قراءات نقدية

قراءة في ديوان (شط العرب) للشاعر منذر عبد الحر

الجنوح القصدي في أحوال الدال الشعري

توطئة: ينطوي المتن والفضاء الإيحائي في قصيدة ديوان (شط العرب) بمراحلها وتحولاتها وطبقاتها الحسية، تلك الطاقة الهائلة والمتوالدة والمنتجة في التنوع والتعدد والتجاوز نحو مسار هيمنة الصياغة الشفافة والمرنة من فعالية العملية الشعرية الأصلية في صناعة الأثر والمؤثر في مرسلات الأجراء الخطابي في مدونات دوال القصيدة المؤسسة ضمن استراتيجية الكمون في المعنى داخل حالات وهواجس ورؤية النص الشعري.

ـ اغتراب الذات الشاعرة في فضاءات محاورها

لا شك أن تجربة قصائد ديوان (شط العرب) للشاعر المتفرد الأستاذ منذر عبد الحر، ذات خواص ثرية عبر متونها الشعرية المغايرة في موجهات دوالها وتلفظاتها الإحالية (الصورية ـ التمثيلية) وصولا إلى أكثر مستويات الأحوال القصدية تشكيلا في خصوصية رسم الموضوعة الشعرية في النص:

مثل قهوةٍ ..

تنسكب على رداء أبيض

سقطت فراشة روحي

في مدينةٍ غريبة./ص5 قصيدة: انكسار

أن طبيعة الأداة التنقيطية في أولى عتبة الاستهلال النصي، تحيل زمن الدلالة إلى إزاحة زمنية انتقالية محفوفة بالتحول والاختراق والمسكوت عنه، وذلك الأمر ما تفضي به الحساسية المكمونة في البنية الزمنية المحذوفة بضرورة الإمعان والتخفي في خطاب الشكل التقطيعي من النص: (مثل قهوة ... / تنسكب على رداء أبيض/ سقطت فراشة روحي) أن فاعلية المتغير بالمؤثر ما هي إلا وحدة استكشافية قد لا تتمثل نحو الحقيقة وحدها، بل إنها معادلة في التشابه والتشبيه في مجال علاقة ملتبسة من التوازن أو اللاتوازن في مهام تحول الذات الواصفة.إذ نلاحظ من جهة أخرى أن القيمة العنوانية حلت في حدود مشغل أحباطي من دال (انكسار) وهذا الأمر يعني أن رؤية الشاعر سلكت مقادير صادمة من الأحساس بالتيه أو اللاملائمة في مواضع مكوثها اللغوي والذاتي: (في مدينة غريبة) وهذا الاجتراح يحفز المؤول والتلقي نحو مساحة واضحة من كمون الذات تحت عبء هوية اللاانتماء واللاوجود تماثلا معاشا بمزيد من الثبات.

1ـ الخيبة والاحباط في أقاليم اللاانتماء:

تتحرك الأشطر القادمة من ذات القصيدة بوازع من الفواصل، إلى تقديم متوالدات سياقية من تمظهرات الحيوات الذاتية للواصف الشعري، لذا تواجهنا هذه الجمل من النص:

في كلّ فجرٍ

يسألني النهرُ عن وجعٍ

وضمادٍ

عن محطّاتٍ أرامل

وعرباتٍ عوانس

وصباحٍ ناقصٍ./ص5

تتشكل بؤرة الاستعارة ها هنا ضمن حدود شواهد أحوالية مصدرها (الكمون ـ الأخفاء ـ المضمر) امتدادا نحو تقديم حالات الملفوظ بصورة فيها ذلك النزوع نحو تفقد مفقودات أصل الأشياء في مدينة الشاعر، حيث نرى أن (في كل فجر) الظرفية هي من الأهمية في تحديد مواثيق الظرف الزمني المكرر نحو تفقد مستوى: (يسألني النهر / عن وجع وضماد / عن محطات أرامل / وعربات عوانس /وصباح ناقص ) إي بمعنى ما أن فاعلية السؤال هنا جاءت عن حال لسان الذات بدلالة الكشف الوضعي، عن حقيقة ما أصاب المدينة من تحولات مأساوية مبعثها (الحرب ـ الاختلاف السياسي ـ تناقص الأشياء ) وقد أتخذ الدال (يسألني) بوصفه العلامة المستنجدة بحدود وظيفة الملفوظ بطريقة اسلوبية ذات مؤثرات في علاقة السياق.تواجهنا في قصيدة (من يسبق من؟) الاستفهامية والمهداة إلى الراحل حسين سرمك حسن، وعند الاطلاع على مهام النص الدلالية تصادفنا ذات الحسية بالفجيعة تحولا زمنيا واحواليا، إذ تتكون جملة العنونة من وظيفة مزدوجة مبعثها علاقة تجاوزية خاصة:

قبضة الريح...

الرماد

الجنون المسجّى

على شرفة الوهم

هي..

زوّادة وطنٍ حملناها ./ص10

إن قابلية الطاقة الشعرية في مطلع النص، تستقدم لذاتها علاقة استعارية على النحو الذي غدا منها الاتصال الدوالي وكأنه حركة في خطاب لوحة تشكيلية.وبهذا العمق نعاين الشكل المتمظهر في حال التشكيل (قبضة الريح .. الرماد / الجنون المسجى / على شرفة الوهم ) أن مواضعة الانتقال بين الجمل تحكمها نمذجة وصفية توصلنا إلى سبر أغوار الكمون في الملفوظ المرسل (هي .. زوادة وطن حملناها) وبهذا المعنى القصدي، تتبين حقيقة دال جملة (شرفة الوهم) وجملة (قبضة الريح) التي يراد بها اختزال وصلية العلاقة الاحوالية في ثيمة (زوادة وطن حملناها) .

2ـ تأويل دلالات الزمن في الحركة والوجود التصوري:

أن آليات استقرائية الزمن في ظل تقديم حركية المعنى، ليس كحال تمرير في الأجزاء الانتقالية، بقدر ما هي حقيقة في الركون نحو ارتباطات الانطباعات والعوامل التمثيلية.فعلى سبيل المثال نقرأ ما جاءت به هذه المقتبسات من ذات النص:

من يسبقُ من ؟

الرياحُ شديدةٌ

قلتَ لي ذاتَ موتٍ:

لنبعثر خطواتنا

نشتمً الكراسي

نكسرُ أرجلها التي

دعكت زهور حياتنا./ص10

وهذه الأشطر المتتابعة ما تفسر بدورها المعنى الذي أرادت أن تخلقه معادلة الحركة (من ـ يسبق ـ من ؟) إذ تتماثل من خلالها تركيزا دالا (الرياح شديدة ـ قلت لي ذات موت ـ لنبعثر خطواتنا) وظل الارتباط هنا هو التركيز على ثيمة (الوطن) وبعض من وسائل الطغاة في (الرياح شديدة) وربما حركية الزمن غدت علاقة منظورة من قبل جهات الواصلة التظافرية بين الشاعر ومصير الحقيقة في حياة الوطن (نشتم الكراسي/نكسر أرجلها التي/دعكت زهور حياتنا) أن الوقائع الخارجية في مقادير النص، باتت كمؤطرات في حصيلة الوعي الداخلي للدال وإلى صوت الراوي الشعري، امتدادا نحو حساسية ضمنية من مسوغات الملفوظ ذاته:

كنتَ منهمكا بشدّ جناح مسكور

لطائرٍ ملأ مدينتك نشيجاً

وكنتُ أفيضُ حنينا

لنخلتي الوحيدة ./ص11

لا أجدال بأن حالات الدوال هنا ما هي إلا محاولات استعارية كامنة في الاستبيان التمثيلي، حول حقيقة وملامح الوطن، والتأكيد عليها بالمعطى الناتج في جملة (جناح مكسور ـ طائر ملأ مدينتك نشيجا) فثمة ارتباط في إمكانية الوازع ما بين (منهمكا = أفيض ) فالدالان كليهما مسوغا في الافتراض نحو خصوصية الوظيفة ذاتها من طابع الاهتمام والتكريس، إلى جمع محصول الدلالات نحو مساحة كمونية في مسار وظائف الدال الشعري.

ـ تساؤلات الأسئلة بين الافتتان الظاهر واستبصارات الدال

أن فعلية التلقي إلى مجمل تفاصيل تجربة ديوان (شط العرب)  قد لا يعني لنا بأي حال من الأحوال القراءة في حدود عابرة من الإنتاج في مجال التلقي، بل إننا نود ربط الدوال في مواضعها الفعلية الخاصة من فسحة ذائقة المتكلم ـ الشاعر، وعلى نحو الذ واجهتنا به قصيدة (موسيقى) وهي تأخذ شكلا ما في وعينا، إذ تقوم في الوقت نفسه في محاولة إنتاج دلالة خاصة في المعنى الذي يحمله الخطاب التصوري:

أسئلةٌ...

امواجٌ..

تتجمعُ على الشاطىء

قدمانِ حافيتانِ

تبعثرهما

الأسئلةُ

عالقةٌ في شباك الصيد

أمواجاً أسيرةً

وضعت في حفرٍ

بينما يبني العاشقان

من رملٍ أغنيةٍ

قصراً مبتسما./ص19

ما يحفز مستويات شعرية الصور في أحوال النص، ذلك التركيز حول دال وثيمة (الأسئلة) واحتمالاتها بالوظيفة المتعلقة بوساطة (قدمان حافيتان ـ تبعثرهما ـ الأسئلة) كما أن الصيغة التي حلت بها الأسئلة هي من السياق المتدرج في اكتساب احتمال جملة (عالقة في شباك الصيد ) أي بمعنى أن مستوى جملة (قدمان حافيتان) بمثابة البلوغ نحو البراءة والتخفف من الأثقال، ما يوعز لنا في الآن نفسه بأن جملة (امواجا أسيرة) ارتباطا بسياق (قدمان ـ حافيتان) إذ تعود دلالة الأمواج الأسيرة إلى اكتساب القدمان ذلك الفعل المفترض من (سجون / سلطة باطشة) فيما تحقق جمل (يبني العاشقان ـ من رمل أغنية ـ قصرا مبتسما) وبذلك يمكننا القول أن فاعلية (كمون الدال) يتحدد بذاته على أنه (التمركز ـ الانشطار) ولا سيما عندما تؤول فضاءات الدلالة في أكثر من منحى ومعاينة وحقيقة محتملة.

ـ سردنة القصيدة بالموصوفات الشعرية

1ـ فضاءات التماهي بين المتن السردي والفاعل الشعري:

تنفتح بعض من نصوص ديوان (شط العرب) على ذلك التنافذ والتداخل بين الأنواع الأدبية، فهناك في بعض المقطوعات الشعرية لبعض التجارب، ما نعثر على حالة من حالات الطاقة السردية في فواعل المتن، غير إنها في الوقت ذاته تحمل شكلا يحترق بنار الشعر والعلاقة التكثيفية بين مستوى الإنشاء التشكيلي وتمظهرات السؤال الشعري: ) أرش الموسيقى في عيون طفلةـ سلبت المرايا ضمورها وأثخنتها بالغنج وهي ترتل قناديل الورد ـ مانحة زغبها أجنحة لتعبث بأقداحي ./ص31 ) أن شكل الوحدات في متن الملفوظ، تتخذ لذاتها صورة اللقطة والوقفة والتقطيع، كما لو أنها قصيدة ترسم لذاتها أيقونة مشهدية خاصة في محاور صورية من الحركة الدائبة بين الداخل والخارج المشهدي، لتدخل ضمن سياق آلية (الراوي الشعري) لاستكمال الأفق المنصوص عليها كموضوعة متماهية بين مجالين (السرد ـ الشعر) .

ـ تعليق القراءة:

تمتاز قصائد ديوان (شط العرب ) للشاعر الكبير منذر عبد الحر بجملة تصورات وتخيلات تأخذ لذاتها ذلك الاحساس القرائي بأن كل قصيدة في هذه المختارات هي مرحلة حساسية خاصة قائمة بذاتها، تتنامى عبر ظواهرها العضوية رؤى الظاهر والباطن النصي القادمة من إجراءات وأحوال شعرية فاعلة ومنفعلة وملازمة لإطر تشكيلات الوجدان والعاطفة والروح الشعرية الجانحة نحو خلق تلك الإيقاعات للدوال والدلالات الحركية والشكلية والصوتية المتبصرة في تشكيل الابداع وجاذبية مقروئية وعي الابداع الشعري .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم