قراءات نقدية

قراءة سيمائية في رواية إبط السفينة لأحمد ختاوي

قراءة سيمائية في رواية إبط السفينة لؤلفها أحمد ختاوي الإعلامي والروائي.. قراءة لمضامينها الجلية، وأنساقها المضمرة، المخفية داخل بنيتها اللغوية واصواتها السردية، يحتاج التشريح إلى آلة التفكيك ليبدو النص قطعا متجاورات بينها أسرار الربط والالتحام أو إن شئت فقل انت داخل النص تفتش في زواياه كأنك في حي تشابهت أزقته تنظر إلى الجدران مستمسكا بعلامات دلالية تسمح لك بالخروج والدخول دون تيه أو ضياع، وضع هذه الأجزاء المفككة على مجهر يبين الكتابة الظل الخفية تمثل اللاوعي الباطني للنص فيها بعد أن صار الوعي ظاهرا جليا في الكتابة الأولى   

عنوان الرواية إذا كان العنوان قد وضع كمدخل يستفز القارئ ليندفع إلى قراءته، أو أحيانا وضع لتسويق المنتوج، أو خدعة تجلب القارئ ليجد نفسه في غير ما طمح إليه وهذا ما أطلق عليه المنفلوطي بخداع العنوانين.

 الروائي أحمد ختاوي في إبط السفينة بدا عنده العنوان هو عمق النص هو القلب النابض لأحداث روايته. إن السفينة تقتضي البحر وتقتضي الإبحار ثم المسافرين على ظهرها وقد تتعرض للغرق أو الارتطام بالخلجان فيصير ركابها بين غارق مات، وناج سلم وبلغ غايته مبتهجا، ومفقودا يعيش أهله على بصيص من الأمل. لكنه هو هنا أضاف علامة غريبة جدا إبط، والإبط هو باطن المنكب والجناح وأضافه للسفينة كأن السفينة حيوان أسطوري يخرج من البحر لينتهي بمن يحملهم  إلى عوالم جديدة أم هي الوسيلة المثلى التي تغير من وجودية

كل من يعلو على ظهرها وهذا ما تغنى به في تلك الأيام (يا الرايح وين تروح تعيا وتولي) نفس الشيء اليوم رحلات إنتحارية تحت أهازيج باللهجة الجزائرية

(ياكلني الحوت وما ياكلنيش الدود أو يا لبابور يا مو نامور أي حبيبي بالفرنسية خرجني من لاميزار)

ما هي السفينة عند أحمد ختاوي؟

هل هي نفسية الكاتب؟ حيث تتعاقب أطياف ووميض أحداث مرت معه وهو يقرأ وجوده في هذا العالم الذي تتصارع فيه الافكار يمنة ويسرة، من ميراث اللوحة والصلصال إلى أفكار سارتر ونتشه، نوال السعداوي سيمون ديبوفوار.

هل هي بوسمغون التي نستشرف من دلالاتها الأنثروبولوجي وهي بلدية من ولاية البيض الجزائر يتحدث سكان بوسمغون بلهجة البربرية، يطلق عليها محليًا "شلحة" أو "تشلحيت"؛ إختلطت بقبائل عربية هلالية وهي مركز الطريقة التيجانية التي أسسها سيدي أحمد التيجاني عام 1782. فيها زاوية التجانية. وفيها المسكن القديم للأديب قبل النزوح إلى مشرية، ثم وهران التي كانت مسقط رأس الكاتب وفيها قضى فترة دراسته وهي ماتزال تحمل حنين الأديب، حيث النخيل شاهد على ما أصاب المنطقة خلال الغزو الإفرنجي من الفقر، المرض،غزو الجراد في أربعينيات القرن الماضي.

التجنيد القهري في صفوف الجيش الفرنسي الحرب العالمية الأولى والثانية ثم العودة بالجراح ولم يتغير شيء، المكافأة دماء خراطة، قالمة، سطيف، حيث الهجرة إلى ماوراء البحر بعد مباركة الكنيسة للقلوب التي تنصرت مقابل إسم وبيت في ليون أو مارساي أو باريس،حيث الجدة ،و الغراب يتابع المأساة ويسرد منعرجاتها وتناقضاتها البائسة، هل ..هل ..هل على وزن عاق عاق صوت الغراب أحد أبطال الرواية ،سيميائية هذا التحول جعل اختيار السارد يقع على شخصيات  خاصة ، لبُعْدها ومستواها الخاص، بغية تحقيقها لذلك البعد االجتماعي أو الفكري وبالأحرى الأنثروبولوجي، الذي وظفت من أجل تحقيقه، بصفتها تمثل المحمول الثقافي والتاريخي للمجتمع البوسمغوني كنموذج لباقي قرى ومداشر ومدن الجزائر المستعمرة وهذا ما يرمى إليه الروائي في توظيفه للشخصيات المشحونة بحمولة تراثية ثقافية ،إن سيميائية الزمن في رواية إبط السفينة جعلت المؤلف يستعمل قسمين من الزمن داخلي خاص بالرواية، وخارجي متعلق بالكاتب والمتلقي، فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية، الدال، وزمن المدلول كما هو عند جيرار جينيت في خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، د ط، د ت، ص21.

هذا التلاعب في الترتيب الزمني قد يكون لأغراض جمالية وفنية بحتة. كلما تعددت الحكايات داخل العمل الروائي تعقدت كذلك مشكلة الزمن. فلهذا قام المؤلف بكل جرأة يلعب بالزمن حيث يتحدث مع عمي الطاهر في أمر يعود لخمسينات القرن الماضي ثم يذكر دلالة من دليل عاشه المؤلف في شبابه أو مراهقته في وهران أو سعيدة ثم يعود إلى أبعد من ذلك إلى سارتر و سيمون ديبوفوار أو حتى إبن خلدون وهكذا بدون أن يشعرك بالملل بل يجعلك في أرجوحة زمنية حمل الكاتب هذا الخلق الذي تجري أحداثه فوق عاصفة زمنية تدور فيها السنين العجاف والأمكنة الموحشة والاجساد الموبوءة والأماني المذبوحة الكل مع بعض بما يشبه تورنادو وهو يقذف بقرى كاملة من الأبلاش إلى الروكي في السماء ثم تهوي إلى مستقر للفناء، هكذا فعل السارد أحمد ختاوي بأشيائه، بأفكاره، بحنينه، بمرابعه بالسعي نحو ما وراء بوسمغون.

تستقر الاشخاص أمام سفينة الروائي أحمد ختاوي بين من فضل البقاء في صومعته وصوفيتها وأعرض عن السفينة كالجدة ومشايخ التيجانية، ومنهم من يقوم بصيانة السفينة كعامل يحلم بركوبها والهجرة على متنها ليداوي جراحه مثل عمي الطاهر ومنهم من تجرأ وركبها وفتح بها عالم آخر خسر فيه إسمه ودينه وربح دنياه مثل رومان.

تنتهي الرواية في الاخير بسفينة تحمل من كل زوجين إثنين تجري بها البحر.

إن النضال والحركية تستمر من اتجاه السربون إلى جوامع قرانا ومداشرنا أو ينتقل عزمنا من بوسمغون إلى باريس وفيرساي ليحمل ثورة جديدة كلما تعبت قامت ثورة أخرى تساندهارغم كل هذا، تضل سفينة الرواية تجري إلى حيث لا ندري وتبقى ضفيرة حنان وجوكندا دفنشي والقرش والدلفين الوديع تلعب بهم الامواج، كما يلعب الحنين بالغياب والحضور، ويبقى ديغول يتمنى وعمي الطاهر يتمنى وكل العالم على نفس السفينة الهائمة على وجهها تبيت عند قالوا وتصبح عند قلنا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

***

كتبها رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

 

في المثقف اليوم