قراءات نقدية

وقفة مبحثية مع قصة (الصندوق المستطيل) لإدغار ألن بو إدغار ألن بو

استبدالات البناء القصصي وأسانيد الحبكة المخاتلة.. دراسة في تراث إدغار ألن بو القصصي

مهاد نظري: إن إمكانية التقانة الاستبدالية في استعمال سنن العوامل والصياغات في ممارسة التشكيل في منحنيات المتن القصصي، كانت من الوازم الدلالية والبؤروية التي من شأنها حفظ للنص بكامل أدواره الايحائية والقصدية، وصولا إلى ذلك الزمن المتماهي وحدود تقلبات الغاية الوظائفية المتعينة في واردات النص الحكائية والخطابية.لذا علينا ونحن نهم بقراءة نصوص (إدغار ألن بو ) تحديدا التريث في مجال تشوفاتنا التمهيدية لموضوعة النص السياقية وشواهدها الملتبسة في محاور الحكي.تواجهنا قصة (الصندوق المستطيل) بهذا وبذلك النحو من ملامسات مقدمتنا الاستهلالية في معرفات القيمة الجمالية والبنائية والدلالية في أدب بو القصصي. إذ ترانا نتعرف منها على ملامح خاصية إيحائية من منظومة (الاستبدال العاملي) وهذا النوع من خصوصية الاستبدال ذا أسلوبية مارسها بو في العديد من تجاربه القصصية السالفة، التي اتخذنا منها مواضعا للدراسة والمعاينة سابقة.غير إن الإمكانيات الوظائفية في كل حالة موضوعية جديدة، تفرض لذاتها شكلا خاصا من الأدوات الضمائرية والنحوية والاشارية والزمانية والمكانية والعاملية والتمثيلية إجمالا.لذا تجد أن المرحلة الأولى من بنية القص السارية على حال لسان السارد العليم، تنتج لذاتها ذلك الوازع الادواري المنقسم بين (شخصية ــ سارد) وبما ينسجم مع ملامح أوجه الأسباب التلفظية والتخاطبية من ردود وتوجهات خاصة في مسار الأفعال والصفات والزمن المحكي الممتد فوق أرضية متقلبة في سكناتها وتواتراتها المكانية.

ـ الزمن إيقاع تصاعدي في سياق الفعل الشخوصي

تبادرنا المؤشرات العتباتية من مبنى الاستهلال النصي، بذلك الصوت الرائي الذي راح يختزل المفكرة الزمنية ـ المكانية في ذاته، بالموازاة مع التوكيدية عبر رحلته على ظهر السفينة قبل موعدها بعدة أيام.وهذا الأمر ما جعله ذا صورة متوترة في موقفه من غرابة تأجيل موعد الرحلة على ظهر السفينة، كما أن موعدها من خلال ذلك القبطان المدعوـ هاردي ـ.وعلى هذا النحو الغريب من الشخصية العاملة هو على ما يبدو عليها أنها تتعجل حدوث الأمور، حتى وإن كانت أحيانا في غير ضرورتها، هكذا نعاين الوحدات قاب قوسين: (منذ سنوات خلت قمت برحلة بين شارلستون ومدينة نيويورك على ظهر سفينة أسمها ـ الاستقلال ـ بقيادة الكابتن هاردي.كان مقررا أن نبدأ رحلتنا في الخامس عشر من حزيران، إذا كانت حالة الطقس مؤاتية.. صعدت قبل موعد الرحلة بيوم واحد إلى السفينة لأتعرف على غرفتي أجري فيها بعض الترتيبات عرفت أنه سيكون على ظهر السفينة عدد كبير من الركاب بينهم كثير من السيدات خلافا للمعهود في أمثال هذه الرحلات. / ص105 النص القصصي) هناك ثمة بديهيات قد يظنها القارىء في بادىء النص، خصوصا وأنها تتعلق ببداية قصصية شكلية العرض ليس إلا:فما كان واردا في عتبة المستهل يبدو عليه بوضوح، أنه حالة نمطية من غاية استهوائية لدى ضمير السارد الشخصية الحاضرة واللاحاضرة في النص، غير إن مهام واصلات سردها المؤشري قد يعني لنا الكثير من الاعتبار والنمو والتلميح إلى ملامح حسية في مبنى المضمر من طبيعة السرد.الشخصية يتابع وجود قائمة أسماء المسافرين في رحلة السفينة، وقد لمح أسم الفنان ـ وياط ـ ذلك الرسام الشاب صديقه الأعز منذ عقود من زمن الدراسة: (وقد أسرني وجود أسم السيد كورنيلوس وياط على اللائحة./ص105 النص القصصي) كما أن جملة التفاتات الشخصية الساردة، يمكن ملاحظتها حول زخم وجود أسماء السيدات فوق مكتوب اللائحة، الأمر الذي لم يعتد لمثله في رحلاته السابقة.طبقا أن من ملامح الخيوط الأولى في النص ما جعلها ـ بو ـ محتكمة اتصالا ومحددات المتن النصي، أي كحال ما تعنيه كل هذه الحشود من النساء في هذه الرحلة تحديدا، كذلك ما صار معولا عليه من قبل الشخصية في ذكر أسم ذلك الفنان الشاب وسرد مزاياه وصفاته الخلقية ومدى نبوغه في فن الرسم.أعتقد من جهتي الشخصية أن ألن بو يسعى منذ أول بواكير نصه إلى فرز وشد خيوط علاقات نصه العاملية، حتى وأن كان أمرها لحد الآن محض آلية عرضية في غاية الاستعمال التقديمي.

1 ـ العلاقة المكانية وإشكالية المكان الإضافي:

تزعم لذاتها الجملة المكانية في فضاء النص، ذلك الوازع المأهول بأشد التساؤلات والقلق والحيرة، وأحيانا الترقب لذلك المكان الموصوف بـ (المكان الإضافية!) ومن ثم الإصرار من قبل الشخصية الساردة حول كهنها وما كيفية دورها في الإنابة العاملية من قبل ساكنيها.لقد حجز الفنان وياط وزوجته وأختيه ثلاث غرف: (كانت غرف السفينة واسعة، في كل منها سريران الواحد فوق الآخر.ومع أن أسرة السفن ضيقة عادة يستحيل أن الواحد منها لأكثر من شخص.فلم أفهم تماما حاجة الأشخاص الأربعة إلى ثلاث غرف./ص105 النص القصصي) ويتسع مسار (الإشكالية في ذلك المكان الإضافي؟) أو لربما هو حالة قد لا تستدعي من السارد الشخصية الاهتمام بها إلى هذا الحد، خصوصا وأن للرسام أعمالا مثيرة في فن الرسم، قد يكون مؤكدا بأن لهذه الغرفة خاصية ما لضم هذا النوع من أعمال الفنان، لذا راح يبقي لنفسه وزوجته غرفة لهما وإلى أختيه غرفة، قد تكون هذه بالضبط ما يود السارد الشخصية الوصول إليه من إجابة حاسمة حول مؤشر تساؤلاته الملحاحة حينذاك: (لم يكن الأمر يعنيني بالطبع..لكن ذلك لم يصرفني عن عزمي على إكتشاف اللغز..أخيرا توصلت إلى نتيجة جعلتني استغرب كيف لم أكتشف السر بسهولة ـ ترافقهم خادمة ولا شك ـ قلت مخاطبا نفسي./ص105 النص القصصي) ثمة أسانيد أخرى كانت تدعم حجج الشخصية الساردة بأفكار ناتجة عن مزاج مضطرب أو أنه غير مهيأ سببيا إلى معرفة حقيقة الأمر.لقد حاول إدغار أن يضع قارئه في الاتجاهات المخمنة من حاصلية النتيجة، ولكن فاعلية التمويه كانت أقدر على حجب جل الحلول المقترحة من قبل سارده العليم.هناك فئة من الكتاب ممن يمارسوا أفعالا غريبة في أبطال رواياتهم أو قصصهم، فعلى سبيل المثال كان (وليم فوكنر) ومن خلال رواياته وقصصه القصيرة، لاحظنا بأنه لا يثق برواة نصوصه، كحال قصة بطله توماس سوتبن، فقد كان فوكنر يدفع قراء نصه إلى إعادة تشكيل القصة بأنفسهم.وإن قصة سوتبن التي يمكن أن تكون أقرب إلى حقيقة شخصيته ووقائع حياته الفعلية ربما كانت هي التي يقوم برويها شخص غريب تماما لا يعرف سوتبن مطلقا./ المصدر: قراءة الرواية ـ روجر . ب .هينكل .وأنا أقول من جهتي مؤكدا لعل السارد الشخصية أحيانا لا يبدو أمينا في نقل كل تطلاعاته واتساق مشاهداته التصديقية والتخمينية، فلربما من جهة ما كان ذلك الفنان يحلو له الجلوس في أواخر الليل وحيدا مع لوحاته التي جلبها معه على ظهر تلك السفينة، أو لربما كانت تربطه علاقة حميمية مع الخادمة ذاتها بعيدا عن أنظار زوجته القادمة معه في الرحلة ذاتها وفي الغرفة التي تجمع الاثنان مع بعضهما البعض.لذا ليس من المؤكد أن يضع ذلك الفنان بعض من لوحاته التي لم ينتهي من رسمها داخل غرفة تدافعها الأمواج من كلا الجهتين، لأجل أتمامها على أحسن وجه؟: (كنت أعرف أختي وياط معرفة جيدة..كانتا فتاتين حلوتين ذكيتين:أما وياط فقد كان حديث العهد بالزواج ولهذا لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته.لكم تحدث في حضوري بطريقته الحماسية المعهودة.كان يصفها بالجمال الخارق وسرعة البديهة والمهارة، لهذا كنت شديد الرغبة في التعرف عليها./ص106 النص القصصي) .

2 - الوظيفة التكميلية في التركيز وجلب الأطراف النصية:

أن ما يمكننا ملاحظته في أسلوب القص لدى ألن بو، هو الشروع بعملية (الوظيفة التكميلية) تتبعها لاحقا المؤديات الاستخدامية في دلالة (التركيز) وصولا إلى زمن وحدات (جلب الأطراف النصية) بما معناه خلوصا، أن بو يستثمر جميع العلاقات الطرفية المخبوءة في خلفيات النص كحال الوحدة (كانت أختي وياط) أو وحدة (كان حديث العهد بالزواج) أو الأخرى (لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته) فمن شأن هذه الوحدات مثالا، هو التهيئة أو استكمال غائية التركيز حول الأسباب العلائقية التي توفر إلى زمن الحبكة ذلك الشد الذروي عندما تتوفر لاحقا الجملة النادرة من فعل التبئير أو العقدة النصية.إذن السارد كان يعلم بأن زوجة وياط على درجة كبيرة من الجمال وأيضا كانتا أختي وياط على درجة من الذكاء والفطنة، لهذا السبب فهو يبحث عن فرصة استكمالية تتيح إليه التركيز في جلب الأطراف المتكونة من وياط وأختيه مع ما قيل عن جمال زوجته من خلال وياط زوجها، وهكذا تتم عملية الربط والفرز والمقارنة والخلوص إلى النتيجة المقنعة بأن أسرة وياط متكاملة في مظهرها الخارجي والداخلي حتما: (بعد عشرة دقائق من وصولي أطل وياط وأهله ـ الأختان والعروس، وبدا لي أن وياط يجتاز إحدى نوبات تجنب الناس.كنت قد اعتدت مثل هذه الحالات من صديقي، لذا لم أعرها أي اهتمام.أما هو فلم يحاول أن يقدمني إلى زوجته ـ فاستدركت أخته ماريان الأمر، وكانت فتاة جميلة جدا وذكية ـ وقدمتنا الواحد إلى الآخر بكلمات سريعة ـ كانت السيدة وياط تضع على وجهها قناعا محكما./ص106النص القصصي) .

3 ـ مزايا حجب الهوية في مجريات أفعال القص:

يحاول القص إخفاء المؤديات السردية التي تتضمنها العوامل الشخوصية في زمن تماثلات الأحداث الفعلية.إي بمعنى ما هناك إشكالية ما في الأدوار العاملية تحديدا، خصوصا فيما يتعلق والشخصية وياط وسلوكياته المتغايرة إزاء نفسه وصديقه والناس، فهو على ما يبدو شخصية مأزومة في محدثات واقعها الجديد الذي يصبو على أنه ليس ذلك الشخص الذي يعرفه السارد المشارك:أهناك خطب ما في الأمر؟كان السارد الشخصية ممن يعرف وياط كونه مرحا وشفافا في كل أحواله الخاصة والعامة فماذا قد جرى؟.ومن أجل الإحاطة بمتغيرات هذا الفنان المرح من قبل أنا السارد المشارك.نتعرف في فقرة لاحقة على مواجهة السارد الشخصية لزوجة وياط وجها لوجه، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في نفسه، وذلك لكون ما تعرف عليه في وضع السيدة وياط، راح يخالف مزاعم زوجها الفنان الذي كان يزعم لها كل ملكية ذلك الجمال الآسر: (عندما رفعت القناع لترد، على تحيتي لم أتمالك نفسي من الدهشة ـ ولو لا أن تجاربي علمتني أنه ليس من الحكمة التسليم بآراء وياط في كل ما يتعلق بجمال النساء لكان تعجبي يفوق هذا الحد.كنت علم تام بأية حرارة يندفع صديقي في إغداق الأوصاف المثالية حين يكون الموضوع متعلقا بالجمال..في الحقيقة أنني رأيت السيدة وياط عادية جدا إن لم أقل بشعة أو على الأقل قريبة من البشاعة./ً106النص القصصي) وما يتكرر عادة في ذهن السارد المشارك هو عدم ملاحظته على وجود الخادمة مع قدوم الأسرة في رحلتها، وهذا الشك بدوره ضاعف من يقين الشخصية بأن هناك من إشكالية ما في علاقة وياط بزوجته هذه، وهذا الأمر ما قاد ظنه أيضا بعدم جدوى تلك الغرفة الإضافية: (بعد قليل وصلت إلى الميناء عربة تحمل صندوقا من خشب الصنوبر ذا شكل مستطيل.وبدا لي أن هذا الصندوق هو الشيء المنتظر..بعد وصوله أقلعنا فورا ولم يطل بنا الوقت حتى أصبحنا في عرض البحر./ص107 النص القصصي) .

4 ـ غيبانية محتوى الصندوق وتضاليل العنوان البريدي:

في مسار مركبات البناء القصصي يمكننا الوقوع على أساليب أكثر اختزالا فيما يتعلق وخصوصية المساحة الضيقة للقصة القصيرة.ولكننا لا يمكننا العثور على قصة قصيرة دون مضاعفة رمزية أو إيحائية أو حتى مونتاجية، لكن بشرط عدم الإخلال بضوابط الزمن المضغوط للنص نفسه، وما يتيحه هذا الضغط من خطية ملغزة في موضوعة القصة.قد تكون عوالم الروايات واسعة من حيث الانفلات الزمني والمكاني والشخوصي، ولكنها من ناحية الموضوعة وأبعادها الدلالي لا تقترب شبرا واحدا من صعوبة وعقدة الموضوعة القصصية القصيرة، ذلك لأن الخط السردي في القصة يحتمل ملازمات فجائية في أحوال التكوين النصي، إذ لا يمكننا قراءة قصة دون عملية التفكر والتوقف حيث تأملها الذي يتطلب زمنا يتعدى قراءة فصلا كاملا في رواية ذات القطع المتوسط.على أية حال نعود إلى موضوعة قصة (الصندوق المستطيل) لنفهم من وراءه بعض المؤشرات التقديرية في ما يحتويه من حالات فعلية وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تخمينات ـ السارد الشخصية ـ حيث ظن ما فيه حينا نسخة من لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو وحنيا آخر راح يفكر في سبب عدم وضع الصندوق في تلك الغرفة الإضافية: وأنما ويا للعجب أخذ ذلك الصندوق لنفسه مكانا في غرفة وياط: (أن الدهان الذي أستعمل لكتابة العنوان كان يشيع رائحة مزعجة، لا بل رائحة أحسست أنها كريهة.لقد كتب على الغطاء بحروف كبيرة الكلمات التالية: (السيدة ديليد كورتيس ـ الباني ـ نيويورك، بواسطة كورنيلوس وياط، هذا الوجه إلى فوق، الرجاء نقله بعناية؟./ص107 النص القصصي) ما ينبغي علينا ملاحظته هنا أن السارد الشخصية كان يعلم بأن السيدة كورتيس هي والدة زوجة وياط، ولهذا المعنى يتضح أن العنوان ليس تضليلا، وإنما كان مكتوبا بطريقة صحيحة ودالة.

5 ـ التعاقب الزمني وإبطاء صراع دائرة المحاور:

أن القارىء إلى مراحل الزمنية في النص، لربما سوف يلاحظ، بأن (الفضاء القصصي) يمر بدورة تعاقبية زمنية تتابعية بحتة، أي المحكي في النص مسبوغا بطرائق تتابعية خطية في التجسيد والتمثيل.أما فيما يتعلق و مسار النص فقد أضحى السارد المشارك وشخصية وياط في عملية صراعية دائبة.فالأول المتمثل بالسارد المشارك هو من يبحث عن حقيقة محتوى الصندوق، أما الثاني وهو وياط فهو المبتلى الأول والأخير بشعلة الصراع كله.وعلى الرغم من ظهور بعض الأعراض الغريبة على الشخصية وياط كحالات ضحكاته الهستيرية في أمسية ما مع شخص السارد، ما أدى الأمر به إلى السقوط أرضا مغشى عليه..وإمام كل هذا فلم يتوقف السارد المشارك عن محاولة البحث عن الأسباب التي تكمن وراء اعتزال الأختين وياط في غرفتهما دون الاختلاط بأحد من المسافرين، أو ذلك الخروج للسيدة وياط عند منتصف الليل: (بينما كنت مستيقظا في فراشي رأيت السيدة وياط بكل وضوح تخرج بحذر من غرفة زوجها حوالي الساعة الحادية عشرة، تسير ببطء وعلى رؤوس أصابعها ثم تدخل الغرفة الإضافية الفارغة حيث تبقى حتى طلوع الفجر، حين يذهب زوجها ويوقظها فتعود معه إلى غرفته./ص109 النص القصصي) قد يلوح لنا هذا التحول السردي المفصلي من أجزاء الوحدات السردية، بأن عملية إبطاء الصراع بصورة ضمنية، ما راح يخول مسار النص على استيعاب قيمة زمنية لا يمكن لنا سبر غورها، خاصة وأن تجليات المواقف غدت أكثر مأزومية وإلتباسا:فما وراء خروج الزوجة ليلا نحو تلك الغرفة التي كان الأحرى بالصندوق أخذ مكانه فيها طالما هو لا يحتوي سوى على لوحة العشاء الأخير ربما؟هل الزوجان منفصلان مثالا، وهذا ما يبدو ظاهرا ولو بشكل نسبي؟أليس وياط ذلك الفنان الذي عشق جمال الروح في المرأة لذا خليقا به أن يضحي بكفة عدم جمال زوجته الشكلي والرجحان إلى كفة كفة جمال روحها وأخلاقها على حد تقويم سكان السفينة؟.

6 ـ أسرار الصندوق ومصدر غرائبية الأصوات القادمة:

يمنحنا البعد الحبكوي في حكاية محتوى الصندوق ذلك التولد لمختلف الأسئلة والشكوك والدوافع التخييلية التي قد تجند لذاتها فضاءات رحبة من التوهم وإعادة التفكير بطريقة مريبة.غير أن آليات النص وفتنته بلغت حدا من التمويه والمخاتلة والانعطاف بحقيقة الدلالة إلى دائرة سجالية ظنية محتدمة في نفس السارد المشارك: (هناك شيء آخر أثار اهتمامي لدرجة كبيرة.وهو أنه خلال الليلتين المذكورتين وفور خروج السيدة وياط من غرفة زوجها إلى الغرفة الإضافية تناهت إلى سمعي ـ أصوات غريبة ـ حذرة مكبوتة صادرة من غرفة السيد وياط.بعد أن أنصت طويلا إلى هذه الأصوات وأنا غارق في التفكير فيها، نجحت أخيرا ولو جزئيا في معرفة طبيعتها.كانت ناجمة عن محاولات الفنان لفتح الصندوق بواسطة إزميل ومطرقة صغيرة ملفوفة كما يظهر بشيء ناعم كالقطن أو الصوف كي يختنق صوتها حين الاستعمال./ص110 النص القصصي) قد أبدو أني لم أتحدث عن وحدات (الزمن الترقبي؟) ذلك الزمن الخاص الذي يخول صاحبه إلى الانطلاق في مكونات تصورية هي مزيج من التوهم والتخييل واللهفة الاطلاعية الفضولية في الغريزة البشرية عامة.فحتما ما كان يتصوره هو شكلا من مصاحبة مرحلة طويلة من الانتظار والعيش في أدق دقائق التفحص لكل شاردة وواردة، فهذا النوع من زمن الفعل الترقبي يخلق لدى المرء حالة قريبة من حدوث الأشياء اللامحسوسة واللامرئية وكأنه يراها في محال من التصديق والقناعة.فالشخصية كان يتابع تلك الأصوات القادمة من غرفة الفنان، ولكنه كيف حدس بوجود هذه الوسائل (الأزميل ـ المطرقة) وللغرض التعيني ذاته في فتح غطاء الصندوق.هنا لا يبدو (ألن بو) دقيقا نوعا ما، خصوصا وأن السارد الشخصية لم يكن بجوار وياط في غرفته العلوية، حتى يتاح له التعرف على هذه الأدوات الملفوفة بالقطن أو الصوف، ثم كيف أتاح له تخمين استخدام هذه الأدوات في فتح الصندوق ذاته، وليس ربما أي شيء آخر في الغرفة يتطلب عمل ذلك.ربما أن مصدر الأصوات التي سمعها السارد المشارك هي من غواية ارتطام الرياح فوق أجزاء السفينة أو لربما هناك جرذان تتسلق أحد سقوف الغرف المبطنة؟كل هذا وذاك هي من محتملات مبحثنا النقدي، ولا يجوز إقناعنا بإختلاف حالة دخلية وحشوية لأجل تضييع الفرصة على القارىء بضرورة الفهم والتعيين على ماهية حقيقة تلك الأصوات في مصدرها الواقع.على أية حال أقول أن ورود هذه الوحدة من النص كان بالإمكان أن تتقدم عن موضعها الأخير إلى سابق البدء بالوحدة السابقة عندما بث السارد المشارك بهذا الكلام: (هذا إذا لم تكن الأصوات الأخيرة، ثمرات خيالي ـ أقول أنها أصوات تشبه النحيب أو التأوه ـ لكن بالطبع، لم تكن شيئا من هذا القبيل، أفضل أن أعتبرها أصواتا تخرج من أذني./ص110 النص القصصي) بهذا الشأن يمكننا تقبل معادلة التخمين أو التخييل للشخصية المشاركة، خصوصا وإنها دفعت عن ذاتها وساوس التوهم ورسم التصورات بطرائق أستهوائية عابثة.

- الرياح الاعصارية تغرق السفينة وتكشف سرانية محتوى الصندوق

تتداعى مبررات واسباب الشد الموضوعي في فواعل المتن القصصي، نحو حوادث قاهرة جعلت من سعادة الرحلة إلى مواجيد قلق وشجون وانتظارات إلى المزيد من الناجين من غرق السفينة، بعد أياما وليال من الاعصار والرياح البحرية المرتفعة بالأمواج السوداء.الأمر الذي جعل جميع ركاب السفينة شبه الغارقة تتلاقفهم أحواض قوارب النجاة بعيدا عن جسد السفينة الآيل إلى الغرق رويدا رويدا: (الصندوق !: صرخ وياط وهو ما يزال واقفا - لا يمكنك يا كابتن هاردي، يجب أن لا ترفض طلبي.سيكون ثقله شيئا بسيطا ـ لا شيء ـ مجرد لا شيء.بحق الأم التي حملتك ـ بحق السماء - بحق أمل نجاتك، أرجوك أن نعود للصندوق!.. بدا القبطان لبرهة وجيزة وكأنه تأثر من كلمات الفنان، لكنه استعاد ملامح الجد وقال: إنك مجنون يا سيد وياط..لا أقدر أن أستمع إليك.أجلس، أقول أجلس وإلا ستغرق القارب بنا.قف، أمسكوه ـ أقبضوا عليه ـ إنه على وشك أن يقفز إلى الماء، لقد توقعت..وفيما كان القبطان يقول هذا، قفز السيد وياط إلى الماء فعلا، وبما أننا كنا ما نزال قريبين من مكان الحطام، تمكن وياط بعد جهد من أن يمسك بجبل يتدلى من السلاسل الأمامية للسفينة./ص111.ص112 النص القصصي) من هنا نلاحظ بأن مستوى تضمينات النص قد أخذت طابع قويم من ظاهرة الرمزية المنقسمة إلى ثنائية (الملفوظ ـ تلفظ) وهذا الأخير يتفق ها هنا مع حالة الشخصية وياط التي جعلت منه يدفع نفسه نحو أعماق البحر للوصول إلى حطام السفينة، لأجل بلوغ تلك الغرفة المغمورة بالمياه، لغرض إخراج ذلك الصندوق.وهذه العملية بحد ذاتها تتوزع بين (إرادي ـ اللاإرادي ) أو حتى بين الوعي أو اللاوعي أو التعقل أو الجنون، فبماذا يمكننا تقويم سلوك هذه الشخصية ظاهرا يريد الانتحار في سبيل إخراج ذلك الصندوق ذا المحتوى الملغز..وما حدث فعلا يشبه ما قرأناه في حكايا الأساطير والفنتاستيك وقصص العجائب، عندما ظهر الاثنان (وياط = الصندوق) على حافة مقدمة السفينة ثم جعل وياط رابطا جسده بذلك الصندوق بطريقة محكمة، ثم راح يقذف بنفسه بصحبة الصندوق إلى عمق أمواج البحر غارقا.

ـ تعليق القراءة:

بهذا المنظور المرمز هل يمكننا عد قصة (الصندوق المستطيل) حكاية قصصية ذات فضاءات مغلقة ومحجوبة في نقطة الحسم الانفراجي للمضمون لها ؟أوهل حاول ألن بو على صعيد كل أحداث قصته أن يبلغنا أن قصته ذات النهاية المفتوحة لغزا ملغزا مكينا فيما يتعلق بمحتوى أسرار ذلك الصندوق؟وما مدى أوجه العلاقة المصيرية بين الشخصية وياط وذلك التابوت الخشبي؟أهي محض جملة طموحاته التي دنستها المياه فبعثرت ألوان كل لوحاته التي كان قد سلخ أياما وشهورا في نسيجها على شكل أحلام تجسد علاماته ورموزه الفنية، أيمكن أن يكون قد فضل الموت معها مصيرا؟في الواقع ربما النهاية لا تجانب أي واحدة من تساؤلاتنا بعد أن نعلم حقيقة ما قاله الكابتن هاردي إلى السارد المشارك بعد مرور فترة من زمن ممارسة حياتهما الطبيعية في المدينة: (التقيت الكابتن هاردي صدفة، وتطرق حديثنا طبعا إلى المأساة، وإلى المصير المؤلم الذي لاقاه المسكين وياط عندها عرفت التفاصيل التالية:كان الفنان قد حجز أمكنة لنفسه وزوجته وأختيه والخادمة.وكانت زوجته تماما كما كان يحكي عنها..سيدة رائعة الجمال عالية الإدراك.في صباح الرابع عشر من حزيران ـ اليوم الذي زرت فيه السفينة ـ مرضت السيدة فجأة وماتت.فجن الزوج المسكين من فرط الحزن.لكن الظروف لم تسمح له بأن يؤخر سفره إلى نيويورك.وكان من الضروري أن يحمل جثمان زوجته إلى أمها. والمعروف أنه يصعب على الركاب تقبل مثل هذا الأمر.إذ لو عرفوا بذلك لكان أكثرهم فضل مغادرة السفينة على السفر برفقة جثة./ص112 .ص113 النص القصصي) أن أهمية قصة إدغار ألن بو (الصندوق المستطيل) تمكن في إمكانية خلق الأسباب التمايزية في تغيرات الأحداث، إلى جانب فرادة الفكرة واشتغالات الموضوعة بوسائل محفزة وتشويقية، إذ لا تفارقها جدية تقانة الوصف وبلوغ الخطاب إلى أقصى مراحل الانسجام الدلالي والرمزي والكنائي والأغوائي والنفسي.فوظيفة استقصاء الأحوال من دقائق النفس والأشياء هي المفتاح إلى فتح كل أبواب الكتابة القصة القصيرة بنجاح وكفاءة لا نظير لها.وتبعا لهذا أضيف قائلا:أن عوالم قصص بو هي صياغات نوعية في الرؤية والأفعال الشخوصية ودورها في تحفيز منظور وتقانة (الاستبدال) في أشد اللحظات توصيلا مغايرا نحو قراءة تقتني كنوز النصوص من خلال انفعالات شخوصها مع الادوارالعاملية لها دخولا، بالصورة التي توفر للقارىء جملة ثابتة ومتغيرة من أسانيد الرؤية الحبكوية التي تأخذنا إلى مفاوز ظنونية وجملة تساؤلات مشتتة حول مدى احتمالية تلك الحبكة المخاتلة؟ في فضاء القص، التي راحت توفر لنا إمكانية راجحة من حسن اشتغالها بالبحث في المعنى المحتمل أو انتاج المعنى الآخر الذي هو الصورة المتعددة لأوجه مؤولات الدلالة المركبة في حاضنة النصوص الخالدة على صعيد تصاعد كل الأجيال والعقود الباحثة عن حقيقة ما عليه أدوات وآليات وموضوعة فن القصة القصيرة، التي لم نجد لها من نظير سوى في عوالم هذا العملاق الفذ إدغار ألن بو .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم