قراءات نقدية

قراءة في الديوان الشعري (بين شقوق الجدران) للشاعر رافع بندر

هواجس الأنا تساؤلات آفاقية في مداليل القصيدة

مهاد نظري: تعين وظيفة الأداة الشعرية إما شيئا خاصا ـ ملموسا:فرديا ـ أو شيئا عاما في وظيفة اغراضية مجملة الدليل والتخييل والتلفظ.وبصيغة أو بأخرى،يكون هذا التعين الأداتي بالأغراض الدوالية داخل أفعال ذات دلالات وضعية تتلمس لذاتها سبيلا نحو كينونة الأنا في شكلها الاعتباري المقارب بالعلاقة النواتية نحو (= نقطة بدء العلامة) أو اللاوجود المتشكل في الأحوال المطلقة من سياقية الاحتمال كقصدية في مؤشرات المكان أو الزمن أو الوطن أو فضاء الخروج نحو المداليل الآفاقية القصوى للملفوظ القصدي في شعاب تمايزية القصدية.بالإمكان الحديث الآن حول نماذج شعر ديوان (بين شقوق الجدران) للشاعر المبدع رافع بندر، لما عليه حال الخطاب النصي من متعارضات وتفارقات وتقابلات حسية مصدرها ـ إن جاز القول ـ ذلك التعالق الأحوالي الواقع بين (الأنا = المحيط) أو أنه ذلك التنافر من جهة الأنا الشاعرة إزاء وقائع الإمكانات الخارجية في الماحول من كينونة الدال الشعري والذات المتلفظة.ربما إذا طالعنا من جهة تأويلية ما إلى هواجس قصائد الديوان (بين شقوق الجدران) لربما نفهم ذلك المستوى من التضمين الكامن في عتبة العناوين الشعرية لكل قصيدة على حدة.فعندما نقرأ ما جاءت به قصيدة (مزيفون) تتوارد إلى أذهاننا تلك الجملة الشكوكية في حيز مشغل السياق التاريخ وما تقوم على مسرحة الواهم من العشرات من أكاذيب وزوغان الأبطال والبطولة الخادعة:

الأساطير

التي سمعناها

لم تكن صادقة

الشخوص

الذين ابهرونا

مُزَيَّفُون

السيوف

الَّتِي استلَّها المحاربون

من خشب./ص68

أن البنية الدلالية ها هنا،هي جملة خاصة من الكشوف إلى حجم الاختلافات وتراصف الأضداد في متاريس الانطباع القادم لدى منتوج الشاعر التوصيفي.فالجملة الأسطرية: (مزيفون: الأساطير،التي سمعناها لم تكن صادقة) إن حجم الإشكالية قد لا تعد علامة على سلبية الحاضنة التأريخانية وصفحاتها المغبرة، بل بقدر الدور السلبي الذي هو غدا يشكل قيمة الانفلات للأمانة التأريخية على حين غرة فحسب.الشاعر بندر يستنزف تأويلاته نحو (هوية الأدوار؟) لا للدور المعياري الصادق والموثوق به، فهو من خلال هذه الجمل (الشخوص=الذين أبهرونا =مزيفون) يعاود تشخيصه التكراري في ارتداد ارجاعي لدال المركز (مزيفون) حتى تكون صيغة التكرار هنا الصورة الأكثر بؤرية في الفعل والخطية القصدية: (السيوف= التي استلها المحاربون =من خشب) وعلى هذا النحو التضاعيفي من الملمح،تتركز لدينا حيثيات دال (السيوف) ضمن نموذجها العكسي الذي يقترن في المعنى النقيض من التلفظ للدال ظاهرا،ليتخذ الدال لنفسه مساحة وصفية ونعتية من إشارة المشبه ب (من خشب) .أن آليات توصيفات الشاعر بندر هي من الاستخدام الضدي،مخاطبا به ذلك الملمح في مرآة المعنى،وحتى حلول اسطر جديدة من النص تتضح لنا مفاوز الأثر الأمعاني بدت مكشوفة في مشهد كثيف إيحاءات النص:

وأقصدُ العرب!

صحراؤكم

رمالها

وكل ما حملتموه من

شجاعةٍ

حضارةٍ.....

بنوتةِ

الخيبات

والويلات

والتعب./ص68 ص69

الصورة التي يرسمها بندر هنا هي من شواهد زيف التأريخ،وهذا ما يسميه أو سبنكي (شوارد التأريخ) حيث الزمن التأريخي عبارة عن أقاويل رواة منهم المنحازون ومنهم من سلك دروب الشعر في وصف فروسية أفراد عن طريق الارتجال والتكسب ليس إلا.

ـ الشاهد الذاكراتي ينازع أكسير انفصالية الربح بالخسارة

يؤدي سياق (الميتاشعري) إلى الانغماس في إعادة إنتاج الذاكرة النواتية في محامل خاصة من الشد والتواتر بكفاءة مجازية الفعل والقول المفارق،وصولا منها إلى تكوين علاقة داخلية من الأنا الشاعرة من شأنها صياغة زمن الملفوظ في مراحل زمنية ذات طابع لا يفارقه،أرشفة التأثير في مسار قصيدة الشاعر،نقرأها نموذجا من قصيدة (فوق جدار الذاكرة) كي نرى إرادة المنتج ومدى خلقه لذلك المستوى التأشيرات الدلالية الخاصة:

أكبر الخاسرينَ آباؤنا

نحن اليتامى

منذُ الصِغر

كبرنا رغم قساوةِ الزمن ./ص49

ان قراءة هذا النوع من النصوص الفردية،تخلق لدى الناقد مجموعة انطباعات أولاها:الفقد المبكر وثانيها:القيمة المعنوية والعاطفية حيال هذا الأنموذج من الدال (أباؤنا) وهذا النوع من الراحلون من الآباء،يزرع في وجدان الأبناء حالة قريبة من اللوعة الباردة،ولكن بندر أخذ يتعامل وإياها تحت معاينة مجهر مختبري دقيق،لذا ما فاته أن يتحسس هذا الوقع بروح مختلفة لا تعوضها سوى كلمة (الخسران) على حيوات الماقبل من آباء الآباء،ولكنه يقر لنا ولذاته في النتيجة بأن: (أباؤنا: لا يعرفون سوى = قبور أجدادهم القديمة = صورهم المعلقة = منذ زمن بعيد = فوق جدار الذاكرة) أي أن الشاعر يسعى إلى كتابة الأوضاع التي مارسها أولئك الآباء إزاء قبور أجدادهم،وهذا الحضور يشكل بذاته ذلك النقص الذي وصل إلى مرحلة الخسران عندما: (حكاياتنا : سمعوها أكثر من مرة = ونحن نعيدها عليهم = متجاهلين ذائقتهم) أي أن ما يقصده الشاعر هو أن الأشياء تفقد حلاوتها بين الأعمار المنصرمة.ذلك لأن البون الذوقي والعمري ما بين ثلاثية الأقطاب (الجد ـ الأب ـ الأبن) تفصلهم إجراءات زمنية معاشة لها لغتها وعاداتها وطقوسها. وعلى هذا النحو نفهم من مرثية الشاعر بندر،أن السابق لا يعول على اللاحق،سوى من جانب العلاقة الصورية التي تتمثلها دلالة عنونة النص ب (فوق جدار الذاكرة) .

ـ شعرية طموحات الشجر

تفرض الحالة العاطفية والوجدانية شطرا دالا، على مشروع ديوان الشاعر،ومن المؤكد أن حالات الوجدان في لغة قصيدة بندر لها أهمية وخصوصية ولوعة واضحة حيال الأوضاع الحسية المعاينة التي تترتب عليها مواقف تلك المحبوبة المنعطفة في تشابك جدران منزلها.نطالع الآن ما جاءت به قصيدة (سعال الأشجار) حيث الواقعة الشعرية في ولادة جذوتها الحميمة:

لا يتوقفُ

سعالُ الأشجارِ

وأنا مختبىء بين الأغصانِ

تفضحني

أجنحةُ العصافير

عند الفجرِ

هكذا في كل مرةٍ

لكني سوف أعودُ

بجيش من الكلماتِ

وسيوفٍ من أغصانِ الزيتون./ص39

إن رافع بندر يخرج حالات الأشياء من عنوانها الطبيعي،لتدخل في إطار مسميات لها عنفوان العاشق المحارب لأجل الوصول إلى محبوبته.ومن الطبيعي أن تكون لغة الدلالة ذا حيثيات مقرونة بالمفارقة الفنية كحال الجمل الأولى من النص: (لا يتوقف: سعال الأشجار = وأنا مختبىء بين الأغصان) يلاحظ أن الشاعر يمارس تلفظات تفارقية من نوع ما،ولكنها الأكثر جذبا وخصبا ودليلا،فهو يخشى حفيف النسيم بأوراق الشجر، خوفا على ذاته من العطاس،وهو المترقب داخل قلب الشجرة،كذلك ما جاءت به الجمل اللاحقة من النص (تفضحني: أجنحة العصافير = عند الفجر) أو الاشارة التوكيدية في جملة (هكذا في كل مرة) تدليلا على أن الذات الشاعرة،هي من الأسبقية في مزاولة عملية الاختباء هذه.ولكن هناك حالة من الدمج بين تتابع الملفوظ،إذ لا يفصلها أدنى فاصل ما،وهو ما تترب عليه هاتين الجملتين (هكذا في كل مرة ـ لكني سوف أعود؟) العملية التتابعية ها هنا بين الجملتين لكل منهما خصوصيته الفعلية،فلا تجوز عدم الفصل بينهما بحركة إزاحة أو علامة تأشير، من شأنها التلويح للقارىء بالفصل ما بين الأوضاع في عملية الإنشاء الشعري،فالأولى توحي على العادة المكررة،فيما تسعى الأخرى إلى الإقرار من بداية جملة جديدة،من الأفضل أن تكون هناك علامة على بدء جملة خبرية جديدة في سياق المتن.

ـ القصيدة القصيرة بين الأدائية الضمنية وتوقيعات المحتوى

ومن خلال ما يتحدد به الشكل الشعري القصير من نظام ومنظومة الانعطاف الدلالي،وتجسيد العلائق البديلة من التماهي في ممكنات أكثر تفارقا في الاختزال الموضوعي للقصيدة.لذا واجهتنا ثمة نماذج من هذا الأسلوب في قصائد ديوان (بين شقوق الجدران) على مستوى خاص من المعطى والغاية المدلولية في أقصى درجات الوعي في خلق التماثلات الشعرية.وفي هذا الصدد واجهتنا بعض عناوين التجارب الشعرية كقصيدة (انتهت مراسيم العزاء) وقصيدة (ملتصقان) وقصيدة (صمت):

قبلَ الليلِ

مِن هذا العام

انتحرت آخرُ الأقداح

وماتت فوقَ الأوتار

أصابع الموسيقى الأعمى

آهٍ يا حزنَ الأنغام

تجهشُ بالصمتِ

أمامَ الجمهور./ص54

إن ممارسة الشاعر لهذا النوع من الشكل الشعري القصير،يتعلق بما يسمى (قصيدة الخاتمة) وهناك فئة من نقاد الشعر ما يطلق عليها مسمى قصيدة الرؤية،أي بما تعنيه الأخيرة من كون القصيدة لا تكترث بالإيقاع أو الصوت الحروفي،فيما يتكرس همها أو هم الشاعر في ضغط النص بمخصوصية دلالية تتعدى طاقة التوقع في محطات انتظار القارىء للمعنى المخمن في ضمنية النص.وعبر قصيدة (صمت) أنموذجا،تتداول مستويات الأفعال الدوالية بما يؤشر للنص،بأن هناك وحدة زمنية ما قبلية في مؤشرات الظروف الزمنية (قبل الليل ـ من هذا العام) إذا الماقبل هو أداة زمنية والليل أيضا للزمن الظرفي،وقد لوحت الجملة اللاحقة (من هذا العام) حول المحدد الدوري لهذا الظرف.أما في ما يخص جملة (انتحرت آخر الأقداح) وجملة (وماتت فوق الأوتار) فهي في مجملها الدوالي تعبر عن الدوافع العاطفية والكرنفالية التي يلم بها المتن الاستعاري من صفة مكينة في سياق التحول والإحالة،ووصولا بجملة (أصابع الموسيقي الأعمى) تتحقق إمكانية الرؤية الدوافعية من حالات الأسطر الأولى في النص،وذلك بكون الدفق الدلالي معبرا ومنذ دليل (ماتت فوق الأوتار) بما يجيز لنا القول أن فضاء العماء هو الأقرب فعلا إلى الصمت،وبهذا التصريف يمكننا أخذ معنى النص على أنه جملة أحوال في دلالات الصمت بمستوى مضاف من كون العازف هو الصمت الأعمى،وهذا الأمر ذاته ما وجدناه في مجمل البنيات للقصائد المشار إليها في هذا الباب من مبحثنا الخاص.

 تعليق القراءة:

يبدو لي من الأهمية القول أن مختارات قصائد ديوان (بين شقوق الجدران) للشاعر العزيز الأستاذرافع بندر تجربة تستحق منا تناولها بأكثر من محمل وتقويم وإضاءة تفاصيل مكوناتها الممعنة ببلاغة القول الشعري الذي يكشف عن نفسه منذ أول قصيدة في الديوان،إذ أن هذه التجربة تمتلك من الذيوع والتفرد في وظائف مرسلاتها التي أشعرتنا بأن شاعرها البندر مسكون ب (منفى الاستعارة) التي تسعى بالأشياء والأحوال إلى تقديم مستويات خاصة من تساؤلات الأنا الآفاقية في مداليل موضوعية تؤديها الذات بشراكة الموضوعة المركزة في البناء والأسلوب والمداليل المتمثلة أيضا بأقصى فضاءات القدح الشعري في البنية التشكيلية المائزة بتحول الدال على أوجه رحبة من أبعاد العلائق العضوية في سياق الفاعل النصي والشاعر الحسي.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم