قراءات نقدية

العجائبية وسلّم المفردة في العمق النصّي

في المجموعة القصصية (باستيل) للقاصّة رانيا ثروت.. دراسة ذرائعية

إغناء: في كتابه" العجائبية الواقعية" وضع فرانز هلنس وجهتَين للأدب العجائبي، الأولى خارجية، والثانية داخلية، والفرق بينهما أن الكاتب في الأولى- الخارجية- يستمد شخصياته من " الكائنات الوسيطة " كالأشباح، والبيوت المسكونة، والأرواح، والتنبؤات....الخ، بينما في الفانتازيا الداخلية، والتي هي نتاج روح شعرية، تكون الشخصيات هي الكاتب نفسه، فشخصيته تتعدّد وتتضاعف، تتحوّل، تمتزج مع المادة أوالعنصر...

إذن، الفانتازيا الداخلية، أو الأدب العجائبي الواقعي، وهو أدب شاعري في الأساس، وهو مصدر الإلهام في الخيال العاطفي الانفعالي، الشخصيات المبتكرة من قِبل الكاتب في هذه الفئة هي ابتكارات وجدانية خالصة، وهذه الشخصيات هي الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة، فهو لم ينقل الواقع مع عناصره المرئية والطبيعية إلى مستوى فوق الطبيعي، لكنه يجعل هذا الواقع يتحوّل ويندمج مع الفوق طبيعي ...[1]

المستوى الفكري (الثيمة):

الأديبة رانيا ثروت، هي قاصّة تكتب رسائل للمجتمع بطريقة عجائبية، فتخلط الخيال والميثولوجية في الواقع بطريقة راقية، مستغلة أدق الظواهر، في الحقائق العلمية، والغيبيّات الثيولوجية (الدينية)، فتنحصر كتاباتها بين علمَي:

الكوزمولوجي Cosmology:علم الجمال الكوني، أو الكونيات، الذي يهتم بدراسة الكون، الأصل والتطوّر والمصير الحتمي لكل شيْ.

والثيولوجي Theology: علم اللاهوت الذي يهتم بدراسة الدين وتأثيره على المجتمع، حيث يدرس التجربة الإنسانية للإيمان.

ف رانيا ثروت، في هذه العمل، المجموعة القصصية (باستيل)، تتناص دائمًا مع الكتب السماوية، وهي ثيمتها الرئيسية في معظم نصوص المجموعة التي ضمّنتها رسائلها الموجّهة للمجتمع باستراتيجية غرائبية.

أمّا عن التكنيك النصّي فهي قاصّة تحمّل كلماتها ومفرداتها، زيادة عن الحمولة السيمانتيكية المرئية، حمولات إيحائية متعدّدة بترتيب درجات جوانب العمق النصّي من رمزي وسيكولوجي وفلسفي وأخلاقي واجتماعي، فهي تكتب نصوصها برموز مغلقة ومفتوحة وعامة بدرجة تؤهّلها لأن نعتبرها قاصّة رمزية بدرجة راقية.

المستوى البصري واللساني الجمالي:

الجانب البصري:

العنوان: باستيل

وهو أول دلالة إيحائية صدّرتها القاصّة إلى المتلقي، وقد استلّته القاصّة من عنوان إحدى القصص في المجموعة، لأنها وجدته مكوّنًّا نصّيًّا مكثّفًّا وإيحائيًّا عن الثيمة الرئيسية لعموم النصوص في المجموعة. باستيل بالمعنى السيمانتيكي القاموسي: جاءت من كلمة باستيل أو باستل من الإيطالية pastello والتي تعني لفافة خبز صغيرة، وهي إحدى أدوات الرسم على هيئة أصابع تلوين لها عدة أنواع منها الزيتي وأقلام الباستيل والباستيل الناعم والخشن والقابل للذوبان في الماء، وهي تصنع من الطباشير البيضاء اللون وألوان مسحوقة.

 بينما إيحائيًّا: أصبح رمزًا تقنيًّا للطغيان والظلم وانطلاق شرارة الثورة، عندما أضيف إلى مفردة سجن، فأصبح سجن الباستيل: الذي أنشئ في فرنسا بين عامي 1370- 1383 كسجن للمعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة.

تكشف القاصّة إيحائية هذا الرمز بتقنية التوازي الدلالي، وبإيحائية متدرّجة، حين تطرح في معرض كشفها عنه دلالات إيحائية أخرى تتوالد وتتناسل بشكل تبرعم فرعي، كل ماتحته خط هو دلالة إيحائية فرعية تسند إيحائية الرمز التقني باستيل) المكثفة والمختزلة في المعاني الرئيسية الظلم والطغيان والأسر والثورة:

فكّرت أن أهرب وأبصق أفكاري في وجه العالم، لعلّه يستفيق، أتذكّر أنني فعلت ذلك مرة، هربت من مكان اسمه كاسم حشرة سامة يذكّرني بكلمة " باستيل" وبعدها رأيت ما يعجز عن وصفه فكري ولساني، كنت إنسانًا ثم حيوانًا، ثم تحوّلت لحشرة تركلها الأقدام، وتقوقعت في شرنقة نسجتها من جلدي وعظامي، متّ ثم بعثت فراشة تكشّفت أمامها الحجب، وعندما أخبرتهم بالحقائق أحضروني إلى هنا ......

الغلاف:

نجد الغلاف عبارة عن لوحة من الفن التجريدي، تمّ تكوينها من (موتيفات) عديدة، وخلافًا للمألوف، يحتل اسم القاصّة (رانيا ثروت) ببنط متوسط وباللون الأبيض على شريط بني أعلى اللوحة، بينما أسفل اللوحة من نصيب عنوان المجموعة (باستيل) بالبنط العريض واللون الأبيض، ودون أي تجنيس للكتاب...! من يقرأ نصوص المجموعة، سيجد أن الكاتبة ألقت على لوحة الغلاف دلالات بصرية للعديد من النصوص، كآلة العود التي تكرّرت في عدّة موتيفات في اللوحة من نص (مكاوي السلكاوي) بطل القصة الذي كان عوّدًا، قضبان النافدة التي تسجن خلفها فتاة بثوب مقلّم كزي السجناء، تعكس دلالات مشهدية وسيكولوجية لمعظم الشخصيات الأنثوية المسجونة داخل شقائها الاجتماعي والحياتي وخذلانها العاطفي، على سبيل المثال لا الحصر نص (الحب ... حرام).

اختيار موفق للون البني ومشتقاته، على اعتباره لون التراب، واحد من مكوّنَين رئيسيين لأصل الخلق الإنساني والكوني، مع إغفال متعمّد للمكوّن الثاني (الماء)، وهذا رمز غائب عن الطرف الحيوي في عملية الخلق لإنتاج الحياة، تسنده القاصة ضمنيًّا على استراتيجيتها المتناصة ثيولوجيًا مع الآية الكريمة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فغياب اللون المائي في صورة الغلاف هو رمز لجفاف الحياة في الكون والإنسان على حدّ سواء، وحتى إن افترضنا أن ثوب الفتاة المقلم بالأبيض والأزرق قد يكون حضورًا شحيحًا للماء لكنه مسجون ومنزوعة منه خاصيته الفيزيائية الطبيعية في الجريان والتدفّق...!

الغلاف الخلفي، لوحة باهتة اخضرّت فيها الألوان قليلًا، وتكشّفت عن مجموعة من الرجال يمشون في رتل، واضح أنهم في باحة سجن، ويد تلوّح أمام نوافذ، ووجه فتاة لم يكتمل بالعينين، فقط أصبع السبابة ينتصب أمام الفم بإشارة تطلب أو تأمر بالصمت، وإلى يسارها صورة شخصية ل(رانيا ثروت) الجميلة تبتسم، وقد اختارت مقطوعة سردية من أحد نصوص المجموعة تختزل فيها فلسفة الوجودية، وثيمة الثيولوجية، تقول:

بعض الأشياء مبعثرة، أوراق وأقلام وسماعة أذن انقطع عنها الصوت فتوسدت الطاولة صامتة كالموت، وأسئلة تعبث بعقلي الأجوف، البعض يأكل الشوكولاتة والبعض تأكله الشوكولاتة فأيهما أنت؟ لم تعد هناك حقيقة مؤكدة، فهل المؤكد ما نراه أم ما يحدث فعلًا؟

الإهداء:

 نوعان من الإهداء:

خاص: لأشخاص بعينهم، الأم والأب والزوج والأولاد والعم، والصديق الأديب أحمد قاصد، والفنانة والأديبة سهير شكري، والأديب منير عتيبة والأستاذ محمد عبد الوارث.

عام: لأشخاص هم بالمجمل شخصيات قصصها المأزومة بثيمة الفقد والحرمان العاطفي والظلم الاجتماعي والخذلان النفسي، وعندما تهديهم بعضًا منها فهي تؤكّد أنها كل هذه الشخصيات باستراتيجيتها الغرائبية:

إلى الأرواح المعذّبة والمقيدة، والذين تهدّمت جدُرهم

إلى كل من فقد حلمه

إلى من قهرهم الخذلان والفقد

إلى من بكوا سرًّا وضحكوا جهرًا

إلى من تمنّوا غدًا أفضل ... ورحلوا دون رؤيته

إليكم أهدي بعضًا مني

35 نصًّا، من جنس القصّ القصير، قسّمتها القاصة إلى قسمين، الأول انضوى تحت خيمة (عنه) إشارة إلى سارد رجل، هو الشخصية البطلة في القصة، تضمن هذا القسم القصص التالية:

صلاة الإخلاص- كفر الكنبة- باستيل- دون أن يدري- عبور- منتظرون – وطن آخر- شكوك مؤكدة – نجم الشمال- عيون ملؤها الرماد.

القسم الثاني يتبع (عنهم) غلب فيها السرد عن شخصيات رئيسية مهمشة من الجنسين، والغلبة للجنس الأنثوي، عناوينها إما أسماء علم أنثوية، أو أسماء أوجمل اسمية نكرة، يضمّ هذا القسم القصص التالية:

فطيمة- مشجب- كسور- توحيدة- فصام- مكرّر- مكاوي السلكاوي- حبر- ورد وأشواك- سقف- شهامة- انعكاس- لحظات حرجة- الوشم- ندوب- مفترق- اغتراب- الحب ...حرام- جبن تركي- ليالي مقمرة- مد...مدد- السيد (س)- مساحة بيضاء- وجد- حلم أبتر.

امتدت القصص على بياض 112 صفحة من الحجم المألوف حاليًّا للمجموعة القصصية، بتنسيق مطبعي جيد، لكنه لم يخلُ من الأخطاء المطبعية والإملائية.

الجانب اللساني:

سأكتفي في الجانب اللغوي اللساني بدراسة حمولة الكلمة (سلّم الكلمة)، أي النقلة التعبيرية من المفردة باتجاه الدلالة، وهذه حالة تشكّل تمييزًا للنص الأدبي من النص التقريري.

فمثلًا، في قصتها (كفر الكنبة)، استخدمت مفردة) الكنبة (كرمز مغلق بالبداية، وهو دلالة لأشياء إيحائية سنقف عليها بالتدريج، وقدّمت عليها كل الشروحات القاموسية، ابتداءً من تأصيل وجود تلك الكنبة، بطرح دلالة العمق التراثي لها بطريقة غرائبية، والتي ستكشف فيها عن دلالة الإيحائية باتجاه موروث العادات والتقاليد القديمة، تقول:

قريتنا قرية غريبة.. أهلها يحتفظون في كل بيت من بيوتها بكنبة قديمة، يتوارثونها جيلًا بعد جيل، يحرصون عليها أشد الحرص، حتى أن اسم قريتنا اشتقّ منها....ص 13

تتابع طرح دلالات إيحائية لبناء غرائبية في الإيحاء عن التصرّف الثيولوجي لأبناء القرية حيالها، وهي دلالات ملحقة بالدلالة الأساسية (الكنبة)، فيكون التلفاز دلالة سيميائية بظاهر المعنى الإيحائي المخفي، وهو الدور الإعلامي المقابل للكنبة، الذي يتّسم بخصائص تستعرضها بدقّة، تقول:

يقبع أمام الكنبة تلفاز، يظلّون جالسين عليها يشاهدونه طوال الليل وبعض النهار تبعًا للمواعيد المقدّسة، يتابعون القناة الوحيدة صاحبة البرنامج الواحد....

وقد أرادت القاصة بتلك الثنائية الغرائبية(الكنبة والتلفاز) أن تثبت أهل البلد يؤمنون ثيولوجيًّا(طوال الليل وبعض النهار- المواعيد المقدّسة) بأن تلك الثنائية(الكنبة والتلفاز) قد تحوّلت إلى تعويذة تحميهم من الشر، وهذا إيمان ميثولوجي تطرحه الكاتبة عن طيبة وبساطة أهل القرية، وهل يعد ذلك تخلّفًا برأي الكاتبة ؟

لم تعتبر الكاتبة هذه الحالة تخلفًا بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الناس القرويين البسطاء يؤمنون بالتعويذات التي تنهي الصراع بين الخير والشر لصالح الخير، تقول:

يؤكّد أهالي الكفر أن الكنبة تحميهم، وتوفّر لهم الراحة والأمان، كما أنها تجمع العائلة بصورة مثالية... ص13

ثمَّ تنتقل فجأة إلى معنى إيحائي سياسي، ارتبط بلفظ (الكنبة) ارتباطًا مباشرًا في مرحلة قيام ثورة يناير، حيث تمّ تصنيف أفراد المجتمع بحسب آرائهم السياسية وموقفهم من الثورة إلى عدة مجموعات، وبعضها ارتقى أيضًا بشكل رمزي إلى لفظ أحزاب، منها حزب الكنبة، وإلى هذا المعنى تتحوّل القاصّة، لتبيّن هذا المعنى الإيحائي السياسي، بأسلوب لا يخلو من التهكم والسخرية، تقول:

.... أنها تجمع العائلة بصورة مثالية، لم يفكّر أحد في الخروج على القانون، ربّما خوفًا، وربّما عن إيمان حقيقي بأهميّتها المقدّسة.. يجلسون فاغري أفواههم، عيونهم جاحظة مفتوحة على آخرها، لا ترمش ولا ترف بشكل غريب!. ص14

وهنا نقلة تعبيرية إلى ثيمة القاصّة رانيا ثروت في الكتابة في هذا النص، بعد أن استخدمت الغرائبية والثيولوجية والميثولوجية بارتباط أهل القرية بالكنبة والتلفاز، نقلتنا إلى ظهور جيل الصغار الذين أرادوا فك الارتباط بين الدلالَتين بتحطيمها، فأرادت أن تقول: بأن الحياة عبارة عن أجيال متعاقبة، جيل يعقب جيلًا، فيظهر درجة التفاوت بين الجيل الجديد وبين الجيل القديم السابق، وكاتبتنا المثقفة تحاول أن توظّف هذه الثيمة لإظهار الرفض العلني للجيل الجديد لتفاهات وخرافات الجيل السابق، وهنا نحتاج إلى ذرائع ومبررّات تمتثلها الكاتب لإثبات الفرق بين الجيلين وأيّهما الأصح، من هذه المبررات:

1- الكنبة والتلفاز جعلت أفراد الجيل السابق يسمنون جسديًا،

2- كما أنهما أوقفا التفكير في عقولهم،

3- وجعلاهم مسلوبي العقل ك (الربوتات) إحساسًا وسلوكًا.

أمّا عن النتائج: فقد حاولت الكاتبة معالجة هذا الأمر بطريقة ذكية لتخليص أبناء القرية من هذا المرض الغريب، وأتت بالنتائج التالية:

1- جعلت أفراد الجيل الجديد يفكرون بتخريب جهاز التلفاز مجتمعين:

اتفقت وبعض أصدقائي على أن نخربّ الجهاز، الذي يستعبدنا، ويستعبد أهلنا ولو بالقوة، نوقظهم من هذا الروتين القاتل والنظام القاسي...ص 14

2- إن تخريب الجهاز سينتج عنه معالجة للجيل القديم من داء السمنة الذي أصاب عقولهم وأجسادهم، ليستعيدوا البصيرة وقدرة على المحاكمة العقلية، ورؤية الحقائق كما يراها الجيل الجديد، في محاولة لهدم الفجوة بين جيلين فقد القديم منهم اتجاه البوصلة، بذلك تكون قد خلّصتهم من هذا الموقف الغريب:

... ونعالجهم من الشحوم التي تراكمت على عقولهم وأجسادهم، لعلّهم يرون الحقيقة الغائبة عنهم، مثلما نراها نحن....ص 14

3- وعندما حاول الجيل الجديد التخلّص من التلفاز ظهرت مخلوقات غرائبية، وقامت بسجنهم داخل الكنبة (هنا تحوّلت الدلالة الرئيسية إيحائيًّا إلى معتقل)، وبقي أهاليهم يجلسون على الكنبة دون أن يدروا أن أبناءهم مسجونون داخلها، يتألّمون من ثقلهم وخنوعهم على سقف معتقلهم:

تشكّل (السلويت)[2] رجالًا غلاظ الملامح، يمسكون هراوات شائكة، قادونا إلى غرفة غريبة مملوءة بأنابيت أسطوانية تشبه " السوست"، سجنوا كل واحد منا في " سوستة"[3]، مازال أهلنا جالسين فوقنا، مع كل حركة منهم نتألّم.. نصرخ.. وما من مجيب، منّا من أعلن توبته، وتوسّل للرجوع إلى حياته؛ مؤكّدًا أن الكنبة هي الأمان، وأنّه استُدرج... ص15

4- النجاة جاءت بحدث حتمي، طرحته القاصّة إيحائيًّا (ثورة) بدلالة إيحائية جديدة(طوفان):

حتى جاء يوم سمعنا فيه الحرّاس يهرولون ويصرخون يتحدّثون عن طوفان اجتاح البيوت، وسوف يغرق الكفر، بعض الحرّس أشفقوا علينا، فأخرجوا بعضنا، ليريحوا ما تبقّى من ضمائرهم، فأخذنا نخرج من السوَست، والماء يغرق أرضية الكنبة، وأهلنا لا يشعرون...ص16

5- هنا تريد الكاتبة أن تختم كل ما قيل مسبقًا عن الكنبة رمزًا عامًا مفتوحًا يشير بأصبعه الغليظ إلى الصراع بين التخلّف والوعي، بين الحاكم والمحكوم، فإمّا أن يتفوّق الحاكم والتخلّف بالضغط على الوعي والمحكوم حينما يكون الاثنين في حالة سلبية، أو العكس حينما تكون الحالة إيجابية، بمعنى، أن القاصّة استخدمت رمزًا مفتوحًا لدلالة مشهورة هي الحاكم والمحكوم، الوعي والتخلف، ... وهو صراع دائم، ويعاني فيه الصح والحق كثيرًا حتى ينتصر...

فاض الطوفان، هدم البيوت، طاف الكنب متجهًا إلى المصرف، حتى سدّهوتراكمت جبال المياه فوقه، حتى أهلكته إلى غير رجعة، وبعد سبعة أيام، ابتلعت الأرضُ الماءَ وجفّت بعض المناطق، فنزلنا من أعالي الشجر، متخذين قرارًا في البدء ببناء كفرنا الجديد. واتفقنا على أن نسمّيه " كفر أبو سوستة"

طبعًا القاصّة بهذه النهاية تقودنا إلى المستوى العقلاني مدخل التناص الثيولوجي مع النص القرآني في قصة الطوفان وسيدنا نوح عليه السلام.

 المستوى المتحرك:

سأجمل في هذا المستوى التجربة الإبداعية للقاصّة، بالنقاط التالية:

1- تجربتها السردية راقية جدًّا لأنها تكتب تحت خيمة الإيحاء والغرائبية

2- استخدمت الرمزية المفتوحة والرمزية العامة

3- استخدمت حمولة الكلمة بشكل فلسفي جميل، فمكّنتها فلسفتها من النفاذ من الأزمة إلى الحل بطريق عبّدته بالغرائبية.

4- الاستراتيجية المستخدمة في كتابة معظم القصص تكوّنت من العجائبية والخيال والإيحاء، وهذا الخليط خليط غير متجانس، لكن الكاتبة استطاعت الجمع بينهم بمهارة وذكاء سردي.

في قصّة (مفترق) أقامت البناء السردي على تخييل مخاتل، البطلة تخاطب حبيبها، تعلن له بكل حزم إصرارها على أن يبقى حبيبها رغمًا عن كل الحيل المخادعة التي يشقيها بها، فهي تحبّه بالصورة التي تراه هي بها:

أنا لا أراك، وإنما أرى الصورة التي ولدت في خيالي منذ زمن بعيد، الصورة التي طالما كنت وفيّة لها، والتي كانت دائمًا وفية لي.... ص87

ثم تفاجئنا القاصّة أن البطلة تتحدّث إلى ميت في قبر! تطلب منه بكل جدّية وغضب ووعيد قائلة:

" أتمنى أن أجدك في انتظاري المرة القادمة، فلن أغفر لك كل هذا الإهمال، ولن أسمح بأي أعذار للغياب". ص 87

5- للميثولوجيا مساحة واسعة في هذا العمل، نجحت الكاتبة في تضفيرها مع الواقع، فكان النسيج السردي بروكارًا متجانسًا جميلًا من متنافِرَين، على سبيل المثال في قصة (سقف)، حاكت لنا لوحة فيها نار من الواقع ونار من الأسطورة:

نار المدفأة تتوهّج، تسترجع أسطورة " بروميثيوس" .. من وُهِب قبسًا من نار ليضيء العالم، أحبّ البشر ففقد حريته، وعاش مقيّدًا على صخرة.... ص70

 بطلتها مسكونة بالشخصيات الأسطورية، لذلك تقابل القاصّة صندوق البطلة المركون قبالة المدفأة، والحاوي على ذكريات الماضي، بصندوق باندورا الذي تضمّن كل شرور البشرية، وكلا الصندوقين استفزّا نارالنفس المتأجّجة بغريزة الفضول لفتح مغاليقهما، ليغدو الشرّ طليقًا:

ظلال النار تداعب صندوقًا في ركن قبالة المدفأة، كان هدية من زمن ولّى، فكّرت في لمسه وفتح مغاليقه، لكنها تذكّرت باندورا التي قتلها الفضول، فأطلقت عذابات العالم، وتراجعت. ص 70

وفي قصة (عيون ملؤها الرماد) توظيف لافت لأسطورة (خطف حادس ل بيرسيفوني) في المتن القصصي، وتحويل المتن الحكائي للأسطورة الأصلية إلى بنية حكّائية متفلّتة من القرائن الزمنية والمنطقية للأحداث، وتوظيفها في بناء المتن القصصي المعاصر بأسلوب إيحائي، يسقط فيه القاص الزمن الماضي على الواقع الحاضر في محاولة لاستنباط حلول أو كشف لمشاكل الحاضر على ضوء النهايات المعلومة لمتن الأسطورة.

6- في بعض القصص تنطلق القاصّة من اللاوعي، لكنها تسرد بمنتهى الوعي، في قصة (عبور) تنطلق بالسرد من بعد غيبي ميتافيزيقي، وهي حالة الاحتضار أو معبر الموت، تقول:

... عندما همّ بالاتجاه ناحية الظل القابع في ركن الغرفة وجده .. باب

الباب فُتح... ولج في فرجته، وكأنه انتقل إلأى عالم آخر ... إلى بعدآخر.... ص21

نفس الاستراتيجية نجدها في نص (دون أن يدري)، حيث كان مسرح الحدث قبر وعالم برزخي وبطل ميت دُفِن حديثًا:

في غرفة مظلمة أقف وحيدًا أبحث عن اتجاه صائب للخروج.....أصرخ ويزيد طرقي، والأمل يتضاءل في نفسي، يتشقق الحائط .. لكن يظل صامدًا بظلمته الكالحة، يزيد طرقي وتنطفئ عزيمتي رويدًا رويدًا حتى أسقط خائر الأمل ممزق الأحلام، أغيب عن الوعي، فقد سقط على رأسي حجر. ص 19

7- تستخدم تقنية تيار الوعي السردية بشكل لافت، ففي قصّة (المشجب) عتبة واقعية هي صورة الأب تثير تيار الوعي عند الساردة فتنطلق بالكشف عبر طرح تدريجي لدلالات إيحائية، وهذه، كما أسلفنا، استراتيجية عند رانيا، لنكتشف، بعد ضمّ الدلالات إلى بعضها البعض، أن الساردة تعرّضت لحادثة اغتصاب من قبل والدها(زنا محارم)، فقامت بقتله، وتشرنقت بحقد ثأر لم يكتمل، ولم تستطع التحرّر من تلك الشرنقة إلّا بتمزيق صورة الأب، انعكاسه الذي بقي حيًّا في مرمى نظرها على الجدار:

" انتهى الأمر، ستظل هناك مهما فعلت، ولن تتمكّن مني أبدًا، مثلما فعلت ذات مرة في الماضي، كنت صغيرة ضعيفة مطمئنة إليك، لم أعلم أن الذئب يتخفّى في ثوب الحمل... الأب ...أخذت ثأري منك مرّة، والآن أتخلّص من بقاياك نهائيًّا". ص48

وأرى أن القصة كان ينبغي أن تقف أو أن تنتهي هنا، وأن الفقرة التالية هي فقرة زائدة أو حدث نهاية مفتعل وزائد يمكن الاستغناء عنه، لأن القاصّة خرجت به عن زمكانية القص المعاصر.

8- النهايات في قصص رانيا ثروت نهايات مدهشة، مباغتة ومفارقة: ففي قصة السيد (س) خط سير السرد هوخط وصفي بصري من البداية، ولكن النهاية تنسف ذلك الوصف البصري حين نُفاجأ من دلالات رمزية وإيحائية بأن البطلة عمياء:

خرجت من ساحة السيرك، وهي سعيدة محلّقة..... تعدّل نظارتها السوداء التي ترتديها في عتمة الليل، وترفع عصاها لتشير لعل سيارة أجرة تلتفت إليها تقلّها إلى منزلها.

9- الأسلوب: أدبي إنشائي، مطعّم بالصور الجمالية، فيه حس الفكاهة من النوع التهكّمي، بعض القصص كانت تحمل وعظ وعبر، فكان السرد التقريري ضرورة بين فراغات السرد الأدبي (الوشم- ندوب- شهامة- توحيدة- الحب .. حرام- جبن تركي).

10-  الجمال: استخدمت الجمال النصّي بنوعيه، البلاغي وعلم الجمال، أختار بعض الصور الجمالية التي وجدتها متوفرة بكثرة في قصّة (اغتراب):

- أرتشفُ بعض الحنين الملغّز من الكابتشينو الدافئ (استعارة)

- أذوب في خفقات الكريمة وفي قطرات الكحل السائل على وجنات الغجرية المليحة

- ماضيك مرّ كقهوتك (تشبيه)

- أمامك طريق طويل يمتصّه الضباب في أحشائه مخلّفًا وهمه الأبيض، تبدّده أشعة شمس هاربة ضلّت طريقها، أشعة ذابلة تصارع من أجل الحياة (علم جمال)

- فنجانك ملئ بالرموز والصور وأكثر ما يدهشني فيه كتلة السكرالتي تجمّعت حول صورة وجه وعلم وبعض قطرات تشبه قطرات الدماء التي تقطر من قلب ممزق يقبع في قاع الفنجان (علم جمال - تشبيه)

- أحيانًا يتركنا الكلام، ويرحل عندما ييأس من جدواه (استعارة)

- يغترب في غيرنا تاركًا لنا عجز الأسرار وحيرة القرار (استعارة)

- أوراق تاريخنا المصفرة تتساقط كأوراق الشجر في خريف العمر (تشبيه) 

انتهينا من الدرجة الأولى (الجانب الرمزي) من درجات حمولة الكلمة على سلّم العمق النصّي عند رانيا ثروت في نصوص هذه المجموعة، وسننتقل إلى الدرجة الثانية وهي:

المستوى أو الجانب السيكولوجي:

ونميّز فيه المداخل التالية:

1- المدخل العقلاني:

ندرس فيه أشكال التناص وأنواعه، تبعًل لثلاثية التناص الذرائعية التي تبحث عن:

- تناص الكاتب مع تجربته الحياتية الذاتية: فشخصيات الفانتازيا الداخلية هي شخصية الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة، وهي نابعة من وجدانه. ورانيا تنطلق من ذاتها بكل ما تكتب، من وجدانها حينما تطرح قضايا الإنسان في صراعه في مسرح الحياة بين خيرها وشرّها، بين الشقاء والسعادة، بين الأمل واليأس، بين النجاح والفشل، تنطلق من ذاتها المتألّمة وهي تشق طريقها باتجاه التشافي، من عاطفتها الجياشة قبالة انكسار قلب طفل أو فتاة أو شيخ، من غضبها حيال مظاهر التخلف والظلم بأنواعه، من ثقافتها المختزنة في هوة الإدراك، فتجيد قراءة كل الدلالات الواردة إليها، تتفاعل مع أدق الظواهر وتصيغ منها قصصًا مفعمة بالجمال الرمزي، تحترم عقل القارئ فلا تبخسه حقّه من الفهم، وتنأى عن العبث فلا تلغز ولا تبهم ...

- التناص مع التجارب النصّية السابقة: رانيا ثروت متناصة مع الأديب الدكتور شريف عابدين تناصًا ميثولوجيًّا، في إحلال الأسطورة على أرض الواقع، وتحويل المتن الحكائي للأسطورة إلى بنى حكائية تقيم عليها معمارها القصصي الفني، شغوفة مثله بحل مشاكل الحاضر بالاعتماد على نتائج وحلول الماضي.

وهي متناصة ثيولوجيًّا مع نصوص الكتب السماوية.

في قصة كفر الكنبة تناصت مع (قصة الطوفان) في القرآن الكريم، في قصة باستيل تناصت مع قصة السحرة من قوم موسى، في نص (دون أن يدري) تحاكي حال الميت ما بعد الدفن، وفي نص (عبور) تحاكي حالة الاحتضار، وتتناص مع قصة أم موسى وفرعون واليم:

الموت يدق...لا تفكر مرتين... اقفز في اليمولا تنتظر.. ذراع فرعون سكين.. ودموع فرعون سموم... والأم المغلوبة تلعن في صمت.... ص 22

 في قصة شكوك مؤكدة: نتخذ من الجبال بيوتًا ص 31 تناص بلاغي مع النص القرآني في سورة النحل، وتناص قصصي مع قصة أهل الكهف

2- المدخل التقمصي:

بعض الحكم والمواعظ والعبر التي تطرحها القاصة رانيا ثروت في نصوصه:

- ويل لأصحاب العقول الرحبة من أصحاب العقول الضيقة

- في بقعة الضوء تنكشف ألاعيب الحواة كلها

- عند النهاية تتساوى كل الأشياء

- الكبار يعرفون ما يفعلون .. هم على حق دائمًا.

- المحراب الذي ينام فيه النسّاك يصبح مدنّسًا، لايصلح مكانًا للصلاة.

أمّا الدرجة الثالثة في سلّم العمق النصي فهي الجانب الفلسفي، ونجدها في التساؤلات والجدليات الفلسفية المثارة في:

3- المدخل السلوكي:

لرانيا ثروت فلسفتها في الحياة وأصل الوجود وأصل الأشياء فهي دائمة التساؤل عن ذلك، وأيضًا هي دائمة البحث عن إجابات ترتاح إليها نفسها، لكن طبيعتها القلقة والحريصة على تحرّي الحقيقة تجعلها لا تقرّ على قرار، بل تبقى لاهثة وراء صرخات الأسئلة عن جدوى الحياة في عالم مسكون بالظلم والطغيان والمعايير المقلوبة، حين يسكن إنسان بطيبة الملائكة على أرض يحكمها الأباليس، من الطيبعي أن يصبح مسكونًا بالخوف من كل شيء، ومن المعقول أن ينبت له جناح يطير فيه إلى عالم الملائكة، من قصة (كسور):

أجنحة نبتت لي أجنحة ... لم أعد أسمع زملائيولا رئيسي ولا أي صوت، وجدتني أبتسم وأضحك، أنا سعيد لأول مرة، إنها السعادة بالتأكيد، فهو شعور لم أخبره من قبل. ص 52

رانيا ثروت ممسوسة بفلسفة الموت، لذلك نراها دائمًا تحاول التسلّل إلى غيبيّاته، فتخترق الجدر الفاصلة بينه وبين الحياة، قد تقف في المعبر، وقد تتابع إلى القبر، لكنها بكل الأحوال لا تعتبر غولًا ابتلع ميت، بل تبقى على تواصل مع انعكاس ذاك الميت على صفحة الحياة، فالموت عندها، كما الحياة، ظواهر ينبغي الاستقصاء عنها للوقوف على حقائقها ودراسة الجدوى المتوخاة من وجود الإنسان فيها، وما هو دوره المنتظر الذي ينبغي أن يمثّله على مسرحها حتى ينال تصفيق الملائكة؟!.

الجانب الأخلاقي: الدرجة الرابعة في سلّم العمق النصّي.

التزمت الكاتبة بالجانب الأخلاقي العربي فلم أجد اي تجاوز سيمانتيكي أو إيحائي في حمولة مفرداتها المكثفة، بل التزمت في كل القصص الدعوة إلى الارتقاء والسمو الأخلاقي بالتزام قيم الخير وقلع عين الشر والرذائل.

الجانب الاجتماعي: الدرجة الخامسة في سلّم العمق النصيّ، تناولت القاصّة العديد من الموضوعات الملقية على أرصفة المجتمع، يتعثر بها المهمشون من النساء والأطفال والكهول، بعضها قضايا كبرى بحجم وطن، وبعضها مسكوت عنه كزنا المحارم، والعديد من الموضوعات اترك للنقد الثقافي الخوض في هذا السياق الخارجي باستفاضة، فاهتمامي ينصبّ حسب المنهج الذرائعي على النص الوليد بدلالاته الإيحائية المنبثقة من شكله الجمالي الخارجي ومضمونه المخبوء، أي أن النص بكيانه هو الأساس والجوهر الذي يهتم به النقد الذرائعي بمستوياته التحليلية العميقة.

 ***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

........................

[1] تحليل نقدي في أدب الفانتازيا والخيال العلمي – دراسات ذرائعية للناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي- دار المفكر العربي للنشر والتوزيع - القاهرة ط1 -2020 -ص14

[2] فن السلويت هو فن الظل أو فن الصورة الظلية وهو أحد أنواع الفنون التشكيلية التي تعنى بانتاج اللوحات الفنية على هيئة ظلال الأشياء دون وجود تفاصيل وصفية تدل على الملامح الحقيقية لها- مجلة سطور 2019ديسمبر 23

[3] السوستة هو السحّاب الذي يستعمل من أجل ضم قضعتين من القماش بشكل مؤقت، ويأتي أيضًا بمعنى النابض، النوابض التي تستمل في صنع مراتب الأسرّة والكنب

 

في المثقف اليوم