قراءات نقدية

وطن بديل وحياة بديلة.. قراءة في رواية الوجه الآخر للضباب للروائي كريم صبح

عندما تواجه المجتمعات انحداراً قيمياً لأي سبب كان تنجرف معها كل وسائل الثقافة والتعليم وكل وسائل الحياة الكريمة وكذلك بعض المثقفين والأدباء ينغمسون في هذا الانحدار ويجدوه مرتعا خصبا لإبراز بعض المواهب الفجة والتي تندرج تحت عناوين كثيرة ابسطها التملق للسلطة الحاكمة في تلك الحقبة ،وبالتالي فأن السلطات التي تأتي نتيجة هذا الانحدار لا تنظر الى الانتاج النوعي بقدر ما يهمها الى ماذا ينصرف هذا الانتاج فهي تجد في مديح الشعراء وتلميع صورة الحقبة من قبل بقية الادباء غايتها فتتبنى ذلك النتاج السقيم لتنتقل العدوى الى بقية جسد المجتمع .

فقد روى لي احد الادباء عن مشروع رواية كلفته بها احدى المنظمات التي تصطبغ بصبغة دينية تتحدث عن رمز من رموز الاسلام وثائر عظيم ،فقال لهم ان الرواية تبدأ بيوم مولده حتى يوم الثورة تنتهي الرواية فحدث الثورة معروف للقاصي والداني ولا فائدة من تكراره الذي سيفقد الرواية الكثير بدلا من الاضافة لها ،فقد تم الغاء المشروع بالكامل حيث طلب منه الكتابة فقط عن يوم واحد في حياة ذلك الرمز وهو يوم مصرعه .

هناك ادباء ينأون بأنفسهم عن هذا الانحدار ويبقى في مكانه يراقب من بعيد ما يجري دون ان ينغمس في وحل الاسفاف الفكري والايديولوجي والتبعية ،هذا النوع من الادباء هو من سيؤرخ وسيحفظ للأجيال القيم المجتمعية العليا التي يمتاز بها المجتمع دون المساس بأصالتها وبناءها الفكري.

لقد واجهت مجتمعاتنا العربية خلال هذه الفترة  هذا النوع من الانحدار ،وبالرغم من هذا فقد برز لدينا ادباء كبار قدموا لنا ادباً رفيعا ومستوى فكري عال سواء على الصعيد المجتمعي او على صعيد الفكر الانساني بصورة عامة ،جاءت رواية الوجه الآخر للضباب للروائي كريم صبح نتاجا يتناسق مع المرحلة والمعاناة التي تمر بها مجتمعاتنا و معبرة عن مدى انسجام الفكر الانساني وتلاحمه بالرغم من الصراع الذي يحتدم اثناء فترة التغيير ولكن النتيجة هي ان يتوافق الجميع لخدمة الانسان .

الرواية

لقد جاءت رواية الوجه الآخر للضباب خارج تجارب السرديات العراقية التي اتخذت من المحلية فضاءً سرديا لها فالفضاء السردي الذي دارت به الأحداث  لم يكن ينتمي للمحلية في شيء ولكنها صاغت تجربة انسانية كبيرة من خلال شخوص الرواية والتلاحم الذي يحدث من خلال العلاقات الانسانية التي تنتج اجيالا عابرة للطائفية الدينية والعنصرية القومية فقد فككت الرواية هذه العلاقات الانسانية وأوضحت للقارئ مدى تقارب الأديان وسماحتها ومدى انسجام الإنسان ومشاعره تجاه اخيه الانسان فبطلة الرواية (روزالين) كانت تعتقد بانتمائها الفكري والقومي  الى روسيا وللكنيسة الارثدوكسية بحكم ان والدتها روسية والأب سوري ،ولكن عندما نقلت الى الوطن الثاني ادركت تماما انها في وطنها ايضا واجتاحها بعض الانتماء ولو انها اطلقت عليه الوطن البديل ، وهذا الوطن يحتاجها اكثر من الآخر فأصبح وطنها البديل هو الأصل وفضلت البقاء فيه بالرغم من أن كل من تنتمي اليهم هناك في وطنها الأم ،فهي لم تعبأ بمخلفات الانحدار المجتمعي التي قالت عنها (لحسن حظي انني قُبِلتُ لدى مجتمع كهذا اكثر من ابي وزوجته واخوتي الثلاثة طالما انا من ام روسية) فهي في هذه الجزئية تجاوزت الاحتراب العائلي ونظرت الى  مديات ابعد من ذلك في اطار مجتمع ممزق نتيجة الحرب الاهلية ولاجئين مشردين في بلدان ترفضهم ،فغريزة الانتماء كانت اقوى من كل المؤثرات والمعاناة التي واجهت (روزالين) كانت تقول (أستطيع القول من دون تأنيب ضمير ومن دون تجنّ عليه ،انه بات مجتمعا رهين حقارة السياسة وترسبات التاريخ هناك من تمكن على ما يبدو من بث سمومه  في بنية مركز النور الذي كان عليه لبنان وأطفأ كثيراً من وهج اعتداله وتسامحه)  فهذه العبارات التي ترددها روزالين كانت بمثابة تحليل واقعي وصريح للأنحدار المجتمعي الذي خلفته الحروب فهي ترفض الانغماس في هذا الانحدار بالرغم من أن لديها وطن أم بإمكانها العودة اليه متى شاءت بعيدا عن هذه المعاناة التي تحملتها فهي خرجت من دائرة المصالح الضيقة ووجدت في نفسها مشروعا انسانيا ينتمي للإنسان نفسه  وهي كما تقول (حرب واحدة تكفي لتدمير وطن ،فما بالك وقد تعددت الحروب على اراضيه؟). لقد اشار الروائي بطرف خفي الى ما يحدث في بلده في هذه العبارة وتداعياتها الكبيرة على الصعيد الانساني والفكري والعقائدي ،فهو عندما يصور حالة روزالين وهي تعيش في سورية فالتضييق العقائدي والزجر وقمع حرياتها حتى في ملبسها كلها تداعيات مجتمعية حدثت في بلد الكاتب بعد الاحتلال وهذا مما دعا روزالين الى بناء ضريح لأمها وهي رمز الحرية التي كانت لديها فقد دفنتها في وطنها البديل، فهي ترقد  الآن في ضريح بعيدا عن وطنها الأم .

قراءة دقيقة للرواية تجد ان كاتبها قد افرز قدرا كافيا للمتغيرات التي حدثت خلال الحروب المستمرة في بلداننا فهو يطرح على لسان روزالين خجلها من التطرق الى مسألة الدين واستخداماته في مجتمعاتنا (لا انكر ان الدين صار سلعة رائجة بين الساسة العرب ،صار اداتهم الغالبة في الحكم واسكات  صوت معارضة محكوميهم مثلما لا انكر ان التاريخ العربي صار حاضرا بقوة عند تصنيف الناس الى مسلمين شيعة ومسلمين سنّة مفضيا الى حروب شعواء بين ابناء البلد الواحد). في مثل هذه الاستعارات اللفظية كان كريم صبح يشير الى ما يحدث في الوطن العربي بصورة عامة والعراق بصورة خاصة ففي سوريا واليمن ولبنان والعراق هذا النوع من الصراع موجود .

(الحب يتسع للجميع ولكن الكراهية تنوء  بصاحبها) كانت كريستينا هي رسالة الحب التي جعلها المؤلف في بداية روايته التي انتجت لنا ادباً من نوع مختلف بعيدا عن الاسفاف والترهل كتبها بلغة رشيقة خالية من التعقيد وخالية من التكلف فهي الرواية الأولى للدكتور كريم صبح الذي خرج بها من المحلية ولم يرد فيها أي ذكر لبلده ولو بإشارة بسيطة ولكنه ضمنها احداثا اشتركت بها بلدان عدة ومنها بلد الروائي نفسه فما يحدث في سوريا ولبنان يحدث في العراق في نفس السياقات والتعقيدات الاجتماعية .

***

طارق الكناني   

 

في المثقف اليوم