قراءات نقدية

ظل الولدنة.. مسرحية تثير قضية العنف وتطرح أكثر من سؤال

شكا الناس في بلادنا منذ فترة بعيدة وما زالوا يشكون، من ظاهرة العنف المستشرية في مجتمعنا العربي في البلاد، وطالما بحث القادرون من هؤلاء عن حلول لهذه الظاهرة المقلقة واقاموا الندوات والامسيات بحثًا لها او احتجاجًا عليها. في هذا الإطار تأتي المسرحية الجديدة لـ "مسرح الخيال" النصراوي بإدارة الفنان الممثل المخرج المسرحي محمد عودة الله -مناذرة.

المسرحية تحمل عنوانًا ذا دلالة ومرمى، كما سنتبين فيما يلي، هو "ظل الولدنة- مسرحية للفتيان والشباب". تدور أحداثها في أجيال عُمرية ما زالت في ربيعها الأول والثاني في الحياة، وتتمحور هذه الاحداث حول وقائع عينية، تتمثل في محاولة احتيالية لفتى، هو عصبي في المسرحية، يحاول التغلّب على كسله وفشله في الحياة، فيبادر لمحاولة فرض سيطرته على فتى يصغره بعدة سنوات ومحب لكرة القدم يدعى وحيد، وذلك عبر استغلاله لفرصة تتمثل في مبادرة مركز جماهيري إقامة فريق كرة قدم، ويوعز بهذا للفتى، أن يسعى لترتيب اشتراكات مالية ممن تمّ اختيارهم للمشاركة في هذا الفريق. وحيد يجد نفسه والحالة هذه ضمن تخبطات وإرباكات تدفعه في النهاية إلى التردد وعدم القيام بالمهمة المتوقعة منه لدى عصبي، ما يدفع عصبي للاعتداء عليه جاعلًا منه كرة قدم ويوجّه اليه الضربة تلو الضربة، الامر الذي يتسبّب لوحيد بآلام نفسية وجسدية، تدخله في حالة نفسية إضافية ضاغطة، وهنا يبادر فتى آخر، يدعى مطيع، من جيل عصبي، ومرافقيه، ممن يتحلون بضمير صاح الى حد ما، لمساعدة وحيد منتشلًا إياه من وهدة القلق، التوتر والحيرة، ما يدفع وحيد لأن يصحو إلى ذاته فيتقدم بشكوى إلى الشرطة، وهنا يمارس عصبي الضغط النفسي على وحيد وبعده الضغط الجسدي كما حدث في اعتدائه الأول، وتنتهي المسرحية، بمشهد عنف يذهب ضحيته أكثر من شخص، في مقدمتهم عصبي منتحرا،.. بعضهم من أناس إيجابيين لا يريدون العنف، أو الولدنة، لتقول لنا المسرحية بصريح العبارة إن العنف لا يستثني أحدًا من أبناء المجتمع الواحد، وإنه من غير الصحيح أن يدعي أحد أن العنف لن يطرق بابه ذات لحظة وغفلة.

المسرحية بهذا تطرق موضوعًا حارقًا، هو موضوع العنف لدى الفتيان والشبان وتضع "مسرح الخيال"، في طليعة جبهة المواجهة له، بأسلوب فني واع، يتوسّل في العديد من الطرائق والاساليب لتوصيل الرسالة المقصودة. نشير فيما يلي إلى أبرزها.

* في استعراضها الفني الواعي لموضوع العنف وتبعاته الكارثية على المجتمع، تشير المسرحية حينًا بالمباشرة وآخر بالإيماءة والتلميح، إلى الأسباب التي تؤدي إلى استفحال هذه الظاهرة، وفي مقدمتها ما يعاني منه الفتيان من فراغ ومن مؤثرات خارجية مثل سيطرة النموذج العنيف واعتباره لدى البعض قدوة ونموذجًا، إضافة إلى غياب البيئة الدافئة الحاضنة، غير أن المسرحية في المقابل لهذا تقدّم صورة أخرى لفتيان يبحثون عن الحياة ويريدونها بسلام، هاتان الصورتان المتعارضتان شكلتا العصب الدرامي لهذه المسرحية.

* قدّمت المسرحية صورة شاملة أو شبه شاملة لموضوع العنف لدى أبناء الأجيال الصاعدة، الأولاد والولدنة، فتطرقت إليه من شتى أطرافه، سواء كانت سلبية أو إيجابية، غير أنها لم تغفل أن الضرر عندما يقع، فانه يلحق بالجميع، ويوقع الأذى بكل الأطراف دون استثناء، فالمعتدي العنيف الضالّ يدفع الثمن كذلك المعتدى عليه، إنها اليد القاسية يد العنف التي تُدخل أطرافها مجتمعة في دوّامة لا خروج منها إلا بالخسارة تلو الخسارة، هذه الصورة الشاملة تضع موضوع العنف على مشرح المعاينة، المراجعة والفحص، وأعتقد هنا أن المسرحية تمكّنت من إثارة الموضوع بصورة درامية، وهو ما يضع مُشاهديها من أبناء الأجيال الطالعة خاصة، كما أرى، في مواجهة واعية لمجريات وعواقب موضوع العنف، سوء كان ذلك بمناقشته مع الذات أو مع الآخر.

* في فعلها الدرامي الصاخب هذا، تنحو المسرحية نحوًا فنيًا واعيًا، فهي لا تعظ ولا تُقدّم النصائح، وانما هي تعرض لمشاهدها، تفاصيل قصة محتملة الوقوع، متدرجة من ألفها إلى يائها، ومستعرضة الحالة السلبية التي تدفع صاحبها لسلوك طريق العنف الشائك، مبتعدةً عن تقديمه مبررًا، ومكتفية بعرضه رغبة منها في تجسيده والتنفير منه، ويتجلّى هذا كله في النهاية المؤسية التي انتهت إليها المسرحية وهي النهاية المحتّمة للعنف ممثلة بالقتل وإزهاق الأرواح من شتى الأطراف المعتدية والمعتدى عليها. وهنا قد يتساءل المشاهد عن السبب الذي رمت إليه المسرحية بهذه النهاية المُفجعة، فنؤكد أن هذا السبب تمثل في صرخة تحذيرية تجزم أن العنف وتبعاته إنما يأتي على الأخضر واليابس مُلحقًا الضرر بجميع أطرافه. بهذا يمكن اعتبار مسرحية ظل الولدنة صرخة تحذيرية مدوّية وتثير موضوعًا وجب على المسرح أن يثيره في أكثر من عمل وأكثر من زاوية.

المسرحية تأليف يجئال ايفن اورن، ترجمة وإعداد محمد سليمان مناذرة، سينوغرافيا وإخراج فؤاد عوض، مساعد مخرج نجد مناذرة، مديرة إنتاج سعاد زعبي، مساعدة إنتاج أروى احمد، تنسيق وتصميم ملابس صابرين طافش، موسيقى معين دانيال، تقنيات إضاءة وصوت إيهاب خاسكية ونجد مناذرة، تمثيل: محمد إسماعيل، نور حريري، دنيا سليمان، سنابل عرابي، وهي من إنتاج "مسرح الخيال" النصراوي كما سلف. بقيت ملاحظتان إحداهما تتعلّق بممثلي المسرحية وهم من الفنانين الجدد الذين يقدّمون إبداعاتهم أول مرة، والملاحظة الثانية تتعلّق بالنص المسرحي المترجم عن اللغة العبرية وهنا نشير إلى أن طاقم المسرحية في مقدمته الفنان المخرج فؤاد عوض تمكّن بحرفية مشهود لها من تقديم المسرحية مُعرّبةً ولائقةً بمجتمعنا العربي الرازح تحت نير العنف وتبعاته منذ سنوات بعيدة.

***

ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم