعل الكتابة هو من أجمل أنواع التمرد التي قد لا تحمل عواقب مأساوية،[ إذ يقول بنيامين سبوك:

يمكن التعبير عن أقوى تمرد في سلوك هادئ وغير مأساوي].

و تختم الشاعرة هدى القاتي نصها المميز بهذا الاستغراق في التمرد:

(كم سيحاصرني عنادك يا هذا القلب !)

فرغم معرفتها بما قد يؤول إليه هذا التمرد من نتائج سلبية على حياتها، وعلى واقعها، وربما على نظرة المجتمع لها، لكنها بإصرار القادة الفاتحين، تقرر أنها مستمرة في فتح حصون تلك القلوب المقفلة والعقول المطفأة.

إنها مصرّة على رسالتها، فقلبها عنيد لا يعرف الاستسلام، لأنه على ما يبدو قلب عاش على مُثل النور والحق والعدل والرغبة في تطوير الثقافة المتهالكة لهذا المجتمع الذي بات يتحجب في قواقع كثيرة تحتاج إلى الكسر والتنوير.

دمت بكل الألق والتفرد أ.هدى

***

د عبد المجيد المحمود- سوريا

في المثقف اليوم