قراءات نقدية

معالم الحصار وتجلّيات الرفض في المجموعة القصصية: ما تجلّى في العتمة

سرّني كثيرا الاطلاع على المجموعة القصصية " ما تجلّى في العتمة " للقاص محمد الكريم من العراق الشقيق، الأشمّ، الأصيل. وقد ضمّت هذه اللوحة السرديّة، الصادرة عن دار تموز بدمشق، 27 نصا سرديّا قصيرا، و14 أقصوصة قصيرة جدا، استغرقت 94 صفحة من الحجم المتوسط، أهداها القاص محمد الكريم إلى الأديب الراحل عبد الهادي الفرطوسي. وهي نصوص، منتزعة من واقع المجتمع العراقي المعاصر، والذي لا يختلف عن المجتمع العربي كلّه، ولا يتميّز عنه تاريخيّا ولا بيئيّا. وقد رصدت لنا، هذه السرديّات القصيرة الهموم اليومية لمواطن العراقي الذي طحنته رحى الحصار الذي فرضته عليه قوى الاستبداد والاستدمار في فترة التسعينيّات وما بعد أحداث وهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 م.

ولمّا كان العنوان هو عتبة أيّ نص أدبيّ، أكان نثرا أم شعرا، فقد وسم القاص محمد الكريم مجموعته القصصيّة تحت عنوان " ما تجلّى في العتمة " - وهو عنوان إحدى قصص المجموعة -. وهو عنوان جمع بين متناقضين ؛ التجلّي، أي الكشف والوضوح والظهور والتزيّن والتبرّج. أما العتمة، فهي ظلمة الليل والسواد والكآبة. كما أنّه عنوان متخم بالدلالات البلاغية والنفسية والفلسفيّة. فبين التجلّي والعتمة علاقة تنافر وتدافع وتغالب في ملء الحيّز الزماني والمكاني. فلا يمكن اجتماع النور والظلام واتحادهما في آن اللحظة الزمنيّة الواحدة ولا في الأفق المكاني الواحد. كما لا يمكن الجمع بين الماء والنار في كفّ واحدة. لأنّهمّا لا يستويان في الوجود والأثر. وقد فضل الله تعالى النور على الظلام. وفي العنوان، يلمس القاريء والناقد روح التفاؤل لدى الكاتب، بالرغم من شيوع مشاعر الحزن والألم والمعاناة من قساوة الواقع المعيش في عراق الحصار والاحتلال الأمريكي ما بعدهما. وكأنّ القاص أراد – من صياغة مثل هذا العنوان – الإشارة إلى نبوءة خلاص شعبه وانعتاقه من أغلال الاستبداد والاحتلال. وأنّ الأزمة تلد الهمّة، وأنّ الحريّة وليدة المعاناة، وضريبتها الدماء، وأنّ انجلاء الليل قدر لا بد منه، مهما طال أمده.

يقول القاص في قصته الأولى " ذبابة ورجل ": " تتجمع الحروف كسرب طيور في فضاء روحي، أنتقي منـها مـا يشـكّلُ حجـم الجمـال هـذا الوضـع المرتبـك، اختار ورقة صفراء وقلمـا احمـر وكرسـي يحتمـلُ جسـمي الســمين، اختــار حــدثا يليــق بلــون الورقــة حــدثا اصــفر وحوارا لا قيمة له، مملا..

أكتـب عـن شـخص عـادي لا يـثير الاهتمـام وشــكله عادي لا يلفت النظر أُنفق الوقـت أحـداث صـغيرة يمـر بها.. ".

فهذا المقطع السردي، يلخّص لنا نظرة بطل القصة إلى العمليّة الإبداعيّة، وموقفه من نظريّة الالتزام، وعلاقته بالنظريّة الواقعيّة في الأدب. فالمبدع الحقيقي هو الذي يحلّق داخل السرب، لا خارجه، وهو الذي يغرّد في صلب الواقع المعيش - لأنّه - ببساطة – هو جزء متحرك فيه ومتفاعل معه. لكنّ الواقع المحكوم بقبضة رجل السياسة المستبّد، والذي سخّر كل إمكانياته الاستخباراتية والقمعيّة، يحول دون التعبير بحريّة، ويحيل حياة (البطل) إلى جحيم من القلق والفزع. وهو حال المواطن العربي في المشرق والمغرب، الرازح تحت نير الاستبداد السلطوي، بحجة خدمة الوطن إلى أن أصبح الولاء للحاكم أولى من الولاء للوطن. فالمواطنة تستلزم الولاء للسلطة الحاكمة، وتسبيحا " للزعيم " حتى ولو كان حاكما مضطهدا. اعتمادا على أنظمة التجسّس والتخابر على رعيّته، كما جاء على لسان البطل " وهو تطـوير لنظـام اسـتخباراتي خدمة للسيد الرئيس والوطن أروحنا له الفداء... "

وظّف القاص محمد الكريم عنصر الرمز، ويظهر ذلك جليّا في قصته " قرار ". فلا شك أن الرمز، يكون في كثير من المواقف - إذا أحسن الكاتب توظيفه – مخرجا سلسا وموحيّا وهادفا وذكيّا للإفلات من مقص الرقيب، وتمرير الفكرة وإيصالها للمتلقّي. جاء في مستهل النص قول القاص في وصف بطله: " بمحاولة منه متأخرة، حيث مل الصبر يجازف ليستعيد هيبــة البيــت، بقــي يترقــب المشــهد عــبر نافــذة الغرفــة، الكرســي المــتروك وحــده منــذ زمــن بعيــد تتنــاوب عليــه الشمس والأمطـار دون أن يسـقط فـيردد بتمتمـة "مـا دهـا هــذا البيــت ضــاع اسمــه والكرســي بــاق لم يتــأثر. "

إنّ هذا المقطع الخبري السردي، يصلح أن يكون أقصوصة قصيرة جدا. بطلها يعيش صراعا نفسيا رهيبا، من أجل ترميم البيت (الوطن)، وإعادة هيبته المفقودة، بسبب سلوكيات الحاكم المستبّد (الكرسي).

و لعل ما يشغل المواطن العربي، وخاصة المثقف والناثر والشاعر والمبدع، في المشرق والمغرب العربيين ويؤرقه، منذ عهد خلافة عمر بن عبد العزيز، هو الحريّة بمفهومها الإنساني الملموس والمعيش لا الفلسفي المثالي، المجرّد. فقد صار الرقيب المستبّد يلاحق الكاتب العربي، ويفتّش بين سطور كتاباته وما وراء جملها وكلماتها عن ما يدينه به، ويجرّه إلى محاكم أمن الدولة، التي ترسله مباشرة، بعد محاكمة صوريّة إلى غياهب السجن بغرض تحطيم ملكته الإبداعيّة، وتهشيم صورته وتشويهها أمام الرأي العام، وتجفيف مداد قلمه. أو محاولة إغرائه أو إرغامه على تقديس الحاكم المستبّد ومدحه بما ليس فيه من الأبهة والعظمة. حاول القاص محمد الكريم في قصته الموسومة ب (تحت نصب الحريّة).

و بالرغم من تنوّع أفكار(تيمات) المجموعة القصصية، فإنّ أبطالها؛ بمختلف سلوكياتهم الإيجابيّة والسلبيّة، يعانون من القهر النفسي والاجتماعي والسياسي. فهم شخصيات مهزوزة المشاعر، ولدت ونشأت وكبرت في محيط خاضع للاستبداد والخوف، ابتداءا من السلطة الأبويّة المطلقة مرورا بسلطة التقاليد الاجتماعية الموروثة عن التراث الثقافي الفلكلوري، والممزوجة – غالبا - بالتقاليد والأعراف والخرافات والأساطير الممزوجة بالبهارات الدينية المقدّسة، وصولا إلى الاستبداد السياسي، الذي يمارسه الحاكم (الزعيم) باسم القانون والسلطة المطلقة.

فإنّ التدفّق الشعوري، المأساوي لدى الكاتب نابع - في معظمه - من منبع ومصدر واحد، ألا وهو الواقع المعيش المرّ، المخيف، بكل أطيافه الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة، وهو واقع مكبّل بالعقد النفسيّة المُحبِطَة للآمال والأحلام. يشترك فيه المواطن العربي من المشرق إلى المغرب.

جاء على لسان بطل قصة " ما تجلّى في العتمة": (قـد أتصـور الحركـة. دب الخـوف صدري. ألزم الصمت. خو أن اصدر صوتا وتلسعني السياط مثلما طلبت أن اذهب إلى المرافق فتندمت عقـب طلـبي. ثمـة سـؤال أخشـى أن اسـأله لنفسـي، ربمـا وضـعوا جهازا يخزن هذياني. عندما توقفت السيارة واركبـوني أمـام مرأى الناس كانوا يرتـدون زيـا عسـكريا، مـا أن أدخلـوني إلى هنـا، حتـى تحـرروا مـن ملابسـهم وجمـيعهم يرتـدون بيجامـة قصـيرة وفــانيلا ملونـة. عقبــها، حـدث ضــجيج، أشبه بالعراك).

هذا المقطع، يميط فيه الكاتب - على لسان بطل قصته - اللثام على حجم الاستبداد السياسي، الذي استشرى في بيئات عربيّة كثيرة، وحوّل مفهوم المواطنة – المبنيّة على مبدأ تقديس الحقوق والواجبات - حوّلها من واجب الالتزام بحب الوطن وخدمته، إلى واجب تقديس الحاكم وطاعته، بل الخضوع له مهما تعدّدت سوآته وسقطاته. أو بمعنى آخر، ارتبطت حياة الوطن بحياة الحاكم، فصارت حياة هذا الأخير أهم من كينونة الوطن ومستقبله. وهذه المعادلة العجيبة، التي تفرض سقوط وطن أو زواله من أجل الحاكم الفرد، المستبّد، توارثها المستبدّون المعاصرون عن أجدادهم، الذين لم يحافظوا على المجد العربي في العصور الذهبيّة، في حواضر بغداد ودمشق والقاهرة وتلمسان والقيروان ومراكش وعموم بلاد الأندلس.

إنّ الشعور بفقدان نعمة الحريّة بمفهومها الإنساني لا الفلسفي. والمعاناة من الأرق والقلق والخوف والخيانة والانكسار وغموض المستقبل وقهر الحاضر والخضوع إلى سطوة الماضي ؛ كلّها مشاعر، اشتركت فيها المجموعة القصصية.

و عندما قدّم لنا الكاتب محمد الكريم، أبطال قصص مجموعته " ما تجلّى في العتمة " في هذا الثوب المسودّ، وفي هذه الصورة النفسيّة القلقة، المهزوزة، إلى درجة من الاستسلام والانهزاميّة، إنّما أراد، كان غرضه وأمله، هو وخز الضمائر العربيّة الوطنيّة ؛ النائمة أو الغافلة، ودعوتها إلى اليقظة والانتفاضة وتفعيل الإرادة الحرّة، للتخلّص من القهر والخوف والخضوع.

ما يمكن أن يقال عن المجموعة القصصية " ما تجلّى في العتمة "، لمحمد الكريم، أنّها محاولة سرديّة جادّة في حقل القصة العربيّة القصيرة، المعاصرة. ولم يغرّد فيها الكاتب خارج هموم المواطن العراقي والعربي. مازالت فكرة الحريّة في ممارساتها العامة وفي تفاعلاتها الخاصة، هي الشغل الشاغل للمبدع العربي، أكان شاعرا أم ناثرا. وما زال الرقيب المستبّد يلاحق الأفكار النيّرة لتسفيهها أوتعطيلها أو اغتيالها.

كما يمكن الإشارة إلى ظاهرة طفوليّة التجربة القصصية وعدم نضجها السيكولوجي كي تكتمل أركانها الفنيّة، لدى الكتاب الشباب، في ميدان القصة القصيرة.

و الكاتب محمد الكريم أحد هؤلاء الكتاب الشباب الواعدين. فأغلبهم لا يفرّقون بين القصّة والأقصوصة والخاطرة. وهذا - لعمري – سببه التسرّع في عمليّة النشر وسهولة سبله، وخاصة، ونحن في عصر النشر الرقمي السريع. إنّ فنّ القصة القصيرة يُعدّ من أصعب الفنون النثريّة على الإطلاق، لأنّه ممارسة سرديّة دقيقة ومحدودة الفكرة والهدف ضمن مناخ وبيئة معيّنة.

***

* بقلم: الروائي والناقد علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم