قراءات نقدية

المسرح والجمهور.. والمتلقي

إذا كان في الإمكان التفكير في المسرح (كمؤسسة فنية، وجمالية، وفكرية، وترفيهية) بدون خشبة، وبدون ممثل، وبدون نص، وبدون مُخرج للعمل المسرحي، فيمكن آنذاك التفكير بإلغاء دور "المتفرّج"، أي دور "الجمهور". في السياق الملتوي من الأدبيات الحداثية، أو تلك التي تنتحل صفات الحداثة، يأخذ المسرح شكلاً هلامياً، من الناحيتين الفكرية والجمالية، فالبعض يتحدث عن موت النص، وموت الكاتب، ثم هناك من يتكلم عن موت الممثل، ويلغيه نظريآ ليتحدث عن الجسد المجرّد، كما لو كان الجسد مُمثل بحاله ولحاله، وكما لو لم يكن الجسد جزأً أساسياً من الوجود المادي للممثل على المسرح، وأحد أبرز أدواته في التعبير. ويذهب آخرون الى إعلان موت المخرج، وذلك بإنشاء عمل جماعي يتلّوى بين البحث عن معنى والتواجد الفني الجمالي الهجين.

لكني أجد بانه من العبث مناقشة هكذا أفكار، مايهمني هنا هو التحدّث عن الجمهور بدون تغييبه بصفات لايحملها، كما يُهمني تجريد مصطلح  "المُتلقّي" من مبرراته المعادية لمضمون الروح والجوهر لما هو مسرحي في المسرح. لإن النصوص الخالدة والتي ساعدت على إنبثاق مدارس جمالية متعددة، عبر القرون، في مجالات التمثيل، والمشهدية الجمالية، والإخراج المسرحي لاتزال وستبقى حية في الأجيال القادمة، والسبب الأساسي لذلك أن هذه النصوص عالجت الفكر الإنساني بفرادته وبجمعيته، بمضامين فلسفية، وسيكولوجية وسوسيولوجية وسياسية.  أي إنها نصوص توجهت مباشرة الى الإنسان كفكر فلسفي، وسيكولوجي، والى الإنسان كحالة إجتماعية ترزح تحت معاناة الاقتصاد والسياسة، والمشاكل الاجتماعية التي لا تنفذ. وقد تقبّلها الجمهور وتشارك معها فكرياً ونفسياً ومزاجياً على مدى القرون الماضية.  لعل هذه النوافذ الخالدة في المسرح تبدأ من شكسبير وتمر عبر موليير، وأبسن، وبيرانديللو، ويوجين أونيل، وأنتونين آرتو، وصموئيل بيكيت، ويوجين أونسكو، وجان بول سارتر، والبير كامو، وبرتولت بريخت، وأوريزا هيراتا. ومن الكتاب العرب الفريد فرج، وجورج شحادة، وصلاح عبد الصبور، وسعد الله ونّوس من بين أسماء كثيرة. هذه فقط عينات من تلك النوافذ وهناك غيرها الكثير ممن ترك آثاراً لا تُغفل في مسيرة المسرح. هذه النوافذ لا تنتهي عند إسم أو زمن فالمسرح، حاله من حال المجتمع، فهو يُمثل الزمن بعينه، وكتّابه الخالدين أعمدة هذا الزمن.

تاريخياً، لم يكن عمل المسرح  ولا صالته بالشكل النموذجي المعروف اليوم. على العكس من ذلك، كانت صالات المسرح، في باريس مثلاً، أماكن محمومة، حيث تقترن بالتفاعلات والتبادل من قبل المتفرجين مع الممثلين. وكان السلوك الاجتماعي للمتفرجين في القرنين السابع عشر والثامن عشر في المسارح الوطنية الباريسية موضوع دراسة بإعتبار إن تلك المسارح هي المكان النموذجي الذي يتم فيه، ومن خلاله،  تشكيل وقياس الرأي العام المناهض للملكية في فترة ما قبل الثورة الفرنسية. وفي هذا الصدد، تُسجّل بعض أرشيفات الشرطة المتعلقة بعروض مسرح  "الكوميدي فرنسيز"، عددًا كبيرًا من الحوادث بين الجمهور، التي تحولت أحيانًا إلى أعمال شغب بسبب هذه المواقف السياسية الثورية. فالجمهور كان يتضمن أعداداً من المحرضين السياسيين مختلطة  مع مجموعة مشّوهة من المتسللين ومن النشالين ومثيري الشغب.

وفي هذا الإطار التاريخي، ملاحظة أخيرة تتعلق بالعدد الكبير الذي كان يرتاد المسرح،  وحيث لم تكن الكراسي المعدّة في صالات المسرح تتسع للجميع، مما دعى فيلسوف التنوير فولتير، منذ سبعينيات القرن الثامن عشر، الى المناداة والتأييد بالسماح للجمهور بالجلوس على أرض الصالة، لكن هذه الدعوة أحدثت جدلاً شديداً، ومن أبرز معارضي هذه الدعوة هو الكاتب وفيلسوف عصرالتنوير دنيس ديدرو. ونلاحظ  مما تقدم، تلك القوة والسطوة التي كان يتمتع بها الجمهور المسرحي للمجاهرة ضد السلطة الملكية الفرنسية، ووضع المطالب الثورية التي كان بعضها جزء من شعارات الثورة الفرنسية فيما بعد. كما نلاحظ أهمية المسرح ذاته ليس فقط فنياً وفكرياً بل وتحريضيآً من أجل التغيير. إضافة الى وجوده في قياس الرأي العام. يتضح من هذه اللمحة التاريخية، المبتسرة جداً، أن الجمهور لم يكن يوماً "متلقي" بل كان دائمآ فاعلاً، ومتفاعلاً، وشريكاً مع خشبة المسرح.  أما اليوم فإن الموقف المطلوب هو ببساطة إحترام  "جمهور" المسرح، وهو بدوره سيُبادل هذا الإحترام بإحترام العمل المسرحي بالطبع ، ولكن أيضًا احترام أداء الممثلين وإحترام بقية المتفرجين الآخرين. لأنّ المسرحية، بوجودها حية على المسرح، تعلن عن عرض جماعي آنيّ لا يجب إرباكه أو تعكير صفاءه.

في منطقتنا العربية يبدو أن هناك ثلاث "نظريات" تؤطر العلاقة بين الجمهور والمسرح:

- الأولى كانت "الجمهور عايز كده" وبها ينحني المسرح الى كل أنواع التفاهات الاجتماعية، ويتم من خلالها تسطيح المشاكل السياسية والاقتصادية من إجل إستحلاب الضحك من الجمهور.

-  والثانية هي الجمهور "المُتلقّي" وبها يتحول المسرح الى "فاعل أبارتايد" (عنصري ثقافي أي يمارس الفصل العنصري ثقافياً) باتجاه المتلقي. لإن الإستعلاء في المسرح على الجمهور هو أبارتايد، والإصرار على إستصغاره وتلقينه، هو أيضا أبارتايد.

- أما النظرية الثالثة. فهي: "إحترام الجمهور" كما هو، إحترام وعيه، وإدراكه، وتجربته الإنسانية، والتشارك معه من خلال خشبة المسرح. حيث أن عنصر "التواصل" بين المسرح والجمهور يُشكّل حالة من التواطئ المستتر ومن التبادليّة التي من خلالها سيعيد الجمهور هذا الإحترام الى خشبة المسرح أما بشكل صامت، أو مؤيد بصوت عالٍ، ولكن بشكل أكيد.

كيف يمكن فهم المسرح خارج النظريات المختلفة، والتعريفات، والمفاهيم الفنية المجردة؟ المسرح هو حالة آنيّة من "التواصل المستمر"، إنْ توقف في أن يكون، فمعنى ذلك أنه سيفقد قرينه، وقرين المسرح هو: الجمهور. إن التواصل في المسرح يتخذ أشكالاً عديدة، فقد يكون بين الممثلين أنفسهم، أو بين ممثل والجمهور، أو بين كاتب النص والجمهور، أو بين المخرج والجمهور، الى غير ذلك. جميع أشكال التواصل هذه تمتد الى المتفرج، كفرد وكمجموع، ويتم إستقبالها تبعا لمدركات المتفرّج وتجربته وثقافته العامة.   تتم وسيلة التواصل هذه عبر لغة المسرح، غير أنّ لغة المسرح لاتتكون فقط من كلمات منطوقة، بل من لغة تجمع بين الحروف وبين الرموز والدلالات وبين جمالية تنبثق عن مشهدية تُعمق المعنى وتُغني السحر الفني. لإن " المسرح موجود فقط لكي يُشاهد"، كما يقول موليير،  وهذه هي فرادة المسرح وإختلافه عن الرواية والشعر وألوان الأدب الأخرى. المسرح إذن هو حالة من التواصل غير المنقطع مع الجمهور في إطار جمالي وإحتفالي مرهون بلحظة إحياء العرض.

ولأنّ الجمهور هو أحد الأعمدة التي يقوم عليها المسرح، وبدونه يفقد الأخير وجوده وهويته. لنرى مم إذن يتكون جمهور المسرح؟ في صالة المسرح يختلط الغني بالفقير والمثقف بنقيضه، واليساري باليميني، والمتدين المتفتح بالمتزمت المراوغ. إذن فالجمهور هو كتلة بشرية هجينة بشكل معقد، وغير منسجمة. ولكنها تُمثل المجتمع الذي تنتمي اليه. إنما هذه الكتلة بالذات، هي التي يجب ان يتواصل معها المسرح بلغة لاتنقطع بينه وبينها "أي الجمهور"  - على الرغم من الإختلافات الظاهرة بين أفراد الجمهور – غير أن مفهوم التواصل والتفاعل ينقطع، وبحدّة، حين يفقد شرطه الأساسي ألا وهو "المشاركة" وبدلاً من ذلك يأخذ التواصل فعل "الأستاذية" لتعليم الجمهور، أي لتلقينه، وبهذا "التلقين" بالذات سيكون الجمهور "مُتلقي" فقط، أي منفصل عن طبيعته الأساسية، وكذلك طبيعة وتشريح المسرح. يتوقف أو يُمنع الجمهور من أن يكون شريكاً في آنيّة العرض المسرحي، فالتواصل لا يعني بتاتاً إنعكاس، كالمرآة لما هو على خشبة المسرح من معنى ومن جماليات على أفراد الجمهور، لإن التواصل يحدث من خلال شكلين :

أولاً. شكل الجمهور ككتلة واحدة تُنتج العواطف والحماسة، والإستحسان أو الإستنكار بحمّى المجموع،

وثانياً: شكل الفرد داخل الجمهور، الذي يختلف في العاطفة والإدراك والحماسة عن الآخرين داخل "مجتمع الجمهور".

ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بحالة إطفاء صالة المسرح من النور قبل او عند فتح ستارة المسرح. فالصالة المعتمة تسهّل تسرّب السحر والمتعة والتفكّر والتأمل القادم من خشبة المسرح. وهي، أيضاً، تُمثّل إشارة البدء لحالة التواصل بين المسرح والجمهور كحالة جمعية أو فردية. فالصالة المعتمة تحدّ من التزاحم في إشهار العواطف والحماسة بين أفراد الجمهور، وكذلك تحدّ من التعليقات والتواصل المباشر بين الجمهور وخشبة المسرح.

لماذا إذن هذا الإصرار على تسمية الجمهور بالمتلقي؟ الا يشي ذلك بان الجمهور يجب أن يكون حالة سالبة في مكونات الظرف المسرحي؟ أي أنه مدعو بأن يستلم ما يلقّن به وليس للمشاركة مع مايجري علي خشبة المسرح؟ يجب أن لا يغيب عن البال أن الجمهور يتفاعل عاطفيا وفكريا ومزاجياً مع خشبة المسرح، وهذا التفاعل لا يُمكن أن يتم عبر "التلقّي"، بل يتم عبر "المشاركة" و "التواصل". والمشاركة تتطلب حدوداً دنيا من الوعي والإدراك الذي يبعث برسائل صامته، ولكنها محسوسة جداً، الى خشبة المسرح كجواب لما يبثه المسرح من تواصل. إنها بلا شك مشاركة مع الحدث أو أحداث المسرحية، ومشاركة مع الوعي الذي يبثه الممثل عن الشخصية التي يقوم بتمثيلها، ومشاركة فكرية مع الرؤيا التي يسعى اليها المخرج، ومشاركة مزاجية مع المناظر والألوان والموسيقى والرقص، وهو ما يحفز المتعة وربما الفرح والسعادة لدى المتفرج.

ولإنّ في المسرح يُعلّب الحلم – كما الخيبات - مغلفاً بجماليات البهجة، والمرح، والفرح ويُعرض على الجمهور الذي ستتفاوت ردود فعله نحو صيغة الحلم، ومعانيه وأجواءه الجمالية وفق تجربته الإنسانية، حيث أن في نواة التجربة الإنسانية – مهما أختلفت – توجد قيمة واحدة، لا جدال فيها، حسب الفيلسوف باروخ سبينوزا، هذه القيمة هي: "الفرح". والفرح شعور، عندما يتجلّى في الفرد فإنه يُكرّس قدراته على الفعل والتصرف. فإن كان لدينا إدراكاً كافياً حول الظواهر التي تؤثر فينا، فإن قدراتنا علي التصرف ستكون أوسع وأرحب، فالقدرة على التصرّف والفعل تتساوى مع الوعي والمقدرة على الإدراك. لذلك فإنه سيصبح مخالف للطبيعة الإنسانية إعتبار الجمهور كائن مُتلقي. أي كائن سلبي لا دور له سوى هزّ الرأس بالموافقة والتصفيق.

ولكن القدرة على الفعل وعلى التصرف مرهرنة بالحرية التي يتمتع بها الإنسان. وهذه إشكالية فلسفية أخرى. فمن يمنح منطلقات الحرية، وما هو جوهر الحرية، وهل هي منفصلة عن وجود الفرد أو الجماعة؟ إن الإنسان – وفق جان بول سارتر – "محكوم عليه أن يكون حراً، لأنه بمجرد رميه في هذا العالم ، سيكون مسؤولاً عن كل ما يفعله". ولهذا فإن أعترافنا  " بحرّية" الجمهور وبإحترام خيارات التصرّف والتعامل اللائق مع الفعل المسرحي وفق مدركاته قد يُعمّق من التجربة المسرحية ذاتها. هذا، بطبيعة الحال، مشروطٌاً في إن يكون الجمهور مستعداً لذلك. كذلك فإن هذا الإستعداد يجب أن يتوافق مع الحدس المشترك لمفهوم الحرية: أي أن يكون الجمهور قادرًا على توليد تأثيرات تعبر عن ما هو عليه في فرادته وفي جمعه. هذا هو الشعور الأصيل والأولي والمباغت "للحرية" الذي يمكن أن يلازم الجمهور طيلة تواجده في المسرح.

الأفكار المتشبّهة بالحداثية -إن جاز لنا تسميتها هكذا- والتي ينبثق عنها مزيج هجيني من جماليات فاقدة لأسس الإستتيك، كمفاهيم ومعاييرجمالية وفنيّة وفكرية، هي التي تُبعد الجمهورعن المسرح تماماً، وتُلغي شرط "التواصل" فيما بينه وبين خشبة المسرح وذلك بجعله "مُتلقّي" فقط. أي تحاول أن تُبعد عنه المشاركة الحسية، والعاطفية، والفكرية والجمالية. أجد في هذا النمط من التفكير كثير من التعالي على وعي الجمهور، بشكل يفتقر بشدة للأخلاقيات الأولية في التعامل الإنساني أولاً، والفني ثانياً، فهو يفترض، في هذه الحالة، بان الجمهور جاء ليتعلّم وهو الذي سيقوم بدور الأستاذية التعليمية، كما ذكرت سابقاً. هذه أفكار تُسقِط من المسرح كل ماهو فني وجمالي وفكري، أي تُنهي، ببساطة، فعل المسرح وتلغي دوره التفاعلي والتشاركي الصريح والمستمر منذ بذرة المسرح الأولى في التاريخ الى يومنا هذا.

إن الجمهور، ككتلة بشرية واحدة أو كأفراد، حين يواجه خشبة المسرح، فإنه يواجهه بخزين من التجارب الحياتية، وله أعماقه من الإدراك والوعي، اللذان يمكّناه من التشارك والتفاعل  مع خشبة المسرح على قدر ما يستخلصه هو من تجاربه ، وعلى قدر ما يكتنز من وعي وإدراك. لذلك يؤكد الفيلسوف أدموند هوسرل بأن إستيفاء معيار "التجربة" المجردة، مضافاً اليها التجربة الإدراكية البحتة يشي بوجود "شبه تجربة" في "الخيال" أو "المخيال". ومن تأثيرات هذه النتائج، إمكانية وصف تجربة المتفرج في المسرح على أنها تخوّف مزدوج، "إدراكي وخيالي". فالمتفرّج المفتون باللعبة المسرحية يعيش في الوهم الإدراكي،  "يختبر دون أن يكون في موقف التجربة". ولن تحدث هذه النتائج إذا لم يكن هناك شرط التواصل، والتفاعل، والتشارك. وبفقدان هذا الشرط سيتحول الجمهور الى "مُتلقّي" بكل ما في هذا المفهوم  من سلبيات وينتهي وَهْم وفانتازيا التجربة قبل أن يبدأ.

***

علي ماجد شبو

في المثقف اليوم