قراءات نقدية

تجليات اللون والرسم بالكلمات.. قراءة في شعر (حسن فتح الباب)

إن علاقة الشاعر بالألوان كرموز فنية / إيحائية لا تقوم على النقل المباشر أو محاكاة أشكالها كما هي في الطبيعة، وإنما تمثل الألوان ـ مع غيرها من عناصر البنية الشعرية ـ أدوات من خلالها يشكل أبعاد تجربته، إذ يعيد النظر في علاقتها ببعضها من جهة، وعلاقته بها في إطار التعبير عن رؤيته وتجسيد دلالتها من جهة أخرى، وذلك بكشف إيحاءاتها لا برصد أشكالها، ومن ثم يكون استخدامه لها بقدر تحسبه عبقريته، ومن زوايا يختارها لتكون في النهاية لبنة فنية في تشكيل رؤية شعورية متميزة.

" فاللون يثير لدى الشاعر طائفة من الذكريات، مما يجعله مسوقاً إلى ابتكار رمز موائم لدلالات تلك الذكريات المستمدة من اللون الذي يستمده من الطبيعة رابطاً إياه بحالته النفسية، بذلك يتجاوز الشاعر الواقع إلى نوع من التجريد في الشعرية الرمزية، إذ يؤدى اللون دوراً يفوق دلالته الوضعية، حيث صار عضواً حياً في وحدة النص، لاسيما إذا اجتمع مع اللون صوت وحركة، فلا تتحقق للرمز فائدة في مفردات معزولة، بل في شكل كلي تتآزر فيه الرموز الجزئية “. (1)

و تعامل "حسن فتح الباب" مع الألوان بكل دلالاتها الإيحائية وإمكاناتها التعبيرية قد ساعد على ثراء جوانب الشعرية في تجربته من ناحية ، فضلاً عن توسيع دائرة الفضاء النصي من ناحية أخرى ، وذلك باستعمال دوال متعددة المراجع الدلالية نتيجة للرموز و الإشارات الصادرة منها " ومتابعة الظاهرة يمكن أن يكشف عن نواتج دلالية لا يمكن لغير الألوان أن تنتجها ، وهو ما يحتاج عند القراءة إلى قدر واسع من الرؤية الإدراكية التي تتمكن من استيعاب الظواهر في كليتها أو جزئيتها ، ومتابعة خطوطها الممتدة أو المتقاطعة ، ومدى توافقها مع المردود المعجمي أو العرفي ، ومدى انتقالها إلى دائرة الإسقاطات الرامزة " . (2)

هذا ، وتشكل مفردات اللون جزءاً كبيراً من معجم "حسن فتح الباب" الشعري  ،  و النظر في أعماله الشعرية يكشف عن الغلبة التعبيرية للون الأسود ، إذ يعد أكثر الألوان تردداً في شعره ، إلا أن دلالات  اللون تتغير تبعاً لمقتضيات التجربة ومدارات السياق وإشعاعات الأثر النفسي التي " تحدث توتراً في الأعصاب وحركة في المشاعر تدفعها الحاجة إلى استكشاف الصورة أولاً ، ثم إثارة المتلقي ثانياً ، فالشعر ـ إذن ـ  ينبت ويترعرع في أحضان الأشكال والألوان ، سواء كانت منظورة أم مستحضرة في الذهن في نسق خاص تستمتع الحواس باستحضاره " . (3)

* وصدارة " اللون الأسود " لقائمة الألوان في شعر" حسن فتح الباب" تشير من زاوية ما إلى أبعاد علاقة الشاعر بالواقع المادي أو المعنوي الذي يعيشه إذ امتد " السواد " إلى جانب كبير منه، وصبغه بلون الحزن واليأس، وأضفي عليه مسحة من الكآبة والتشاؤم، ومن ذلك قوله:

لم تتشح لمزارها غير السواد

فرداؤها أبداً سواد

من قبل أن تمتد ألسنة الحريق

ومن الشروق إلى الشروق

أبداً سواد   (4)

إن الوقوف على دلالة اللون في هذه الدفقة الشعرية يمنح التجربة ثراء ً إيحائياً باشتمالها أفكاراً ورؤى أعمق من الدلالة اللغوية ، إذ تؤدى وظيفة نفسية تزيد الصورة جلاء بالنفاذ من التشابه الحسي " الرداء الأسود " إلى الإيحاء بالبعد النفسي أو الشعوري الحزين الذى يغمر الكون كله " من الشروق إلى الشروق " وإن كان الشاعر لا يقف أمام هذا التماثل الخارجي إلا بمقدار ما يعقد الصلة بين الطرفين ، لتؤول العلاقة بينهما إلى اتصال نفسي ينفذ من خلاله إلى الإفضاء بمكنون الذات ، حيث الحزن الضارب جذوره في الأعماق " أبداً سواد " .

فالسواد نقطة الثقل في هذا التحول وقد أدى دوره الدلالي بأصل المواضعة، أو بما فيه من هوامش إضافية أضفت على السياق كله لوناً من الحزن والكآبة، وإذا كان اللون قد انصب أساساً على واقع خارجي مادي هو " الثياب"، فإن بعده التأثيري قد امتد إلى الداخل أيضاً؛ على معنى أن الذات والموضوع قد اجتمعا في منطقة واحدة هي (السواد).

أما عن علاقة اللون الأسود بالمعنويات الداخلية فتصدر عن ارتباط اللون بالتجربة الشعرية نفسياً ودلالياً، ذلك أن لكل لون تردد خاص به، وكل تردد له تأثير حيوي على معنويات الإنسان.

أطوف بين القلوب الخواء المضاءات

بالنفط والشبق الأسود المتواري

وراء البطون التي انتفخت

بالحوانيت والبنك والإفك    (5)

في إطار تجربه حية أسيانة كابدها الشاعر إزاء اغترابه عن مجتمعه ومقاومة استلاب الروح وتشيئها، لا يجد أمامه إلا الرحيل، لكن المؤسف أنه رحل عن واقع منبوذ مرفوض إلى واقع أشد استحقاقاً للرفض حيث الخوض في الوحول والآثام، ويعد " الشبق الأسود " بؤرة استقطاب الدلالة ومحور تمركزها، فالقلوب المظلمة مضاءة بالنفط والشبق الأسودين، والنفوس الخواء منتفخة بالإفك، والشاعر يعمد إلى هذه الازدواجية قصدا ً إلى التمايز وبيان المتناقضات.

ومن ثم فإن الوطن هو المنفي والمأوى، فنحن مقاومون شهداء، ووطننا منفانا في الإقامة والرحيل، والأنا هو أنت ونحن هو الوطن ظلم وعدل، قهر وملاذ، وهو مرفأ وجحيم، وبهذه المفارقة تتضح أبعاد الرؤية المفعمة بالأسى الناتج عن تردى أخلاقيات البشر مجسداً في ضياع القيم والمبادئ استجابة لنزق الشهوة الرخيصة.

***

دكتور/جمال فودة

عضو الاتحاد الدولي للغة العربية

كاتب وناقد وأكاديمي مصري

........................

(1) مصطفي السعدني: قراءة المعنى الشعري / 31

(2)  يوسف نوفل: الصورة الشعرية والرمز اللوني / 53

(3) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية / 42

(4) من وحى بور سعيد / 41

(5) الأعمال الكاملة: المجلد الثاني / 35

في المثقف اليوم