قراءات نقدية

الصراع مع أشباح الماضي في أعمال هيلاري مانتل

تبدو شخصيات الإنكليزية هيلاري مانتل مضطربة وقلقة، وفي حالة تناقض وصراع مع طبيعتها - الطبيعية والاجتماعية بنفس الوقت. وهذا يعني أنها تقاتل على جبهتين: داخلية غير منظورة، وخارجية. وقد تكلمت عن هذه المشكلة في أول سيرة روائية لها صدرت عام 2003 بعنوان غروتسكي وهو "الهرب من الأشباح". وحددت معنى كلمة شبح بواحد من ثلاثة.

الأول هو الأطياف المنزلية، ومن بينها خيال زوج الأم step father ص4، وصور ملائكة نورانية، سرعان ما تتحول إلى رهبان ورجال دين جوالين ص3. ويتخلل هذه التهيؤات وجبات وهمية، وبالأخص في وقت الجوع، كأن ترى أمامها كعكة محلاة تطير في الهواء كالبالون ص2. أو الأسوأ أنها تلتهم سربا من النحل ص3. وكانت هذه الولائم تجري في بيت  يحيط به جدار من الطوب الأحمر ص10. ولا شك أن التورية ليس بالسور ولكن بلونه. فهو إشارة لجناية يرافقها سفك الدم. واتسع نطاق هذه الأوهام وشمل أماكن السهر واللهو، مثل  بار جيش الملك King's Arms، والذي كان يحترق، في نظرها، بالضوء ص8، ولا يسبح في بركة أو هالة مباركة من النور. ويوجد طباق ملحوظ بين الاحتمالين: أن تحترق بالضياء وأن تسبح به (وهي عبارة توراتية مفضلة طالما اتكأ عليها لورنس). إلى جانب ذلك أبدت مانتل اهتماما غير مسبوق بالجغرافيا المتحولة والبديلة.  وهذا لا يشمل تبديل المكان فقط، ولكن أيضا المعنى المرتبط به. فقد كانت تهرب من مكان حاضر إلى مكان غائب. أو بتعبير آخر كانت تبحث عن مكان لها في زمن الآخرين. وأدى ذلك لاهتمام مماثل بأدوات قياس الوقت، ومنها الساعة.  وقد قالت عنها في آخر فصل من السيرة: إنها تتدلى على جدار بيتها بشكل قمر آخر مضيء - وهذا معيار للتنوير والمعرفة ص376.

وقد وجدت أفضل صيغة للتعبير عن هذه القضية في أهم عملين لها. الأول "تبدل في الطقس" 1994. وتدور أحداثه في جنوب إفريقيا حيث أن التاريخ يغدر بالجغرافيا. وكما توضح الرواية لا تتوقف علاقات الاستغلال عند حدود النهب للأرض ولكنها تتطور إلى نهب للذاكرة. وأهم ما يحسب للرواية أنها لا تتكلم عن إمبريالية ملونة، أبيض - مؤمن مقابل أسود - وثني أو كافر، إنما تتبع نفس المنطق الجدلي الذي بنى عليه العقل الرومنسي والتنويري أطروحته، وتقسم المجتمع الكولونيالي إلى ثلاث فئات: الأب الجلاد - ويمثله النظام. والعراب وتمثله البعثات التبشيرية. والأبناء وهم سكان الأرض الأصليون. وهذه بنية أوديببة معدلة تلغي الزواج الخارجي. وتحصر الجدل في توفير الغذاء للعقل أو للروح. ولذلك لا يوجد صراع أو دراما وإنما مجرد خصام.  واختارت مانتل أهون الشرين. أن تفرض رؤيتها على الطبيعة المحلية بالاستئناس أو بالترويض. وبالنتيجة كانت روايتها ذات توجه إمبريالي. وانصب الخلاف على الأساليب فقط. وربما يجوز أن نقول إنها شنت على إفريقيا حملة صليبية - ناعمة. السلاح فيها هو الجائزة الممنوحة بعد الاستسلام. وكما قالت ميرلي روبين: لقد قسمت العالم إلى "حالات محزنة" و"نفوس طيبة"، ولم تعمد إلى إنهاء قوة الشر الهدامة.

العمل الثاني "ثماني شهور في شارع غزة" 1988. ويبدو كأنه سيرة ذاتية لحياتها في العربية السعودية. وقد حرصت على ضمان نظافتها من أساطير الاستشراق، وصوره الجاهزة، التي تغذيها الفانتازيا والرومنسيات. فلا كلام عن النقاب وقصور الحريم، ولا أية إشارة عن الأنفاق التي تغرق بالنفط والحداثة السائلة، ولم تلجأ لفرز وتصنيف الأمكنة والشخصيات بالطريقة المعهودة: شرق مذكر بحالة انتصاب وغرب مؤنث يزخر بالمفاتن.  فالحضارات، في هذه الرواية، تتقاطع وتتجاور، والأعراق والثقافات تتداخل. واستعملت مانتل الحمية الغذائية لترمز لهذا التقابل. ودخلت لروح الحضارات من بوابة تعرفها السيدات بشكل أفضل وهو المطابخ. وابتعدت عن أي حزمة أو أجندا للتبشير، بعكس ما فعلته في روايتها الإفريقية، وأكدت على علاقات العمالة وتبادل المنافع. وبالنتيجة نجد أنفسنا في ميتروبول بديل، يدشن أول ظاهرة من نوعها، وهي تحويل الهجرات، من الشمال البارد إلى الجنوب المشمس. وعموما تؤكد مانتل في كل أعمالها على دور تنويري للريف الإنكليزي، وعلى دور تحديثي للمدينة الشرقية. وبهذا المنطق يمكن أن تجد أن الروح هي البطل في الشمال بينما العقل العملي هو البطل في الجنوب. وهذه مخالفة صريحة لأطروحة الإستشراق الأوروبي، وكل من يمثلها، وفي مقدمتهم لورنس العرب مؤلف "أعمدة الحكمة السبعة". وعلى ما أعتقد إن العناصر الحرجة في رواية لورنس - وهي الدين والحرب والجفاف موجودة في كلام مانتل عن إفريقيا وليس العرب. فكلاهما يبني فلسفته على رؤية واحدة للأحداث. وهو نقل الحداثة في أول حالة - فتح أسواق للسلع، والعمل على إنتاجها في ثاني حالة - بناء هياكل -  أو  معابد لدين عابر للقوميات والثقافات. والحقيقة إن هياكل لورنس لا تمنح الإنسان فرصة لتأسيس علاقة مع أرضه لأنها نقاط انطلاق، أو عروج من جغرافيا إلى جغرافيا مثل محطات قطار أو مضافات عشائر.  في حين أن معابد مانتل كانت بشكل أسواق وأبراج، تدخل فيها صور جزئية وتخرج منها صور كلية. وللتوضيح كان بطل لورنس بصورة نبي جاء للهداية والمؤازرة. بينما كان قوام المدينة، في رواية مانتل، مؤلفا من عدة أقليات، يفصل بينها  جدران التقاليد. وفي هذه الحالة يكون الثابت هو المعبد وإلهه المتخفي عن الأنظار، بينما المتبدل هو الإنسان الذي تحركه احتياجاته البسيطة واليومية. مع التأكيد على أبوة الإمبريالية الغربية للحضارة واستحالة المساكنة بين الأعراق والأديان. ولذلك فرضت مانتل على أبطال روايتيها فلسفة "الفجيعة". ويتضمن ذلك بالضرورة خيبة الرجاء بالمشروع الكولونيالي وبشقيه: التربوي والتجاري.  فلا إفريقيا جاهزة لتبديل وجهها، ولا العرب جاهزون لتغيير أقنعتهم. وقد تناول الكويتي سعود السنعوسي هذه المشكلة المحتدمة بين الوجه والقناع في روايته الهامة "ساق البامبو". وإن كانت المشكلة محصورة ضمن شعوب المشرق، يمكن بكل سهولة ملاحظة الجدل الدائر بين الطبع والتطبع، والتراجيديا المحتملة التي تنجم عن اتباع أنصاف حلول. 

الشبح الثاني هو الذات. ولا تخلو رواية لمانتل من شخصية تتطابق معها. ولكنها دائما بحالة سوء تفاهم مع هذه الشخصية. ومثلما أنها ترفض بإصرار وضعها الوجودي، وتأثير المعاناة في الاختلاف مع الواقع، تحاول أن تلجأ ليوتوبيا ذهنية. وقد تناولت هذا الإشكال في قصص كتابها "التعرف على الكلام" 1985 . وهي قصص من سيرتها، أو إنها زيارة للماضي. ولا يجوز أن ننظر لماضي مانتل على أنه مرحلة مرت من الحياة، بل هو ذاكرة محمولة. حتى أنها في أول قصة من المجموعة وهي بعنوان "كينغ بيللي رجل محترم" تعلن: عدم قدرتها على الخروج من ذهنها ص1. فالماضي بنظرها  خلاصة لحياة  الشخصيات التي تجتمع لتصنع ما يقول عنه لاكان الآخر الصغير والآخر الحقيقي. ويبدو لي أن مانتل  مؤمنة بفلسفة الشقاء المثالي، فكل إنسان غريب عندها هو جحيم نحترق به. ولكنه أيضا مصدر للمعرفة ولإدراك موضع الذات من الوجود. وتوجد إشارات واضحة في كل القصص على أن الأشباح التي تراها ما هي إلا خيال ظل للشخصيات ذاتها، أو هي عين ساحرة نرى من خلالها الجزء المغمور والمجهول من حياتنا. وكما تقول سارة موس**:  هذه القصص تنظر للطفولة على أنها مسرح لأحداث تساهم في بناء الإنسان البالغ ووعيه. وهي مكان دائم نحيا من خلاله وليست حقبة زمنية تنتهي وتموت. ثم تضيف: إن كل قصة في المجموعة عبارة عن لحظة غير مفهومة من حياة بلغت نقطة انعطاف وتبدل (وأضيف مني: هو تبدل يطال الصورة والوعي أو الإدراك).

أما الشبح الثالث والأخير فهو التاريخ. ولا تستطيع أن تبني قناعة ثابتة على هذا الموضوع. فمانتل تتعامل مع التاريخ الإنكليزي بطرق ملتوية. وغالبا ما تقف على طرفي الجدار العازل، تنظر من الخارج لما تحمله معها من معارف وخبرات، ثم تنظر لنفسها بالمرآة. ولذلك يمكن أن يكون التاريخ برأيها معرفة مكتسبة، أو تجربة شخصية. وقد اقتربت من هذا الموضوع في ثلاثيتها المعروفة: "قصر الذئب" 2009، "أحضر الجماعة"2012، و"النور والمرآة" 2020. وقد حملت هذه الثلاثية كل أعراض التقدم بالعمر.

أولا لجأت للمونولوجات والكلام بلسان صامت - وهو ما تسميه الفلسفة بالتفكير. لكن الحقيقة أنها كانت تكلم الآخر الذي يحمله الإنسان في لاشعوره أو صندوقه الأسود. وربما كان سلوكها أقرب إلى المونولوج الدرامي. فقد كانت تناور لتكتشف حقائق نفسها، ولحسن الحظ إن شخصيات مانتل بسيطة وغير مركبة. وإن كانت تعاني من خلل فهو عائد لخطأ بالتشخيص وليس لعطل حقيقي. وأعتقد أنها بهذا السياق تشير لمحنتها الشخصية. فقد شخص أطباؤها الألم الذي عانت منه على أنه ذهان، وتبين فيما بعد أنه نمو غير طبيعي في الرحم. وترتب على هذا الخطأ توقف القدرة على الإنجاب، وتبدل ملحوظ في الملامح. بتعبير آخر تكبدت خسارة مزدوجة.. في المحاكاة وفي التكاثر. وبالضرورة أنهى ذلك قدراتها على محاكاة نفسها بالسبل المعروفة، وهي الانعكاس والانقسام. وتجد صدى المشكلة في غموض كتاباتها الواضحة. فهي تلعب بالمعاني وتغنيها بعلاقات تصورية لا متناهية، لكن لا تحدد أي هدف أو وظيفة نهائية. حتى أن سيرتها لا تبدأ من الخاتمة ولا من البداية. وتقفز فورا لثاني محطة من حياتها. وتعلل هذا الفراغ بعجز في الذاكرة، وإن كنت أرى أنها لا تريد ذاكرة بيت الأب حصرا. وأكدت على ذلك في عدة مناسبات، فقد وضعت أمها في مركز الأحداث. ونادرا ما تكرمت على الرجل البالغ بدور رجولي، وغالبا صورته بشكل ابن كبير الحجم، وأبوه مقتول أو ميت. وهذا الانتقام من رب الأسرة - سواء هو أب أو زوج دعمه نفور واضح من بابا الفاتيكان. وقد رأى كل نقاد الثلاثية أن روايتها موجهة ضد الكنيسة البابوية، وتقف مع كنيسة الأم الناشئة.

ثانيا تخلت في ثلاثيتها عن الجرعة الدرامية لمصلحة الجدل النفسي كما هو الحال في "لعبة الكريات الزجاجية"، آخر وأضخم كتاب لهيرمان هيسة. وكانت مثله، عوضا عن أن تكتشف نفسها بأسلوب الإسقاط والملاحظة، لجأت للتكهن والتخمين.

ثالثا وهنا مربط الفرس. لم يخطر في ذهنها أن أوليفر كرومويل أهم من توماس كرومويل. وفوتت على نفسها هذه الفرصة الثمينة. لقد كانت الحبكة وبنية الخطاب تصلح لمتابعة مخاض كرومويل الأول - باعتبار أنه تتوفر لحكايته عناصر درامية في إطار تراجيدي وبطولي. كما أنه أقرب ببنيته الملحمية للملك لير (الأب المغدور به في مسرحية شكسبير)،  وللأخوة كرامازوف (الأشقاء الأوديب يين الذين تورطوا بصراع غاشم وسخيف مع الإرادة). لقد توفرت في حبكة أول كرومويل فكرة صراع الأجيال، وتناقض المصالح الطبقية، وأخيرا مشكلة المشيئة الطبيعية للقدر، أو بلغة أقرب للنقد الأدبي مشيئة البيئة والظروف. في حين أن كرومويل - توماس كان شخصية شيطانية، مجالها الغرف المغلقة والصالونات. وهو أشبه بأي شخصية تظهر لك في أحلامك. إنه أقرب لعالم الرموز وبعيد تماما عن مجال الاشتقاق والاستعارة. ولهذا السبب لم يكن إنسانا تجريديا، ولم يكن صالحا لأسلوب المحاكاة الذي خرجت أهم الأعمال الروائية من معطفه ابتداء من "قصة مدينتين" لديكنز وحتى "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي و"آناكارنينا" لتولستوي، انتهاء بــ"عشيق الليدي شاترلي" للورنس. والحقيقة إن آخر كلمة في الروايات التاريخية تكون للسيف. وهو سبب بقاء وشهرة أعمال مثل "السيف المعقوف" لهارولد لامب و"الفرسان الثلاثة لألكسندر دوما الكبير"، لكنها ليست لحكايات البلاط المسلية. ولذلك أرى أن هيلاري مانتل أعادت توطين أشباح الماضي القلق ونصف التراجيدي في ثلاثيتها، بعد أن تحررت منها في أعمالها السابقة.

***

د. صالح الرزوق

....................

*Merle Rubin. Wall Street Journal. 24-9-1997.

**Children Stories for Adult Audiences. Sarah Moss. The New York Times. 21 June 2022.

في المثقف اليوم