قراءات نقدية

الالتزام في الأدب: خلاصات

بعد سلسلة المقالات التي ناقشنا فيها قضيَّة (الالتزام في الأدب)، بتنظيراتها وتطبيقاتها التي شاعت خلال القرن العشرين، يمكن استخلاص الآتي:

1- إنَّ المفهوم اللُّغويَّ للالتزام- في الأدب وفي غير الأدب- والدَّعوة إليه، قديمان، منذ فلاسفة (الإغريق).  أمَّا المصطلح الفلسفيُّ لهذا المفهوم، فحديث.

2- من أبرز المدارس التي تبنَّت الالتزامَ في الأدب خلال العصر الحديث مدرستان: (الاشتراكيَّة)، و(الوُجوديَّة).  على أنَّ الالتزام في المدرسة الاشتراكيَّة كان أشبه بالإلزام منه بالالتزام، على حين حرصت الوُجوديَّة على المناداة بحُريَّة الأديب الفرديَّة، في إطار الالتزام الإنسانيِّ العامِّ والقوميِّ الخاص.  وقد تنامت فلسفة الالتزام الوُجوديِّ في الأدب، حتى كان الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، 1905- 1980) هو مُروِّج مذهبها وناشره في العالم في القرن العشرين.

3- كان الوُجوديُّون، في ربطهم الإنسان بوجوده في العالم، لا يرون مفرًّا من التزام الأديب بقضيَّةٍ يُعالجها في أعماله.  ولا يكفي شعورُه بالتعاطف مع تلك القضيَّة، بل هو مطالبٌ بنقل شعوره ذاك إلى حيِّز التعبير، مهما واجه من المصاعب والمعوِّقات.

4- لم يكن (سارتر)، في كتابه «ما الأدب؟»، يرى وجوب الالتزام على الشاعر، بل يخصُّ الناثر الأدبيَّ فقط بوجوب الالتزام؛ لأنَّ طبيعة الشِّعر ولغته الفنِّـيَّة هما كطبيعة الموسيقى والرسم ولغتهما الفنِّيـَّة، إنْ أُخضِعتا لالتزاماتٍ خارجيَّةٍ، فسدتا، هويَّةً جماليَّةً ووظيفة.  أمَّا أصحاب المذهب الاشتراكي، فلا يُعْفُون الأديب من الالتزام، شاعرًا كان أو ناثرًا.

5- ليس من مفهوم الالتزام الوُجوديِّ في الأدب التحوُّل به إلى وَعْظٍ وإرشادٍ أو إلى توجيهٍ مباشر، بل إنَّ الالتزام مشروطٌ بالمحافظة على الأُسُس الجماليَّة والفنِّـيَّة في العمل الأدبي، بحيث يستطيع الأدب أن يكون فنًّا جميلًا، ذا طبيعةٍ خاصَّةٍ، مع القُدرة على أداء وظيفته في الحياة.

6- لعلَّ سيطرة السياسة في العصر الحديث على مجريات كثيرٍ من الأمور في الحياة، هو ما جعل الالتزام يكاد يكون التزامًا سياسيًّا مَحْضًا؛ لأنَّ المشكلات- وإنْ بدت اجتماعيَّةً أو اقتصاديَّةً أو حتى فكريَّةً في ظاهرها- تكمن السياسة من ورائها غالبًا، وتكون المحرِّك الأساس إلى اتجاهاتها.

7- إنَّ وظيفة الالتزام في الأدب وقيمته تكمنان في حُريَّة الأديب لاتخاذ مواقفه من قضايا عصره. وهي مواقف الرائد الصادق، الذي يتطلَّع إليه شَعبُه، مُذ أناط بنفسه عمليَّة التعبير؛ كي يكون النذير بالمخاطر، والهادي إلى كيفيَّة التغلُّب عليها.  بَيْدَ أنَّ الكاتب مطالبٌ قبل ذلك، ولتحقيق هذا الهدف النبيل، بتمهيد السُّبل.  ومن تلك السُّبل امتلاك وسائل الإعلام، بشتَّى أنواعها، للوصول إلى الجماهير، وبخاصَّةٍ أوساط الناس منهم.  ومن ثَمَّ التفكير في كيفيَّة توحيد عناصر الناس المتباعدة في مجتمعٍ موحَّدٍ متجانسٍ، يُشْبِه الجسد الواحد. وقد ناقش (سارتر) هذا الإشكال واقترح له الحلول في كتابه «ما الأدب؟».

8- كان من الشُّعراء المحْدثين الذين اعتنقوا المذهب الاشتراكيَّ الشاعر المصري (صلاح عبدالصَّبور، -1981).  صحيحٌ أنه تقلَّب في حياته بين اتِّجاهاتٍ عِدَّة، ولكنَّه بقي أخيرًا مخلصًا للمذهب الاشتراكي.  وقد تمثَّل اتجاهه هذا في مسرحيَّته الشِّعريَّة «مأساة الحلَّاج»، التي عبَّر فيها عن انتمائه الاشتراكي؛ مصوِّرًا الفقرَ والعَوَزَ ونتائجهما، في تشكيل الفرد والجماعة، عارضًا دَور الفنَّان في مجتمعه، عَبْرَ شخصيَّة (الحلَّاج، -309هـ= 922م)، الذي لا يكتفي بالتغيير بلسانه، بل يُكافِح بنفسه، ويُضحِّي بها في سبيل قضيَّته، التي نَذَرَ حياته من أجلها.

9- في ميدان (النَّثر الأدبي) جاءت مسرحيَّة (سارتر)- فيلسوف الوُجوديَّة ورافع شِعار الالتزام في الأدب- بعنوان «الشيطان والرحمن»، حاملةً وجهَين: أحدهما يمثِّل المبادئ الوُجوديَّة، والآخَر يمثِّل الالتزام الوُجودي في الأدب.  مع عَرْضٍ لصراعاتٍ مختلفةٍ حول قضايا السياسة والاجتماع والفكر، وكشفٍ لمعوِّقات الالتزام، وطُرُق الانتصار على تلك المعوِّقات.  لتنتهي المسرحيَّة بدعوةٍ صارخةٍ إلى الوُجوديَّة؛ بحُسبانها مُخَلِّصًا وحيدًا للإنسان في العصر الحديث.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

 

في المثقف اليوم