قراءات نقدية

أنطولوجيا الشعور في (تنهدات على عتبة السبعين) الشعرية للدكتور صالح الطائي

يأتي مصطلح الأنطولوجيا بِعدَّة معانٍ ، والذي يهمنا منها هنا هو معنى الوجود بوصفه فعل الظهور وخروج الذات أو ما فيها إلى العالم، ويبدو أنَّ معجم لالاند يرى أنَّ كلمة الوجود مشتقة من وجد يجد وجوداً بمعنى ظهر للعيان، أي أنَّها مقولة ظواهرية، وعليه، فإنَّ الوجود يرتبط بحسب دلالته اللغوية بما بدا في الخارج للعيان، وهناك من يرى أنَّ الوجود ينقسم على قسمين "وجود خارجي، ووجود ذهني، فالوجود الخارجي عبارة عن كون الشيء في الأعيان وهو الوجود المادي، أما الوجود الذهني، فهو عبارة عن كون الشيء في الأذهان، وهو الوجود يقابل الماهية" (1) ، ولعلِّي أجد في النتاجات الأدبية ما يمكن أنْ أعدّه من الوجود، ولما كان الإنسان هو مصدر من مصادر الكون، وهو المُنتج والباعث لإبراز ماهية هذا الكون، فهو موجد أشياءً جمَّة، لذا يمكن عدُّ النتاجات الفكرية والأدبية هي من  الوجود الخارجي.

وحين نقرأ مجموعة الدكتور صالح الطائي (تنهّدات على عتبة السبعين) التي صدرت في بداية عام 2023م ، وقد بلغ من العمر بضعة وسبعين عاماً نجده جسَّد فيها حنيناً لما يضمره قلبه من مشاعر دافئة، فبرَقَ بعضَها وفاءً لرفيقة عمره، إذ عبَّر عن شعوره تجاهها أنقى الكلام وأورف الصور، علماً أنَّ القصائد التي وجهها للمرأة بصورة عامة حملت في نسيجها عاطفةً جياشة على الرغم من أنها صدرت من مفكِّر أفنى عمره في التأليف، ولم نر له نتاجات رومانسية كما في مجموعته التي بين أيدينا، إذ كان جُلّ اهتمامه بالبحث والنتاجات العلمية، فقد ألَّف كتباً بعدد سني عمره أو يزيد، لكننا نراه في نصوصه الشعرية يفيض إحساساً دافئاً للحبيبة، فمن قوله في ذلك من قصيدته (يا ابنة السبعين): ص9

امسحي فوقَ تجاعيد المشــيبِ

وجراح القلبِ والأمـــسِ وأوبي

*

قبلةٌ منكِ تعيـــد الحبَّ لحنـــــاً

مثلما الفجرُ يُعتَّقُ بالغــــــروبِ

*

يا ابنةَ السبعين ما زالَ الهـوى

رعشةً والقلبُ يعلــــو بالوجيبِ

*

يا ابنةَ السـبعين يا طيف المُنى

يزدهي بالحبِّ والعيشِ الرغيبِ

*

أنا أشــــــريكِ بعمري كلِّـــــهِ

لثــــوانٍ كي أناديـــــــكِ حبيبي4674 صالح الطائي

فهو، ولكونه بعمر الشيخوخة، يظنُّ أنَّه يعيش مرحلة الذبول، ما يجعله يستعيد الحياة بحبٍّ أظهره وبكل عنف تجاه الحبيبة (الزوجة) التي سَقت هذا الحب منذ شبابه حتى هذه الأيام، فهو يلتمسها أن تمسح فوق تجاعيد المشيب؛ كون أصابعها هي ما تحمل الحنان، فحريّ بها أن تطفئ تلك التجاعيد؛ لتبحر به إلى أيام الشباب حيث الهوى والأحلام المفاضة بالجمال والحياة السعيدة. كما أنَّه يرى أنَّ قُبلةً منها يمكِّنها أن تجعل من الحبِّ لحناً، واللحن رمز الطرب والهيام، مشبهاً حاله في ذلك مثلما الفجر حين يُعتَّق بالغروب، مومئاً إلى العيش بين الواقع والخيال، ممازجاً بين الضياء والظلام، ليعبِّر عن اختطاط ثمالته بنشوة الغرام.

أما البيت الثالث، فيصف فيه أنه يعيش الهوى، والمُحبُّ عادة حين يلتقي الحبيب تتسارع نبضات قلبه، ما يجعله لا يستطيع أن يسيطر على ثبات جوارحه، لكن في الوقت ذاته أنَّ قلبه يعيش الحزن؛ لما بلغَ من خواتيم عمره.

والبيت الخامس ولشدة وفائه للحبيبة والتمسك بها، نراه مستعداً للتضحية بعمره كلِّه من أجلها - والجود بالنفس أقصى غاية الجود - فهو الباذل العمر من أجل أن يناديها بالحبيبة. وهذا البوح العاطفي يمثل نتاجاً وجودياً فاحتْ به قريحته، مختاراً صومعة الحُبِّ حين ضاقت به سني العمر؛ فاستأسدَ؛ ليقول مالم يقله لو كان في وضعه النفسي الطبيعي، هكذا هو بناء الوجود ونفحاته التي تظهرها القوى الخارقة من دواخل الذوات الإنسانية؛ ولكون الإنسان مثل الجوهر الخالق فهو خالق لوجود عَرَضي اسمه الإبداع، ممثلاً للنفحات الإنسانية الصادرة من الشعور والعقل الإنساني معاً.

إنَّ "فقدان الحياة لضيائها وحرارتها ودفئها يعني انعدام القيمة الإنسانية المثلى، والمعنى الإنساني العظيم، وتحول العالم الى خيبة كبرى تجر في إثرها وجعاً كالموت ثقلا وبشاعة، وكالغربة تشردا ويتما " (2)، ولعل الطائي ليس كغيره، فهو يحاول التمسك بصور الحياة المفعمة بالأمل؛ ما يجعله يطلب الحُبَّ؛ لإنارة دروبه المدلهمة التي لو تركها من دون أمل لصار الروح والجسد عليلين.

أما في قصيدته (شيخ وصبيَّة)، فنراه يعبِّر أصدق تعبير عن خلجات قلبه المفعم بالحُبِّ؛ نتيجة اغترابه واختناقاته من الروتين المُمل الذي يكاد يقضي عليه، فيهرب حيث لمسات الحنين والعواطف التي تمنحه الهدوء والسكينة فيقول:

لا أجيدُ نظم الشعر، فأنا لستُ بشاعر

لا أحسن السبك أو رصف القوافي

والقوافي، هي أيضاً قد تثور، وقد تجافي

لكنني يا حلوتي أملكُ قلباً عاشقاً

والعشق في بعض النفوس نهرٌ صافٍ

قد دلني الشوقُ إليكِ غيلةً.

سأسرقُ بعضاً من قصائد الغزل

وقصص العشاق والآهات والقُبل

وأحفظها على ظهر قلبي

وأنسبها لنفسي، ثم أقرؤها حينما تمرِّين بقربي

علَّكِ يا حلوتي ستشعرين فقري وتنظرين جدبي

علَّكِ أن تعشقي شيخاً تصابى

ولا في ركام عمري بعدٌ يريني القهر والحرمان

حبِّيني أيا مهجة عمري. (ص 97)

يبدو أنَّ الشعر "ليس زينة وتجسيماً للحياة، وإنما هو كشف عن عالمٍ مجهول" (3) ما نراه في هذا النص محاولته تقمص روح الشباب للعودة إلى يوتوبيا تجعله يتجاوز حالة اليأس والقلق، ونهاية المطاف، فنراه يطمح للعيش مع ترف الحياة، فهو يأمل أن يعيش مع شابَّة تخرجه من هذا السجن الذي أثقل كاهله، وكأنه في النص يحاول أن لايلتزم بالبديهية التي يحملها قول الشاعر:

ذهب الشباب فمـــا له من عودةٍ

وأتى المشيب فأين منه المهربُ

مسلياً نفسه بهذا الوهم؛ كي يسلو القهر والحرمان، طالباً الحُبَّ من فتاته التي يحفظ الأشعار لأجلها؛ ليلفت انتباهها إليه، متوسلاً بها أن تمنحه رشفات حُبِّ هو بحاجةٍ لها؛ ما يدعونا أن نستشعر الحالة التي يعيشها، ومثلما قلنا سلفاً أنَّه يتهرب مما يعانيه من قلق تجاه واقع مأزوم وخوفٍ من النهاية الحتمية التي يخشاها معظم البشر.

***

بقلم: د. رحيم الغرباوي

.................

الهوامش:

(1) الأنطولوجيا في المصطلح والمفهوم، ياسين حسين الويسي، العتبة العباسية المقدسة، بيروت، ط1، 2019م: 17

(2) معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح، دار الزمان للدراسات والنشر، سورية، ط1، 2012م: 175

(3) آليات الشعرية الحداثية عند أدونيس، د. بشير تاوريريت، عالم الكتب، القاهرة، 2009م.

 

في المثقف اليوم