قراءات نقدية

القاص الواعد حسين كامل.. من وجد نعل غاندي؟

 المغزى الدلالي الكامن وراء عنوان المجموعة القصصية «من وجدَ نعل غاندي» للقاص حسين كامل، لا نجده في قصة تحمل هذا العنوان ضمن المجموعة التي صدرت مؤخراً عن دار (بغدادي) منتصف عام 2022، العنوان يحيلنا إلى حادث منسوب الى الزعيم الهندي المهاتما غاندي، ربما تبدو قصة الحادث غير واقعية، إنما نسجتها المخيلة الشعبية لتأكيد زهد غاندي بممتلكاته الشخصية، تروى القصة عن فردة حذاء فقدها غاندي، بعد أن كان مسرعاً فأراد اللحاق بالقطار، وأثناء ذلك رمى الفردة الثانية بعد أن استقل القطار، فتعجب أصدقاؤه عن مغزى ذلك، فقال: أحببت للفقير الذي يجد الحذاء أن يجد فردتين يستطيع الانتفاع بهما.

ثمة أسئلة يضعنا القاص في مواجهتها تبدأ في البحث عن معنى الفقدان، والخسارات، ومكمن السعادة والتضحية، كيف لنا ان نبتكر الفرح للآخر، تلك عناوين تفصح عنها أغلب قصص المجموعة، وإن جاءت بمسميات أخرى، لكنها تعبر عن رؤية فكرية وموقف شمولي من قضايا عدّة، اختزلها القاص في هذا العنوان.

إن تأمل المصير الإنساني، ومراجعة قضايا الموت والعبث واللامعقول وسواها، ما يشير الى تحقيق الاستثارة الذهنية والنفسية المتأتية من الإحساس بالعالم الذي يعيشه القاص، موحياً اليه بالمعاني والدلالات الخفية لمفردات لغته في وصف مشاهد الموت والعذاب وهي تحمل أكثر من معنى، بحكم اختصاصه المهني في الوسط الطبي الذي يشهد فيه عشرات الحالات من الألم اليومي، (قصة: أيقونة زرقاء، وقصة: استراتيجية الجراثيم) فضلاً عن حالة اليتم التي لازمته مذ كان صبياً، لعل هذا الحزن يعبر عنه بالعبارة التي تصدرت المجموعة (إلى أمي التي ماتت بالتدريج، وهي تمحو الحنين من حياتي). حتى كأنها ما تزال الى جانبه، وأن صوتها إذ يرنّ بخاطره، يلقي إليها يديه في صمت، يحس بأنها تستفيق لديه في لهف تملأ وحدته.

يعتمد القاص في تتبعه لأحلام شخصياته على لغة الوصف الموحية، واستخدام ظلال الصور وألوانها، ما جعل من دلالات الحدث القصصي الرمزية أشد وضوحاً من دلالالتها المباشرة. في قصة (الفأر الذي يأكل الكلمات) تحتل الفئران بيته تقرأ الكتب وتقرضها، الفئران تخلع الحروف من الورق، وتأكل اللغة، ليس كل لغة بل اللغة التي تذكر في نهايات الكتب. وقصة (بذور مصرية في بطن عراقية) تحكي عن امرأة تبتكر طريقة في اكتشاف المرأة الحامل، أن تتبول على بذور الحنطة والشعير، فإن نبتت فذا مؤشر للحمل. وفي (أناس المزاريب) مخلوق ينبش مزاريب الناس، كنبّاش في استخراج مخاط الحياة، قصة (ظلمة أديسون) مشحونة بالغرائبية واللامعقول، راضي بائع الكبّة يستيقظ بعد نوم عميق ليجد نفسه رئيساً للوزراء، يطرح أمام وزرائه أزمات نومه المزعجة: الوسادة عالية، أحلامه مليئة بالكوابيس، يدعوهم للتخلص من الليل، يصرخ ليقبضوا على أديسون مكتشف الكهرباء، تبرع أحد حراسه أن ينام بديلاً عنه وهو من يحلم، بينما الحراس يلتهمون ما تبقى من كبّة، ظل السيد راضي نائماً برأس غيره. هذا اللون من التعبير في الفن القصصي العراقي يبدو غير بعيد في تاريخه، إذ شهد العقد السادس من القرن الماضي الانطلاقة الأوسع والأشد إيغالاً وتوسعاً في اعتماد الحلم، أو ما يعرف بالأسلوب السيريالي في السرد، الذي تكاد تكون معالمه واضحة في أغلب قصص حسين كامل، تسوقه إليه ميوله الخاصة، وإحساسه بواقعه وتجربته الحياتية، فهو مطبوع بأسلوبها، لا مؤدلجاً في اتجاهها.

إن قصصا مثل (لوحة لرؤوس كل الحيوانات) تصور عالماً عجائبياً صرفاً: هبطت عليّ حمامة صغيرة، نقرتني، حملت جسدي، وقعت منها. في قصة (أطراف): في الخنادق البعيدة عند الحدود العراقية، يبحث عن ساقه الأولى، عاد بسيارة حمل كبيرة، محملة بالسيقان المنسية والمتضررة، وفي قصة (دار): تحول أبي إثر تعب كثير الى (راء) معكوفة بعد أن كان (ألفاً) واقفة!! وقصة (سارق الأنف) تتحدث عن حشرة عنود ملونة وقفت على أنف امرء، يحاول طردها، أو القبض عليها لكنها سرقت أنفه واختفت في حفرة وجد فيها عشرات الأنوف. هذا الاتجاه يبثه القاص في طيف واسع من قصصه، في استخدامه تقنيات الحلم، والتمازج بين الحلم والواقع أحياناً، بين عالم الأحياء والأموات، وتبادل الأدوار في عرض المشهد القصصي، سواء عن طريق الحوار أم السرد، ثم تتابع الصور، وتداخل الأحداث، والأصوات، وتغريب الواقع ليجعله ماضياً، وبعض صوره تأتي حادة ذات وقع صادم.

قصة (نبؤة الغراف) تنمّ عن موهبة طيبة، وتمكّن فني ضمن لها القاص بناء عالم قصصي نامٍ بعفوية وانسيابية، القصة عن صابر الذي يهدد أمه بالهرب منها، بعد دفع أجور حليب رضاعتها، أو تعويضها بأكياس حليب (المدهش) فغاب عن البيت، وجدوه غريقاً في نهر الغراف، كانت الأم ترقب الضفاف تسمع ضحكات الأسماك التي ترقص تحت سطح الماء، ظهرت جثة صابر، هشّة مكفنة بالعشب، حين كشفت الأم ثديها الأيسر أمام النهر لتعرف أجور حليبها! هذه القصة في اعتقادي من أجمل قصص المجموعة، بلغتها المكثفة، ووسائلها التعبيرية تقدم لنا نموذجاً من القصص ذات المستوى الفني المعبر عن أزمة الإنسان وصراعه ضد كل ما يشوه إنسانيته، فهذا الإحساس الطاغي بالموت يبدو هاجساً يتعدى المظاهر الخارجية، يهيمن على ذات القاص إلى حيث المشاعر المأزومة بمعنى فقدان الأم، هنا يبدو القاص بحسه المرهف وشفافيته، يرتقي عن المستوى المباشر في السرد إلى حيث تصبح القصة مثل نور اليقين المنسل من ظلمات النفس وعتمتها السابقة. ومما يعمق الإحساس بسلبية ذلك الجو الذي تعيشه الشخصيات القصصية، لجوء القاص إلى تصوير مشاعر الضيق الدائم والإحساس بطغيان الخوف من المستقبل،

ما تزال أمام القاص فرصة أكبر لتطوير أدواته السردية، (اللغوية والتقنية) ولكي تنضج تجربته في الكتابة لا بد من مراعاة للسمات الجمالية والفكرية في النص، دون الاستغراق في الغرائبية في انثيالاتها وتداعياتها، والتنوع في أساليب الكتابة.

حسين كامل يمتلك من الصدق والمخيلة والشجاعة، واللغة المفعمة بالايماء، الغنية بالإيحاء الدال، ما يؤهله لأن يكون قاصاً واعداً متميزاً بين زملائه كتاب القصة الشباب.َ

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم