قراءات نقدية

قراءة في رواية (الاحساس بالنهاية) للكاتب الانجليزي جوليان بارنز

تخوم الذاكراتية المهجورة في تفاصيل السرد المنطوي

مهاد نظري: منذ أن أصبح الأدب في أنواعه السردية، مثل مجالات المعارف الأخرى، أصبحت الرواية أكثر تأثيرا بالتحولات الاستيعابية المتاحة في مجال علوم النفس والسلوك ونظريات معمقة في رؤى علوم الاجتماع. لقد أصبحت الأنواع السردية (رواية ـ قصة قصيرة ـ أقصوصة) أكثر تجريبا في ممارسة الأبعاد الجوهرية في وظائف معقدة من المنظورات النفسانية والذهنية للفرد في مقاربة المواضع المضمنة في علاقات سياقية هي من التفاعل بين عناصر ونواة (الكاتب ـ سمات النص ـ رؤية المنظورـ التفاعل في بنيات الأغراض) وهكذا توالينا جملة ممارسات مشتركة ومقترحة أصلها المعارف الأخرى من مجالات الفلسفة وعلم النفس والاجتماع. فكل هذه السياقات من العلوم أساسا معرفيا في تشكلات ووظائف المؤثرات التي مارسها كتاب الرواية في علامات ووحدات ومبئرات بنيات نصوصهم الدلالية إلى جانب كون الرواية هي لسان حال الزمن المعاصر بكافة أفعاله ومواصفاته التجريبية في تفعيل الرؤى الأكثر إلحاحا في متون وخطاب ودليل ما بعد الحداثة الروائية. لذا تواجهنا اليوم نموذجا رواية الكاتب الانكليزي المعروف (جوليان بارنز ـ ترجمة طلال فيصل) وهو يسعى في مواطن دلالات روايته (الاحساس بالنهاية) نحو العلاقة التجميعية بين (ماضي ـ حاضر) ولكن الروائي في إجرائية وظائف نصه، راح ينزاح في إعادة توظيف الذاكرة، من ناحية ليست في الحسبان القرائي تماما. فهو في تماثلات الأحداث أخذ يراجع ماضي شخصيته الروائية، عبر حسابات جارية من التحقيق الذاتي والإحصاء الزمني الذي راح من خلالهما لا يقدم سوى عملية متغيرة في صنع مستجدات مستحدثة من أحداث ومواقف لم يقم لها الاعتبار في زمنه الماضوي، لذا راح يتعامل وإياها وكأنها ممارسات لم تمر عليه أبدا، في حياته الماضية، بل أنه صار يسترجعها وهو يفهمها بمؤاخذات مأزومة على نفسه وزمنه وحدود أغراض نوعية أفعاله المسترجعة وغير المسترجعة في غضون مقاربة أهداف تواصلية ولا تواصلية في الآن نفسه.

ـ مسترجعات مجهولة المسودة حاضرة في رؤية الفاعل.

1ـ وظيفة التشخيص بحيازة التمهيد التأويلي:

يمكننا قبل الشروع في مباحث الممارسة البحثية في مفاصل الأحداث الروائية القول بإيجاز: ما حدود وضوابط إعادة الأشياء وحالاتها كمقترب أولي في أنشاء مادة الحكي؟هل هي من الممكنات المحققة ذاتها من الفعل الحكائي نفسه وعبر زمنه؟أم أن المنظور الذي أراده المؤلف يسمح بتحويل بنيات الكفاءة الذاكراتية إلى فرضيات خاصة من ممارسة أناه التأليفية عبر حاضرها المخصص لهذه الذاكرة المفعلة؟. عبر سياق روابط المجرى الحكائي في مستهل الرواية، نلاحظ دلالات تحجب التشخيص الأولي من فهم الدلالة المتعلقة بعدة وحدات تبلغ مستوى الوصف المجرد لتكشف عن مقاصد رمزية وإيحائية في مسرود الفاعل الشخوصي المشارك: (أتذكر، على نحو مبعثر: ـ باطن رسغ لامع . . الدخان المتصاعد من حوض مبلل عند إلقاء مقلاة ساخنة فيه على سبيل المزاح: ـ لطخات السائل المنوي تدور في فتحة الحوض، قبل أن تتدفق في المصرف بطول البيت كله: ـ نهر يتدفق في مجراه بلا معنى، فيما تضيء أمواجه أضواء المصابيح التي تلاحقه. /ص7 الرواية) طبعا ها هنا نتعرف على صوت (المؤلف ـ السارد) وهو يكشف لنا عبر المنظور السيوسيولوجي عن هوية دلالة الأشياء والحالات الداخلية والخارجية من مؤثرات الأيقونة الزمنية الكامنة في محاور الذاكرة الروائية. وما لا يمكننا حصره أبدا، هو علاقة الأوصاف والحالات في علاقة الموصوف الزمني نفسه، إلا من ناحية ترتيب المواقف المحكمة في حكاية المروي، سواء بالنسبة لدلالة الأشياء أو إلى الذات المحاورة لذاتها في سياق المسرود. أن طبيعة التوارد المكثف يترجم لنا جملة من الأمثلة الهاربة عبر زمن التحول إلى نوعية خاصة من الانطباعات المواكبة تأثيرا نحو عرض حالات من حيوات عاشها السارد المشارك في نسيج ذاكرته، ولكننا لا يمكننا القول عنها بأنها محض ذاكرة للتصور أو التخمين ما لا نطلع على محتوى العلاقة ذاتها من الخارج والداخل الشخوصي وعبر أحوال ذلك المتكلم الشخوصي نفسه، حيث لا يلتق الوصف والحوار والمسرود إلا في إنطلاقة متماوجة من مسافة المخبوء التأطيري في حوادث الذات الواصفة. من الواضح أن السارد عبر وحدات مستهله الروائي، يسعى إلى أن يمنح القارىء لحظات مستشعرة من مخيلة الذاكرة، التي تدل على مجموعة تركيزات تتلاشى وتعود في الآن نفسه، ما دام الحيز لدى المتكلم الشخوصي هو نقطة المؤلف ذاتها من المعطى الروائي: (مياه الاستحمام التي بردت خلف باب مغلق. . هذه الأخيرة ليست مما رأيته فعليا، لكن ما تنتهي إليه الذاكرة ليس بالضرورة هو ما قد شهدته بالفعل. /ص7 الرواية) يتبين لنا أن الواصف الشخوصي، كما قلنا سلفا يمارس حالة من المسرود الذاكراتي، فهنا هو مفصول عن التذكر، لكونه حاضرا في سرد رؤيته عبر معالجات الذات التي تترجم مجموعة حوادث وأفعال، ولكننا لا يمكن القول أيضا بأنه يسرد سكونية الأشياء بعيدا عن المؤثر الذاكراتي، وسنحاول في بداية حديثنا عن الانطلاقة الروائية في النص، التمسك بذلك التحول في عناصر المسرود، حيث يصبح المروي معادلا لا شعورا فعليا في المسرود، فيما يتوازى الحكي عبر المسرود كشعورا زمنيا بما قد فات ومضى في الانتقاء والاختيار لبداية تفاصيل السرد

2ـ الزمن الأداة: الاستطراد السردي وشرعية علامة القصد الوقائعي:

أن طبيعة النظام السردي في رواية (الاحساس بالنهاية) باعتباره علامة ذاكراتية تتقصد في حكيها شخصية تحيا حاضرها بصحبة مجموعة أصدقاء أو لربما تحديدا قاب قوسين: (كنا ثلاثة، وصار هو رابعنا. لم نتوقع أن ينضم أحدا لمجموعتنا المغلقة على نفسها. /ص8 الرواية) أن طبيعة العلاقة القائمة بين هؤلاء الأصدقاء الثلاثة وذلك المضاف قسرا (صار هو رابعنا؟) هي بذاتها ذاكرة الحكاية وصيغة الخطاب، وهذا بدوره ما يجعل من المبنى الروائي، مفتوحا إزاء المستذكر بنظام الشخصية المشاركة التي من خلالها يتدفق إلينا أسلوب السرد والمسرود، ليتحول إلى حالة من وعي الذاكرة الحافلة بالاسترجاع والتقطيع لذلك المستوى الملازم لتواصل التوثيق والتصنيف من خلال أخبار الشخصية المشاركة: (لست أعني بكلامي النظريات المتعلقة بالزمن، كيف ينعطف وكيف يكرر نفسه، أو أنه يوجد في مكان آخر بشكل مواز، لا إنما أعني الزمن العادي، المتكرر يوميا، والذي تؤكد لنا ساعات اليد والحائط مروره بانتظام: تك تك ؟ هل يوجد شيء قابل للتصديق أكثر من الحقيقة المستهلكة؟وبعد كل شيء لا نحتاج إلا للقليل من الألم أو البهجة لندرك مدى طواعية الزمن /ص7. ص8 الرواية) هل هذا التشييد من الشخصية المشاركة كاف لتصنيف موضوعة الرواية كمسرودا ذاكراتيا ـ زمنيا، دون الأخذ بوسائط ومؤشرات ذلك المستهلك من حياة الشخصية في دائرة زمنها المفترض؟هل أراد جوليان بارنز لحوادث وأفعال زمن روايته أن تكون ذلك الترياق الجانبي بصورة إتفاقية خاصة من العلاقة بين السارد الشخصية وعلامات مادة زمنه المستذكر في ظروف أكثر تداعيا أم إنها عملية إقصاء للمستقبل السردي للرواية بدقة مميزة وبالطريقة التي تجعل من أفعال الماضي كصور علاقة ذهنية في مقادير فاعل شخوصي حاضر في زمنه الاستشرافي على مسار الأحداث المستذكرة؟أن عملية النظر بشكل معمق نحو مسرود الشخصية المشاركة في الرواية، تحملنا على الاعتقاد بأن الخطاب السردي هو كل تلك الأحداث والأصحاب المسترجعون عبر ذلك الزمن الاستعاري في إمكانية الناظم الشخوصي المشارك، وحتما أن الأمر كذلك على ما يبدو، ولكن ليس هكذا في إمكانية بلوغه السردي، وبرغم من أنني كنت أظن الأمر كذلك، ولكنه أضحى ليس كذلك قطعا. من الوهلة الأولى أوضح لنا السارد ومن خلفه المؤلف الضمني، حول حكايته داخل ثلة أصحابه الذي هو بدوره يشكل ثالثهم الإحصائي، ولكن بورود جملة (وصار هو رابعنا) تتضح لنا بأن هناك عقدة تضخيم وإثارة في الدليل والفرضية الزمانية والمكانية والتبئيرية، فهذا الشخص الرابع هو أدريان، كان صبي نحيل الجسد وعلى درجة كبيرة من الذكاء والنبوغ: (في أو يوم أو يومين، لم يلفت انتباهنا كثيرا، كان أسمه أدريان فن. . كان المدرسون أكثر اهتماما به منا، كان عليهم التحقق من ذكائه وتقدير مدى ما تعلمه من قبل . /ص9 الرواية) .

3ـ الواصلة الشخصانية بين محتوى الفضاء المستذكر وإقامة المتغير:

غالبا لا تكون الواصلات الشخوصية في مسار السرد، مقرونة باستعمالات الوقائع ذاتها، بقدر ما تكون وصفيات في الفضاء المستذكر تحديدا. فقد كانت بالنتيجة علاقة الأصدقاء الثلاث مستقلة في المواقف والتحادث والاتفاق في اسوء النتائج. وهذا هو السبب المباشر الذي جعل من ذلك الصبي أدريان يشكل بينهم وجودا ناشزا: (أتذكر تفصيلة أخرى: ثلاثتنا، وعلى سبيل التأكيد عمق صداقتنا، كنا نرتدي الساعات ووجهها ناحية الرسغ. . كان أمرا متكلفا بالطبع، لكنه ربما كان يعني لنا ـ وقتها الكثير. كان يجعل الزمن يبدو مثل شيء شخصي، أو حتى سري. توقعنا أن يلاحظ أدريان الإشارة، وأن يرتدي الساعة مثالنا، لكنه لم يفعل. /ص10 الرواية) إذا حاولنا أن نفرق بين (الزمن الفعال) و (الزمن الاحتمالي) لكان لنا سلوك قلب الزمن أو نفيه من قبل الشخصية توني وأصحابه، ذا دلالة عبثية في عالم سلوكهم الالتباسي، في حين نجد في المقابل من الشخصية أدريان ذلك التمثيل نحو جدية الزمن وفعالته، وبهذا المعنى يمكننا القول بأن حالات المستذكر من قبل توني الرجل العجوز في نقطة زمنه الحاضر، هي من الأفعال المتأملة في مواطن ذاكرته، ومدى شعوره بالذنب إزاء ما كان يقوم به وصحبته من مواقف وسلوكيات سلبية وطائشة. يحاول الكاتب جوليان هنا إبراز الفعل الزمني عبر الذاكرة كونه موضوعا في أشد اللحظات حضورا من الحاضر نفسه، وهو شيء مخالف في علاقة التحقق عبر واقعه الآنوي الراهن، لكن المؤلف جوليان، كان لا يعني من هذا خلق محض رواية في الذاكرة تحديدا، لا أبدا، فهو أراد لروايته وشخوصها خلق تلك التلقائية بالتحديد حول سلبيات الماضي، وهذا المؤشر بذاته ما سوف تترتب عليه إظهارات كانت لم يسلط عليها الضوء للشخصية توني ذاته عجوزا الآن، حينئذ كان يومها صبيا ينأى بذاته عن التأمل في حقيقة أفعاله السلبية إزاء الأشياء والناس: (ترك أدريان فن نفسه يذوب وسط مجموعتنا، دون أن يصرح بأنه كان يسعى نحو ذلك، وربما لم يكن يسعى إليه، ولا حتى غير من آرائه لتوافق آراءنا. في صلوات الصباح، كان يمكن سماع صوته بوضوح مشاركا المجموعة، بينما أنا وألكس نحرك شفتينا بالكاد مع الكلمات، فيما كان كولن يفضل الحيلة الساخرة بالصياح الحماسي المفتعل. /ص12 الرواية) وعلى هذا النحو نفهم، أن الشخصية أدريان كان الأكثر رصانة وتفتح في مجال كونه تلميذا في المدرسة، فيما نجد العكس لدى توني وألكس وكولن. أدريان كان يحتفظ بدور الواعظ والعقل المدبر في المجموعة، فيما كانوا الآخرين يمارسوا دورا وشكوكا أكثر ضدية ومخالفة، كمثال التعليق حول مدرس التأريخ بفظاظة أو حول مدرس الموسيقى أو مادة الرياضيات. في الوقت ذاته لم يكتف هؤلاء الأصحاب الثلاثة بذم وشتم هيئة التدريس في إدارة المدرسة، بل كانت لديهم قناعات غريبة حول وضع الأباء في أسرهم: (حقا إنهم ملاعين سخفاء، بأستثناء أدريان الذي كان يستمع لاستنكاراتنا، لكن نادرا ما كان يشارك فيها، ورغم ذلك، كانت أسبابه تبدو وكأنها أقوى منا جميعا. /ص13 . ص14 الرواية) يتبين من سياق الرواية، بأن أدريان كانت أمه قد غادرتهم قبل سنين، تاركة والده في تدبير أمرهم، وهذا الأمر ما يجعل من عائلة أدريان دارا محطمة، وعلى ما يبدو في الرواية أن الشخصية أدريان هو الولد الوحيد من بين أصدقائه الثلاثة من حل بينهم حلولا أسريا ضالا في الاستدلال والمعنى.

ـ المتخيل المنطوي وتعالقات جرعة الموت انتحارا.

تشيع في دلالات رواية (الاحساس بالنهاية) مفردة وحادثة الانتحار ببساطة كبرى، وبصيغة أو بأخرى نقف على أسباب ذلك النمط من جرعات الموت، الذي أضحى لنا كحالة تطهيرية من دنس وأعباء ارتكاب الأخطاء كما يبدو في سياق الرواية الظاهر في المستوى الدلالي الخاص والعام. كحال مصير الذي لاقاه التلميذ روبسون بعد ممارسته الجنس مع صديقته، ثم حدوث الحمل منه بعد عدة أيام، وهو الأمر اللامتوقع الذي قام به أدريان بذاته مصيرا مأساويا، دون أي حالة من تخفيف الذنب من جهته سوى تنفيذ رغبة عدمية كانت تساوره منذ قبل. أما حكاية حبه للفتاة فيرونيكا التي كانت بدورها عشيقة سابقة للشخصية توني: (قضيت الأيام التالية أحاول أن أفكر في موت أدريان من كافة جوانبه، بينما أتوقع رسالة وداع موجهة لي، كنت محبطا من أجل كولن وألكس وكيف لي أن أفكر في فيرونيكا؟كان أدريان يحبها، إلا إنه قتل نفسه:كيف يمكن تفسير ذلك؟. /ص62 الرواية) قد يكون هناك في أحداث الرواية وحبكتها ما يدعوا قارئها إلى الشك بأن الروائي غدا يوظف بعض من التضليل عبر علاقات المتخيل في سرد أفعال ومواقف النص، لذا تبدو تأثيرات الأحوال في مبادرات وسلوكيات الشخصيات، وكأنها ناتجة عن ذاكرة نسجت بمرجعيات وأهواء ذاتية لم يتم كشفها الروائي بطريقة أو بأخرى من بيان وتبيين الوعي الإشاري الذي من شأنه خلق الحجة والاستدلال الدلالي الوقائعي المتكامل. لاحظنا بأن القسم الثاني من الرواية بات يشعرنا بأن الزمن السردي غدا ملازما إلى مرحلة الشخصية الساردة في وقائع النص الراهنة أو المضارعة.

1ـ تماهي وحدات المسرود وتنشيط آليات التبئير:

أشرنا في ما سبق إلى حقيقة كون طموح وأهداف واستجابة الروائي جوليان بارنز في تأليف روايته موضع بحثنا، كانت تتلخص في حقيقة ذلك الراوي ـ الشخصية، الذي يحلو له استرجاع أحداث ماضيه بشخوصه وحوادثه وحبكته، ولعل القارىء المتأمل إلى فكرة الرواية، لربما يجدها من بداهة البداهات، إذ لا تتعدى مشروع كتابة رواية السيرة الذاتية، ولكنها في الواقع عند التمعن والتمحيص نكتشف بأنها ليست بهذا المعنى إطلاقا فالرواية عبر آلياتها ومكوناتها ومحاورها وثيماتها لا تقتصر على هوية حياة السارد نفسه عبر شخصيته الروائية، ولا من ناحية كونه يستعيد أحداث ماضوية في صياغة أحداث لها طابع المزاج الشخصية. بل إن القيمة في هذه الرواية تكمن في ممارسة خطوطها التكنيكية الحاذقة، بما يجوز لنا تسميته بسبك الاسباب بالمسببات بطرائق لا تنحدر سوى إلى المزيد من العمق والدقة والصنعة الروائية التي لا نجد لمثلها في نصوص روائية غربية إلا في ما ندر جدا. أن حقيقة وحدات السرد والمسرود في مسار الرواية جاءتنا جادة ورصينة في مدار خصب من التفاعلات الفنية والجمالية والذاتية والموضوعية، وإن كانت احادية في مهمة منظورها السردي تعلقا بهوية الأنا الساردة الفردية. يرسم لنا السارد المشارك في القسم الآخر من الرواية أحداثا أكثر غواية في الإخاء والتستر، كان الهدف منها كشف بعض ظروف السارد الالتباسية إزاء عشيقته القديمة فيرونيكا، وما تنطوي عليه ملامح الأحداث الصاعدة في النص من جملة صياغات هواجسية في الأصوات والزمان والمكان والنط السياقي، نظرا لأن الأبعاد المحكية كانت قادمة من السارد ليس إلا، ولكننا قد لا نشعر مع صوت هذا السارد بأن هناك حالة ما من حالات الإقحام والهيمنة التي كثيرا ما تواجهنا بها اضطرابات الروايات العربية في التوظيف ووحدة المسار العضوي في النص الروائي.

ـ تعليق القراءة:

ختاما أود أن أوضح مقتصرا على تقديم جملة من التعليقات حول رواية (جوليان بارنز) حول روايته موضع بحثنا: في الواقع أن الحياة الشخصية التي قام بها السارد المشارك في مسرود أحداثه حول أفعال ومواضع من تفاصيل حكاية روائية بالمعنى الدقيق لكلمة رواية، وليس عندي أدنى شك من ذلك أبدا. فالشكوك ومحاور تأنيبات الضمير و الندم على ما قام به السارد الشخصية ذاتها، لم تكن في حد ذاتها تلك الثيمة المركبة في دليل موضوعة النص الروائي، بل أن القيمة الكبرى من وراء هذا النص، تتلخص في قدرة الروائي في عدم الخلط بين الذاتي والموضوعي. أما من ناحية غاية في الأهمية فالرواية تستخدم تقانة (الميتاتكشن) أي تلك الفواصل الجوالة من الوقفات التي من خلالها يجوز للروائي والسارد الحديث والتعليق وأبداء وجهة نظره وهو في حالة تواصل سردي دؤوب بوتيرة فعل الأحداث الروائية، ودون أدنى حدوث أدنى خروقات أو فجوات أو مثالب ما في البناء الروائي الذي غدا مثمرا ومنفتحا من بؤرة تخوم الذاكرة المهجورة والمؤولة في تفاصيل من السرد المنطوي على حالات وكيفيات وظهورات الذاتية المركز في تمايزية الموضوعة الروائية المتفردة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم