قراءات نقدية

أزمة الهويّة والانتماء في ظلّ العولمة

في المجموعة القصصيّة: "ينما ابتلعت القمر" للقاص السعودي: حسن الشيخ.

وصلتني من المملكة العربية السعودية الشقيقة، مجموعة قصصية للأستاذ الأديب والناقد السعودي حسن الشيخ. تحت عنوان (حينما ابتلعت القمر)، وهي من جنس القصة القصيرة جدا. ضمت بين دفتيها وصفحاتها 117 خمسة وثمانون نصا سرديّا قصيرا جدا. يعتبر فنّ القصص القصير من أصعب الفنون النثريّة على الإطلاق، منذ أن أسس له الكاتب الروسي نيكولاي غوغول من خلال قصته الشهيرة " المعطف " في القرن التاسع عشر. لكن، ألا يمكن اعتبار فنّ المقامات وسرديّات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وفنّ التوقيعات في العصر العباسي وحي ابن يقظان في العصر الأندلسي إرهاصات مشروعة لظهور معالم السرد العربي؟. وأنا أتصفّح مجموعة الأستاذ حسن الشيخ " حين ابتلعت القمر "، استوقفني عنوانها، كما استوقف امريء القيس صاحبيه، وتساءلت: هل اللغة هي مجرّد ساعي بريد حياديّ، أم هي حمّالة إبداع وفكر وشعور وتاريخ وتجارب إنسانيّة؟ كيف يمكن أن يكون الرمز أقوى في النفاذ إلى الذائقة الأدبية النقديّة، وأسرع إلى بلوغ مرامي الكاتب المبدع؟ فالقمر له رموز عدّة منها التجسّد والشخصيّة والخصوبة والحياة والتفكير والأطباع والأم والبراءة والعفّة والهدوء والحزن والشوق والتعزيّة. ومازال سحره يشغل الأدب والفن والعلم والفلك. لقد وظّف القاص حسن الشيخ لفظة " القمر " توظيفا سيميائيا مجرّدا من روح الرومانسيّة، للدلالة على فقدان التأمّل والهدوء، وللتعبير عن رفض واقعه الداكن والبحث عن الحقيقة المطلقة، والتطلّع إلى الحريّة المشروعة. لكن هناك بون ومساحة بين شعور المرء وموقفه، حين "يبتلع" ما يعشقه ويستسيغه ذوقه، أو يبتلع ما لا يعشقه وما لا يستسيغه. فالدلالة الصرفيّة لصيغة (افتعل)، تفيد المشاركة أو الاتّخاذ والمطاوعة غالبا، بمعنى قوّتها، لأنّ معنى قوّة الفعل والمبالغة فيه متأصّل في هذه الصيغة. كما تفيد الاجتهاد أو الاضطراب أيضا، لأن صدور الفعل من الفاعل يكون ذاتيّا دون أن يتعرّض إلى أثر خارجي. يقول القاص حسن الشريف في أقصوصته (حين ابتلعت القمر)، والتي حملت عنوان المجموعة وتحمّلتها، ص 83 " اتكأت على كرسي خشبي، وتطلعت إلى السماء بعينين. كسولتين. رأيت بأم عيني القمر بازغا فقلت: هذا هو وجهها

تطلعت مرة أخرى إلى السماء، فلما رأيت النجوم بارقة، قلت: هكذا كانت تبرق عينيها.

تطلعت إلى السماء، ولم أرى شيئا. فتذكرت إنها في داخلي، حينما ابتلعت القمر ".

والصواب (لم أر)..

هكذا إذن، حين يبحث المرء المأزوم نفسيّا، الرازح تحت نير اللاانتماء، يبحث عن الحقيقة خارج ذاته، فلا يجد لها ظلاّ، وإذا به يكتشفها كامنة في أعماق ذاته. ويتطلّع إلى تغيير العالم الخارجي، وتغيير صورة الآخر وسلوكه تغييرا إيجابيّا، بينما ذاته ترفس في أغلال السلبيّة والقصور. عندها يعجزعن هزم أزمته، والتخلّص من براثينها.يقول القاص في أقصوصته (البحث عن بحر الدمام) ص 84 / 85: " حينما دخلتُ مدينة الدمام

تداخلت الرؤى والأحلام والذكريات البعيدة

هنا حي العدامة.. هنا منزلنا وبقالة العم صابر وهنا ملاعبنا.

وهناك حي الطبيشي ومنزل والدها، ومنزل عمها، ومحل الخياط الهندي الذي تقف عند بابه لكي تٌخيط فساتينها عنده.

حاولتُ البحث عن البحر الذي كنتُ ارتاده يوما بصحبتها.

ولكن ورغم كل محاولاتي

لم أجده

ولم أجدها. "

أجل، يصبح البطل (الأنا) السارد، ضائعا بين الرؤى والأحلام والذكريات التليدة، أي بين الماضي والمستقبل. فهو واقع بين زمان ومكان جميلين، كانا يحضنان حبيبته، تفوح منهما عطور الحب في حي العدامة وحيّ الطبيشي، ودكان الخياط الهندي الذي يخيط فساتين حبيبته، ومنزل والدها، والبحر الذي كانا يرتاده صحبتها. وكم للبحر من رمزيّة وسمات استدلالية وميتافيزيقية الخيال ووجود تاريخي وتراثي. فهو يوحي بمعان إيجابية مثل: الوطن، والحنين، والأمل، والصمود، والصديق، والعطاء، وذكريات الطفولة. أما النواحي السلبية للدلالات الرمزية للبحر، فهي: الضياع، والمنفى، والمحتل. فقد ابتلعت المدنيّة الحديثة والصناعة النفطيّة رومانسيّة الدمام، بالخصوص بحرها وخليجها، الذي يشبه شكل نصف القمر.

إنّ القاسم المشترك بين سرديّات هذه المجموعة القصصيّة، هو المعاناة والحنين والأمل. وقد حاول القاص حسن الشريف، أن يتخفّى – قدر المستطاع – خلف لغة شعريّة ومجازيّة ورمزيّة وزئبقيّة الملمس. ولعلّ ذلك ما جعله يخفي في قرارة نفسه الكثير ممّا كان يودّ قوله ونقله إلى المتلّقي. يعبّر القاص عن أزمة جيله على لسان السارد في أقصوصة (أنا لا أخاف الموت) ص 78، بقوله: " من منكم لا يخاف الموت !

أنا لا أخاف الموت أبدا، رغم إنني أخشى المرض. "

لماذا؟ لأن الموت راحة جسديّة وسفر إلى عالم الخلود في دلالته الماديّة المباشرة، بالإضافة إلى رمزيّته. بينما المرض معاناة وألم عرضيّان ينهكان الجسد، وله أيضا من دلالات رمزيّة ومخارج مجازيّة في متون الشعر والنثر قديما وحديثا، خاصة عند الأدباء الرومانسيين والرمزيين. فالأمم المريضة بأمراض مزمنة، هي أمم في حالة موت سريريّ اكلينيكي.

ما لم يقله القاص أكثر ممّا قاله، وما أخفاه من وراء سرديّاته المجازيّة أخطر ممّا أظهره. وكأنّي بالقاص حسن الشيخ، قد وظّف لغة الصراخ والرفض والاحتجاج والتمرّد على الواقع السياسي والاجتماعي بأسلوب التخفّي وراء لغة مظهر الحيّاد لمراوغة مقصّ الرقيب. ولنتأمّل ما جاء في الأقصوصة التالية (سرّ الغرفة العلويّة المقدّس) ص 71." سر الغرفة العلوية المقدس

إلى الآن لم يستطع أحد الدخول إلى الغرفة العلوية التي حذّر جدي من الدخول إليها.

فمنذ أن حافظ جدي على سرها لآماد طويلة، جاء دورنا نحن لنحافظ على سرها المقدس.

فمن الغرفة العلوية يأتينا الخير والبركة والسعادة. ويأتينا النور من الظلام. وإلى بابها نلتجئ من غِير الزمان والظلمة والقهر. ونشكو ظلم الطغاة.

إلا أي منا لم يهتك الستر المقدس، ويلج على داخل الغرفة منذ أيام الأجداد السابقين.

فما خلف الباب لا يعلمه إلا من هو خلف الباب. ".

ألا تعبّر هذا القطعة السرديّة، عن أزمة مجتمع منغلق، تمارس فيه السلطة السياسيّة الطاغيّة والظالمة في غرف (مظلمة) هواية الوصاية على الرعيّة بقوّة الرعاية (المقدّسة)؟ بلى، هي ظاهرة عربيّة بامتياز، وجدت تربتها الخصبة لتنمو وتتجذر و(تتقدّس) في كنف الجهل والاستسلام والركون للقابليّة والقدريّة.

إنّ نقد الأنظمة السياسيّة في البلاد العربيّة (طابوه) محرّم، يجرّ صاحبه إلى مسرح التخوين والعمالة للأجنبي والمحاكمة والمساءلة والسجن أو النفيّ، أو ربّما الإعدام. لأنّ الحاكم العربيّ، مخلوق معصوم لا يأتيه الزلل من بين يديه ولا من خلفه. حاكم لا يعترف إلاّ بالولاءات، وإن هوت به إلى الجحيم، ويحارب الكفاءات بشتى السبل.

وإذا كان الهمّ السياسي، قد شغل القاص حسن الشيخ في بعض سرديّات هذه المجموعة، فإن همّه الأكبر من جراء التضييق على الحريّات الفرديّة والجماعيّة قد أرّقه، لأن حرمان المواطن من حريّته، سيؤدي بالضرورة إلى ضياع الوطن وخضوعه لسيف الأجنبي. لا يمكن لوطن (القطيع)، مهما كان جنسه وموقعه، أن يحافظ على حريّته وكرامته. لأنّ حريّة الجماعة من حريّة الفرد، وحريّة المواطن صون لحريّة الوطن. ولا يمكن – أيضا - أن تشاد الحضارة بالعنف والقهر واليأس والكراهيّة، وخارج أسوار الحريّة الراشدة والعدل. ولعلّ ما جاء في أقصوصته، المعنونة ب (ترسيم الحدود)، ص 64، يميط اللثام عن ذلك الهمّ المؤلم، يقول القاص حسن الشيخ: " يأتون بخرائطهم ومناظيرهم وببدلهم الزرقاء والخضراء، لكي يرسموا الحدود على أرضنا وفي دواخلنا بطباشيرهم الفحمية السوداء.

ومن خلفهم صبية صغار يلعبون، يمحون بأرجلهم ما يرسمه الجنود من حدود. ".

لكن، سنّة التغيير والأمل قائمان - دوما – في نفوس أجيال الخلاص. فمهما طال الليل، فإن الفجر قادم لا محالة. صغار اليوم هم شباب الغد ورجاله، هم الذين يحملون على عواتقهم رسالة الحريّة والإصلاح لم ينسوا، ولن ينسوا تفاصيل اغتصاب الصهاينة لوطنهم وضياع أرضهم ونكبة آبائهم وأجدادهم ومآسيهم، كما تمنّى ابن غوريون، مؤسس الكيان الصهيوني في مقولته: " الكبار يموتون والصغار ينسون ". وانتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين المحتلّة خير شاهد على بطلان ترّهات الصهايّنة.

لم يغفل القاص حسن الشيخ الهمّ الاجتماعي الإنساني، في صورته (السوداء). فإذا كان الكاتب أو المفكر أو الفيلسوف، يعاني من فقر الحريّة في مجتمع اللاحريّة، فإن الفرد المسحوق يئنّ تحت عجلات العوز المادي. ممّا يضطر إلى الترحال والهجرة مئات الأميال أو آلافها من أجل لقمة خبز مغمّس بالشقاء والإذلال والمعاناة والغربة والوحدة والحنين والشوق والتضحيّة. لقد حرّكته ظاهرة الخادمات الأسيويات في الخليج والشام، وأدمت قلبه المرهف. يقول القاص حسن الشيخ في سرديته (أنا جوانا دانييلا)، ص 74 / 75: " عندما قبلتُ بالعمل هنا، بعيدا عن أهلي وعن وطني، كان الأمر تحدياً كبيراً. سأعيش مع أناس لا أعرفهم، ولا أنتمي إليهم، ولا أتحدث لغتهم، بل ولستُ على ديانتهم.

أنا جوانا دانييلا من الفلبين البعيدة. قدمتُ إلى هذا المكان البعيد لأوفر لقمة العيش لأطفالي الصغار الذين تركتهم عند زوجي.

أنا الخادمة جوانا دانييلا ضحّيتُ بحريتي، لأجعل من غد أطفالي أكثر سعادة. فلا تجعلوا من غدي أكثر تعاسة. "

أليس ذلك إدانة صريحة لتلك (الظاهرة المشينة) ولبعض المجتمعات الأسيويّة، التي عجزت عن صون كرامة رجالها وشرف رجولتهم وذكورتهم وحريّة نسائها، لمّا أجبرت نساءها على الهجرة إلى بلاد قاصية من أجل لقمة خبز لأطفالها الجوعى؟ والأقصوصة صورة تعكس كفاح المرأة الأسيوية الفقيرة، والشعور الرهيب بألم العيش في مجتمعات اللانتماء، غريبة الملّة واللسان والانتماء، وتضحيتها من أجل البقاء، في عولمة دروينيّة ورأسماليّة، عنوانها، البقاء للأقوى وليس للأصلح. وفي أقصوصة (جيوش البرابرة) ص 15، يقول القاص: " جاءت جيوش البرابرة تجتاح حضارة ايامي، واجتاحت جموع التتار مواطني.

وهذا أنا وحيدا جائعا عاريا بعد ان سلب الجنود متاعي، ووقفت على قارعة الطريق أنوح كالثكلى.

اليوم تعلمتُ أن التقط اغصان الأشجار اليابسة لأصد كل الغزاة. فتوقف التاريخ.". يفضح القاص راهن أمتّه وهزائمها وانكساراتها المتتاليّة في صراعها ضد الآخر اليهودي والنصراني. وهو صراع تعدّدت أشكاله وأنماطه ؛ صراع عسكريّ وفكريّ وثقافيّ وعقائديّ وأخلاقيّ واقتصادي. فالبرابرة المعاصرون مازالوا على عهود أسلافهم في القرون الوسطى. يقتلون الأطفال والنساء ويذبّحونهم ويعذبون الأبرياء ويضطهدونهم بأبشع وسائل التعذيب. ما أشبه سقوط فلسطين في أيدي الصهاينة بليلة سقوط غرناطة في أيدي القشتاليين. ما أشبه هوان الأمة اليوم وخضوعها لأعدائها وخنوعها لهم بهوانها في أواخر أيام الرجل المريض والامبراطوريّة العثمانيّة المتهاويّة.

و من خلال تتبّع سرديّات هذه المجموعة القصصية. يمكن استخلاص أهم العناصر التي شغلت القاص حسن الشيخ وأرّقته. وأهمها، وفي المقام الأوّل ؛ الحريّة المسؤولة بمفهومها الإنساني المعيش (حريّة التفكير والتعبير في إبداء الرأي)، لا الفلسفي الميتافيزيقي. فهو على وعي تام، بأنّ الإنسان المنزوع الحريّة شبيه بجسد بلا روح. وأنّ أزمة العالم العربي تكمن في غياب حريّة الفرد والحوار المنتج، وهذا يفضي به إلى معيشة ضنكى، معيشة مجرّدة من العزة والكرامة والإباء وصون الذات الجسديّة والعقليّة من مغبّة الذوبان في العبث والعدم. أمّا العنصر الثاني، فهو غيّاب العدالة الاجتماعيّة كواقع ملموس في حياة الفرد والجماعة. فقد استُعمِل العدل - والذي على أساسه يقام الملك – كشعارلخدمة أهداف سياسيّة فقط، لا لتحقيق فريضة رباّنيّة، وخدمة رسالة إنسانيّة. أما العنصر الثالث، فهو التمّرد والرفض، فقد هدف القاص حسن الشيخ، إلى تحريك خبايا اللاشعور وإيقاظ الضمائر التائهة في مدن الاستسلام واليأس، وذلك من خلال توظيف سيميائية الرمز والإسقاط والتوريّة. كما ورد – مثلا - في أقصوصته (القلعة العالية)، ص 39: " أتطلع الى السماء من نافذة زنزانتي العالية، ولا شيء غير الظلام والصمت، العصافير على شجرة النبق هدأ صفيرها. ولا أسمع سوى همهمات الحراس في باحة السجن الهادئة منذ عشرين سنة وانا انتظر محاكمتي التي لم يحن وقتها بعد، كل شيء كما هو في هذه القلعة العالية. الوجبات الرتيبة، والوجوه، والكتب القديمة، والجدران، لم يتغير شيء سوى تزايد أعداد المسجونين في هذه القلعة الكئيبة. "

إنّها لوحة قاتمة اللون، تعبّر عن مجتمع عربيّ مغلول الأفكار النيّرة، ومحكوم باللامعقول في زمن سيادة العقل والحكمة والمنطق والديمقراطيّة الرشيدة. مجتمع تتحكّم فيه الأحاديّة المستبدّة والفردانيّة المطلقة، تحت شعار أنا أو الفوضى، أنا أو لا أحد.

والخلاصة، يمكن اعتبار سرديّات المجموعة القصصية (حينما ابتلعت القمر) للقاص حسن الشيخ، إضافة - لا بأس بها - إلى المكتبة السعوديّة والعربيّة. وهي أقاصيص لم تخضع في بنائها لمنطق توالي الأفعال تبعا لسياق الحكاية (بداية / عقدة / حل) في الحلقة السرديّة الكلاسيكيّة.

وما على القاص إلا الانتباه إلى بعض الهفوات الإملائية والنحويّة الواردة في بعض الأقاصيص لتصويبها في الطبعات اللاحقة.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم