قراءات نقدية

العالم رواية: العنصرية المقيتة في رواية "مسلم ويهودية" للكاتب "رونين شتاينكة"

لم تكن رواية تقنية سردية، وإنما رواية معلومات تحوي على معلومات وتفاصيل كثيرة وعديدة عن موضوع سياسي بامتياز، يمكن وصفها بموسوعة شاملة استطاعت أن تلمّ بموضوع شائك قد بات إعادة النظر فيه من بين المحظورات السياسية الكبرى، خاصة في دولة عظمى مثل "ألمانيا"، والتي باتت تتنصل منها كمثلبة يتطلب نسيانها، وتفرض على مواطنيها نكرانها. بات ذلك حقل شائك مليء بالألغام. لكونه زمنا عصيبا اضطهدت فيه اليهود إلى درجة الإبادة الجماعية. حيث نسيانه أو تركه يصب في معاداة السامية والوقوف في صفه يصب في إثارة الفتن العنصرية.

رواية "مسلم ويهودية" تحكي عن حقبة شاخصة عاشها اليهود بعذاب وألم تخللتها المذابح والاتهامات بالجرائم والابتزاز والنفي خارج البلاد. بعد تدني الوضع القانوني للمجتمع اليهودي وتمّ إقصاؤه عن جميع الادوار في الحياة الى درجة النبذ. خاصة بعد أن وضع وصول "أدولف هتلر" لسدة الحكم عام 1933 حيث شرع القانون العرقي في عام 1935م وجعل من اليهود المجتمع الذي لا يستحق الوجود على أرض ألمانيا. ثم حصلت الاضطهادات السافرة. خاصة بعد منح صلاحيات واسعة للكتيبة  sa حيث استمرت بالبحث عن اليهود وسوقهم إلى معسكرات خاصة بحجة ترحيلهم إلى الشرق الأوسط، ولكنها مارست فيهم الإبادة العرقية، وتذكر الرواية أنه جرت إعدامات أطباء يهود أخرجوا من المستشفيات بأثوابهم البيض ثم أعدموا بدم بارد. حيث لم تعد هناك فصول منسية من التاريخ، أو مُغَطَسَة بعمدٍ.. إلا وقد أحضرتها الرواية وفرشتها أمام القارئ بكل قضّها وقضيضِّها. جعلتها أمام المجهر حتى يتم إعادة النظر، وإعطاء كلّ ذي حق حقّه حيث الرواية اليوم باتت تغطي التفاصيل المتشعبة من الإشكاليات التي تحدث على كوكبنا الأرضي، حيث طافت على السطح مختلف القضايا وما عاد المخفي مخفيا، ولا مسكوت عنه.  (وفي العراق كان رشيد عالي الكيلاني المناهض لبريطانيا قد انقلب على البريطانيين، وتم إسقاطه بعد أسابيع قليلة فهرب إلى برلين مثل المفتي العام، ولكن ليس قبل أن يتسبب في مذبحة دامت يومين في بغداد قتل فيها نحو 200 يهودي ودمر فيها 900 منزل فيما يعرف بالفرهود- الرواية). حيث أن الرواية الجيدة هي التي تجيد النبش، وتفضح ما بقيّ تحت البساط. وليست هناك أهمية لأي رواية ما لم تنفرد بمعلومة وتكشف له عن تفاصيل مهمة لا يستطيع ذكرها التقرير الصحافي، وتكتسب الرواية أهمية بقضيتها. والرواية التي تخلو من المعلومة تنقصها السمّة الرئيسة الإبداعية حيث تجتذب القارئ، حتى يعيد النظر أمام الجيد المشوق الذي سوف يقدم إليه.. خاصة الرواية التي يكتبها محايدون يبحثون بجد وراء المعلومة المخفية فيما وراء الأكمة. من أجل تقديمها في رواياتهم المتميزة، فالمضمون الروائي المعتمد على وثيقة موثوقة. المحتوى الروائي يجعل الرواية متفوقة عن غيرها. (وكان هتلر يختم خطبته وهو في مخبئه في برلين المشتعلة "من حظنا السيء أننا ندين بالدين الخطأ.. كان الدين الاسلامي ليناسبنا أكثر من المسيحية بتسامحها الضعيف" – الرواية). ذلك العالم السردي الذي صار يبحث عن المكبوت والمعتم والمغيب. يبحث في سطور الأحداث عما يجعله مفيدا وله معلومة مضافة إلى العالمين. البديع في هذه الرواية أنها قصة حقيقية موثقة باتت شهيرة امتدت عبر هذه الرواية. لتحكي عن طبيب شاب مصري مسلم اسمه " محمد حلمي" يقرر إنقاذ شابة يهودية وأسرتها من بين الوحوش النازية، خلال أوج قوتها، وتأمين هروب الفتاة "آنا" المتواصل من حملات النازيين. الرواية عن الألمانية ترجمة (سكينة صالح ومحمود مهران).. ولكل فصل من فصول الرواية اسم لمحور جديد تنتقل إليه الرواية.. "الشرق الأوسط – برلين"، "زيارة منزلية"، "رائحة الشاي"، "قرابة الدم"، "حرية المجانين"، "الاعتقال فورا"، "نهاية الآمال – الاختفاء"، "خطة جريئة، "الاختفاء أمام أعين الناس"، "في عرين الأسد"، "مسلمة بين عشية وضحاها"، "زواج صوري"، "البوليس السري يقترب"، "الكذبة الأخيرة"، "زيارة في القاهرة"، "الشخصيات"، "السياسة الاسلامية للنازيين".  حوادث حقيقة اعتمدتها هذه الرواية عن الطبيب "محمد حلمي" الذي وضع خطة من أجل إنقاذ اليهودية "آنا بروس" والتي بقيت تعمل معه في مختبره منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وبعد بدء البحث عنها من قبل "الغوستابو" وأعضاء الكتيبةsa    وضع خطة متكاملة لأبعادها عن دائرة بحثهم، وجعلها تلبس الشال الإسلامي وغير لها اسمها إلى "نادية"، ينجح في حمايتها من الترحيل إلى معسكرات الإبادة، على الرغم أن الاثنين معا يقتربان من الخطر وبقيت تتظاهر بأنَّها قريبة له (ابنة أخته) مسلمة قادمة من مدينة "دريسدن"، وبقيت تشعر بالأمان تحت حجابها. بدعم فعَّال من أصدقاء مسلمين وأنصار آخرين.. ينسج "محمد حلمي" شبكة كثيفة من القصص الكاذبة ليستطيع بها تضليل الشرطة السرية حتى وصل الجيش الأحمر إلى برلين في شهر نيسان/أبريل 1945.. كانت للطبيب دوافع حقيقية جعلته يرفض أن يكون ترسا دوّارا ناقلا للحركة في عجلة الإبادة العرقية، وجعلها ظاهرة للعيان غير متخفية، كمساعدة له في مهنة الطب. حتى تم نقلها إلى مصر، وتمّ عقد قرانها بشكل صوري على الطريقة الإسلامية في "زواج عرفي" على الورق بحضور شهود. الرواية تكشف عن العمق الثقافي الديني المتشابه بين اليهود وبين المسلمين له أكثر من تطابق في التعاليم والمناسك. لذا تعايشوا معاً بشكل جيد، وظل هذا التعاطف فيما بينهم مجهولاً لفترة طويلة، ولم يظهر للعلن إلا من خلال ما اكتشف حديثاً في أرشيف الدولة، والأرشيف السياسي لوزارة الخارجية الألمانية. حيث كانت الجالية العربية متعاطفة مع اليهود وساعدوهم في الاختباء في وسط عاصمة هتلر، لإنقاذ حياتهم، إنها رواية مشجعة في زمن الكراهية، وإذا كان لدى بعض المسلمين في ألمانيا اليوم انطباع بأن ذكرى "الهولوكوست" لا تعنيهم في شيء، وأنه لا يوجد أي نقاط تماس مع تاريخهم الخاص؛ حيث لا مكان فيها للمهاجرين المسلمين، فإن القصة المروية في هذا الكتاب تثبت عكس ذلك، فهي مبنية على الوثائق التاريخية وملفات التعويضات ومراسلات "الجوستابو" ومستندات الدبلوماسيين. ثمة عبارة شهيرة "مَنْ أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا". هذه العبارة التلمودية المقتبسة من كتاب "مشناه سنهدرين" ترد في القرآن أيضًا وبصيغتها الحرفية تقريبًا، وهي منقوشة منذ عقود على ميداليات "الصالحين بين الأمم من الجدير ذكره أصبح بطل هذه الرواية منذ عام 2013م واحدًا من بين خمسة وعشرين ألف منقذ تم تكريمهم. ومعه المؤلف "رونين شتاينكه" الذي أصبح بفضل هذا العمل الأول من بين الروائيين المشهورين في العالم.. رواية تحدثت كثيرا عن الغرام والصداقة، والعلاقات الدينية والثقافية والفلسفية بين اليهود والمسلمين. وبقي لها وجه حي شاهد على الاستراتيجيات السياسية التخريبية.

***

محمد الأحمد

 

 

في المثقف اليوم