قراءات نقدية

ما بكَ يا جواد؟.. في السرد الروائي

توطئة: (في السرد الروائي وبما لا يخفى على المتلقي، هناك جملة من الشروط التي ينبغي توفرها لنجاح أي عمل أو لنقل كي تكتمل عناصره وعلى نحو مقنع. ففضلا عن اللغة والحبكة والفكرة وأفق التوقعات وما الى ذلك، هناك مايسمى بالشخصيات الرئيسية التي يرتكز عليها، والتي بها ومن خلالها يتحرك النص حتى يصل غاياته. وهناك أيضا ما يمكن أن نطلق عليه بالشخصيات الثانوية، والتي سينيط بها الكاتب ما يرتأيه من دور، شرط أن يكون متسقا ومنسجما مع طبيعة النص وما مرسوم له. في السطور اللاحقة، وهي مجتزأة من نص روائي طويل، سنتوقف عند إحداها، والتي ستتكشف للقارئ مدى أهميتها في تحريك العمل وسيرورته. وكي لا نصادر ذائقة المتلقي فسنتتركم مع هذه الشخصية ولكم ما ترونه فيها).

                                        ــ 1ــ

للحديث عنه وبهدف تقريب الصورة أكثر، فلا بأس من الإشارة الى أنَّ هناك العديد من العلامات والدلالات التي يتميز بها، من بينها على سبيل المثال ظاهرة الصلع المبكر والذي يحاول جاهدا إخفاءه وبشتى الطرق، لكن دون جدوى. كذلك حلاقته الدائمة لشاربيه وبعناية فائقة، حتى تكاده أملطا. لماذا يا جواد لا تطلقهما؟ سأله أحدهم ذات مرة وربما بدافع الدعابة، الاّ انه سَيردٌ عليه بخطاب ناري، مباغت، حتى بدا كمن كان في حالة من الإنتظار والترقب، فتجده مقتنصا الفرصة قبل ضياعها، ليمرر ما يريد إيصاله بذريعة السؤال.

  وقبيل الدخول في إجابته فجواد ملاّ محمد وبشهادة معارفه، هو أقرب ما يكون الى تلك الشخصية المهادنة والمجاملة، رغم ما تصدر عنه من شطحات أحيانا. تجده يصغي الى هذا والى ذاك وبروح منفتحة. حذر في التعبير عمّا يجول بخاطره حتى ظنَّ البعض وعزا اﻷمر الى ضعف ملكاته وقدراته. غير انَّ الرجل وحين قيامه بالرد على السائل، سيفاجئك أيما مفاجئة، إذ راح يتحدث بطريقة ولغة، سيخيّل لسامعها بأنها لا تعود اليه.صحيح إستخدم مزيجا من المفردات التي تراوحت بين العامية والفصحى، لكنها أظهرت وبشكل جلي مدى إستعداده على المواجهة والتصدي. هل كان الرجل يبطن ما لا يظهر، حتى بان وإنكشف معدنه في هكذا إختبار! أم كان متحاملا بسبب تكرار تعرضه لذات السؤال من قبل! ربما. وربما أيضا وقف خلف ذلك طبيعة إنتمائه السياسي، المختلف والمتقاطع أصلاً مع اﻷوساط التي يلتقيها، والتي لم يكن لها أن تحصل لولا تأثير وضغط صديقه وقريبه من بعيد أبو داود، ولم يأت رده على النحو الذي سنأتـي على ذكره الاّ بعد أن طفح به الكيل كما سيجيء على لسانه فيما بعد.

 ولأنَّ ردّه وإذا ما نقلناه حرفيا، قد يبدو للقارئ غير واضح لما شابه من جو إنفعالي، فسنعمد الى إعادة صياغته، صارفين النظر عن مدى حدته وإذا ما كنّا متفقين أو مختلفين معه، وليأتي على النحو التالي: إذا كانت الشوارب تمثل رمزاً ومقياسا للرجولة وعنوانها فقد تركتها لورثة جوزيف ستالين (وهنا يقصد ويرمي السائل بسهمه ومَنْ يقف خلفه ومَنْ يمثل)، فهم اﻷقدر منا جميعاً على حمل الرسالة والدوران بها على مختلف بقاع الأرض، ومن خلالها وبها، بإمكانهم فرض سلطتهم وبقوة السلاح. ومن كان منكم بلا نظام حكم شمولي، أو ذا قبضة رخوة في التحكم بزمام اﻷمور، فإعملوا بتلك الوصايا واتكلوا على تجربة أبو يعگوب (هذه كنية جوزيف ستالين لدى العراقيين) في فن إدارة الدولة قبل أية نظرية أخرى. فالرجل وعلى ما تدعون، كان ماسكا بخيوط اللعبة كلها ونجح في أيصال ظلالها حتى بلغت أرض المشرقين والمغربين. وزيادة في الإطمئنان فلكم أنْ تستعينوا  بتجربته البلشفية والعودة اليها عند الملمات وحالات الإنفلات والتمرد والتراخي، ولا تترددوا في التصدي لكل مَنْ يسعى الى إعلان حالة العصيان المدني أو يفكر القيام بإنقلاب عسكري أو يحاول الهمس بذلك، فصاحبكم كان عارفا وخبيرا بذلك كلّه، وهو الذي رأى في قوة رأس المال وإنتشاره الأخطبوطي عدوا لدودا للبشرية جمعاء.

في هذه اللحظات حاول السائل إيقافه الاّ انه فشل فشلا ذريعا، مستغربا أسلوبه ومن طبيعة الكلام الذي لم يسبق له أن سمعه منه، حيث بدا كمن حفظه عن ظهر قلب، أو انَّ أحدهم قام بتلقينه ولمآرب دفينة، لذا نجد جواد وقد إستمر في إسترساله: ولجوزيف ستالين من المؤيدين والمؤازرين واﻷحفاد ما يفوق الخيال والتصور، وهم أوفياء له وسيميلون معه أينما يميل حتى وهو في قبره. تراهم مروجين ﻷفكاره، مطبلين لها، حافظين دعواته، خاشعين لإرادته رغم حتفه. فهو وعلى ما رأوا من أوائل مَنْ  تصدى وفضح الإمبريالية العالمية ودورها وأهدافها الدنيئة، وكشف عن وجهها الحقيقي وإدعائاتها الزائفة في نصرة الشعوب.

أخيراسيختم جواد خطابه الذي سبق وصفه بالناري وهو رافعا يده اليمنى عاليا، بترديد شعار عاش الزعيم جوزيف ستالين… عاش الزعيم جوزيف ستالين… عاش أبو  يعگوب.

هذا ما وردَ على لسان جواد ملاّ محمد، والذي يُشم من كلامه رائحة إستخفاف وتقليل من شأن الطرف اﻵخر. أمّا نحن فسنترك جانبا أمرُ مَنْ كان على حق في موقفه، وما إذا كان السائل حسن النية فيما ذهب اليه، وسنتوقف على وصف ما يمكن وصفه. فلون بشرته، يميل الى الوردي أكثر من ميله الى الأبيض، أو لنقل وبشكل أدق هو خليط من بينهما وبنسب مختلفة، وستتغير بحسب طبيعة المناسبة والحضور والمزاج الشخصي في اللحظة اياها. فمثلا ستجده محتقنا اذا ما دخل في بعض المساجلات الجدية كالتي أتينا على ذكرها، وستراه هادئا إذا ما طاب له المقام وهكذا.                  

 وإستكمالا لسبر شخصيته وما يتصل بها فلا بأس من التحدث قليلا عن مسكنه. فمن يدخل غرفته سيجد أن هناك فوضى عارمة قد لفَّت وضربت جنباتها، فما من زاوية الاّ وطالتها يداه، وما من حائط نجا من المانشيتات وبعض من صفحات الجرائد القديمة، موزعة وملصقة بطريقة عشوائية، تمثل في بعض منها مراحل متعاقبة من تأريخ الدولة ونشأتها، كذلك صور لممثلين عالميين مشهورين ككريكوري بيك وشارلي شابلن وَمنْ كان يُلَقَّب بالزعيم العظيم، إضافة الى صور أخرى تم إلصاقها بشكل عشوائي، ليس لها ضرورة ولا معنى ولا صلة.

 وكي لا نجانب الحقيقة فهناك صورة واحدة فقط ومن بين كل ما عُلٌِّقَ تشد اﻷنظار بحق، مؤطرة ببرواز شديد اﻷناقة واللمعان، إدعى جواد بأنه قصد أحد المختصين في سوق السراي ببغداد ودفع لقاءها مبلغا كبيرا، لتبدو على هذا الشكل من الجمال. يكاد حجمها يستحوذ على نصف مساحة أحد الحيطان، لذا وبسبب من  اهتمامه الزائد بها وبهدف ابرازها عن سواها، تجده وقد اختار لها الجدار المقابل للنافذة، والذي ستتسلل منه الشمس، إبتداءاً من لحظةشروقها وحتى مغيبها، حيث جمعت (تلك الصورة) وفي لقطة نادرة وتأريخية ثلاثة من كبار قادة حركة عدم الإنحياز، جوزيف بروز تيتو وجواهر لال نهرو ويتوسطهم الرئيس المصري جمال عبدالناصر وقد ظهرت على وجهه إبتسامته العريضة المعهودة. ربما أراد بذلك جواد أن يعلن عن هويته أو لنقل ميوله السياسية، أو يكون قد حشر نفسه حشرا في تيار واسع، كان قد إنتشر وذاع صيته في تلك الحقبة من الزمن، هادفا الى وضع حد لتلك التساؤلات المريبة، المتعلقة بإنتمائه السياسي والتي ما انفكت تراود وتثير شكوك الكثيرين.

                                        ــ 2 ــ

لم تعد صغيراً يا ولدي، قالت له أمه في آخر زيارة اليه، كنت قد قمت بها قبل ما يقارب السنة، ثم أضافت: لقد أخليت بي وخذلتني بعد أن عاهدتني على الزواج، وقمنا في حينها بتجهيز كل ما يلزم لذلك وإستبشرنا خيرا وطار أخوتك فرحا. لم يرد على عتاب والدته وشكواها، يقول أبو داود، بل تركها تُفرغ ما تريده ومن غير أن يصدر منه أي تعليق حتى وإن بإيماءة يطمئن لها قلبها. ربما أرادت والدته من وراء إثارة موضوع زواجه من جديد وبحضوري الى إحراجه، لتزيد من حجم الضغوط عليه، عسى أن يعيد النظر في قرار العزوف ويستجيب لرغبتها.

مع كل زيارة له، لم يكن هناك أي موضوع يدور بيننا ولا من قصة تشغل باله ويشغلني معه ومن دون رغبتي، سوى قصة ذلك الزعيم الذي يأنف حتى عن ذكر إسمه، على الرغم من ان الرجل بات معروفا من قبل أعلى المستويات العربية والإقليمية والدولية، بل حتى من قِبَلْ كبار قادة العالم وحركات التحرر وفي مقدمتها المنظمات اليسارية ولجان حقوق الانسان، إذ راحت تلك اﻷوساط تنظر اليه بعين واسعة من الغبطة والإحترام والإعجاب، فيما عدا جواد وَمَنْ هو على شاكلته، حيث يفضل بل يصر على إستخدام اللقب الذي حُمّلَ به رغم أنفه من قبل أعدائه، هادفا من وراء ذلك التقليل من شأنه ومكانته، لذا فثلاثة أرباع أحاديثنا، دارت وستستمر على ذات المنوال أي عن(ابن كيفية) كما يسميه، وكيف غدرَ كما يزعم برفاقه وتصفيته لهم، من أجل تسلق السلطة وتربعه على عرشها.

أمّا مَنْ هو إبن كيفية فهذا ما سيتم الكشف عنه لاحقاً والذي ما إنفك يشغل بال جواد ملاّ محمد، أكثر مما يشغل وسائل الإعلام المعادية له، رغم رحيل الرجل أو باﻷحرى رغم التخلص منه وتصفيته جسديا وبطريقة بشعة، قبل ما يزيد على العقد من السنين. فعلى الرغم من حدوث الكثير من المتغيرات والتطورات، وتبدل الكثير من المواقف والإصطفافات السياسية وما رافقها من تحالفات، وتوالي عديد الإنقلابات العسكرية التي جاءت بأنظمة حكم أسوء منه، الاّ انه لم يضع حدا  ﻷحاديثه تلك، بل حتى لم يفكر بإعادة النظر في موقفه منه، وليتحول جواد وموضوعه اﻷثير واﻷبدي الى قصة يتندر بها أصحابه عليه قبل غيرهم، فكلما شعروا بأنَّهم في ضيق وحسرة، وبحاجة الى تطييب وترطيب اﻷجواء، فما عليهم الاّ التذكير بتلك القصة التي لا تنتهي والتي سوف لن تنتهي ما دام جواد على قيد الحياة.

وبالعودة من جديد الى تلك الزيارة التي قام بها أبو داود الى صديقه جواد ملاّ محمد، وبعد أن رحَّبت به وفتحت له والدته الباب الرئيسي مشرعاً أمام زائرها وصديق ولدها المفضل، في هذه الأثناء وما كاد الضيف  يلج الغرفة حتى باغته صاحبه: ألم أقل لك بأنَّ ابن كيفية يتحمل المسؤولية الكاملة لكل ما جرى للبلاد من مهازل، فلو كان قد أدار دفة الحكم بطريقة صحيحة، لما وصلت هذه الشلة التي نراها اليوم متربعة على دست السلطة، وما كان قد حدث كل هذا العبث بمقدرات البلاد والعباد. ألم ترَ بعينيك حجم الفوضى؟ وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال، فليس هناك من شك بأننا سائرون نحو الهاوية ونحو المزيد من التخلف والإنحطاط والتراجع.

 من أين يأتي بكل هذه الطاقة والإصرار على تكرار ذات الموضوع. فمنذ عرفته ولحد الآن، يضيف أبو داود، وفي كل مرة كنت أتوجه فيها الى بيت جواد وقبيل طرقي للباب، كنت أعاهد نفسي على عدم الخوض في هكذا حوار معه، وأن ألتزم جانب الصمت وعدم التفاعل أو الإستجابة لكل إستفزازاته ومهما كلَّفَ الأمر، وأيضا لا بدَّ من إيصال رسائل واضحة، تشير  وبصراحة الى مدى مَلَلي وضجري من أحاديثه هذه ومن سماع ذات الإسطوانة.

 الاّ انه ورغم كل المحاذير والإشارات المباشرة والغير مباشرة، لم يَعُد جواد الى ذات القصة فحسب، بل زاد عليها ما يعتبره دليلاً جديداً آخر، سيعزز من خلاله كما يعتقد من تلك القناعات التي كان قد ذهب اليها في أوقات سابقة.فعلى ضوء ما توفر له وما تحصَّل عليه من معلومات، لم يكتفٍ الى الكشف عنها وتسويقها، بل راح أبعد من ذلك بكثير، ساعيا ما استطاع الى إقناعي واﻵخرين كذلك، محاولا كسب ولائي وولاء ذلك القسم الذي يعتقده لا زال مترددا، وحثه على إعادة النظر في موقفه وجره الى جانبه في موضوع الموقف من ذلك الرجل، والذي يأنف ولحد اﻵن أن يطلق عليه أي تسمية سوى ما يدور برأسه.

لذا وإستكمالا لذات الموضوع وبغضب وتوتر شديدين، رفع جواد عالياً أحد أعداد جريدة آخر ساعة المصرية، والذي يعود تأريخ إصدارها الى ما بعد نجاح ثورة تموز في العراق عام 1958 وبأيام معدودات، واضعاً سبابة يده اليمنى على العنوان الرئيسي الوارد في تلك الصفحة، والى ما اعتبره سراً خطيرا وفضيحة بحق قادة ومفجري الثورة، كان قد تمَّ الكشف عنها منذ ذلك التأريخ وجرى التستر عليها. ليس مهماً كما قال معرفة المصدر الذي قاده للوصول والحصول على ذلك العدد من الجريدة، بل المهم هو الوقوف على ما جاء  فيها من معلومات، تكشف كما يقول حقيقة ما جرى في ذلك اليوم، والجهات التي كانت تقف وراء ما يسمونه بالثورة.

 أبو داود من جهته وعلى أثر  تلك الحركة التي قام بها جواد وعلى الرغم من إصراره على عدم التفاعل معه، غير انه تفاجأ بأمرين، أولهما كيف إستدل جواد على ذلك العدد من الجريدة ومَنْ هي الجهة التي مدته بها. وثانيا، كيف لجواد أن يخفي عليه كل تلك المحاولات التي كان يِقوم بها والتي قضاها في تجميع المعلومات وأنا الأقرب اليه، فما بيننا يبيح ويتيح لكلينا الإطلاع على أي مسعى من هذا النوع.

إستمرَّ جواد في فورته وحالة الإنفعال، ليتوصل ومن خلال ماجاء في الجريدة وهذا هو الأهم وإذا ما صحَّت حقاً تلك الأنباء وما ورد فيها من تفاصيل، ما يؤكد ِوبالأدلة القاطعة التي لا تخطئها العين أو العقل، على حد زعمه، الى إنحراف ما يسمونه، البعض من رجال الثورة عن أهدافها المرسومة  وبإيعاز من جهات خارجية، وذلك بحكم إرتباطاتهم بها ومنذ الساعات الأولى لإندلاع شرارتها، بل حتى أثناء التهيئة والإعداد لها، ليصل الى نتيجة مفادها بأنها مشبوهة مشبوهة مشبوهة، قاسماً على ذلك بأغلض الإيمان وبكتاب الله الذي سحبه على عجل من أحد رفوف غرفته، حيث كان واقفا.

ثم راح جواد مضيفا، كل ذلك ليس مهماً ولا عتب على إبن كيفية ولا على من جاء به، ولكن عتبي على بكر صدقي، ذلك البطل الهمام، الذي تحدَّثتْ عنه كُتب التأريخ وأشادت بسجله العسكري، والذي أراد وضع حد لتلك المهازل التي كانت قد وقعت في عهده. فما قام به من تحرك سريع آنذاك، كان الهدف منه العمل على إعادة أوضاع البلاد الى حالتها الطبيعية، وإدارة دفة الحكم وإعادة بوصلتها نحو الإتجاهات الصحيحة، بعد أن عمَّت الفوضى وإضطربت الأوضاع في البلاد.

***

حاتم جعفر

السويد ــ مالمو

 

في المثقف اليوم