قراءات نقدية

رواية (الباشا وفيصل والزعيم).. إعادة محكمة التاريخ

عرفنا الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي ناقدا وباحثا في حقل التراث قدم عددا كبيرا من الدراسات والكتب التراثية والنقدية ورأس تحرير مجلات ثقافية وصفحات للتراث الشعبي في عدد من الصحف العراقية ولكن اليوم يفاجئنا بالانتقال من حقل النقد الى الابداع في مجال السرد التاريخي وذلك بروايته (الباشا وفيصل والزعيم) الصادرة عن دار دجلة في عمان 2022 الذي تناول فيها حدثا عراقيا اشكاليا اذ تعددت الآراء وانقسم الجمهور العراقي بشأن ما حدث صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958، فريق اعتبر ما قام به العسكر صباح ذلك اليوم هو ثورة تحررية أطاحت بالحكم الملكي وارتباطه بالاستعمار البريطاني واعادت للعراق سيادته وتخلصه من قيود حلف بغداد المشبوه، بينما فريق اخر رأى الحدث انقلابا فتح بوابة الدم على العراق وعصف باستقراره وجريمة بحق الاسرة الهاشمية المسالمة وكان صدى هذين الرأيين صدور كم كبير من الدراسات والمقالات والكتب جسدت اتساع الفجوة بين مؤيد ومبرر وبين ورافض وساخط على أحداث وتداعيات ذلك اليوم .

بعد اكثر من ستة عقود مرت على ذلك الحدث يعود الناقد باسم عبد الحميد حمودي ليذكي جمرة الاختلاف القابعة تحت رماد الحرائق التي تلاحقت على العراق بعد احداث الرابع عشر من تموز 1958 ويسترجع في روايته احداث ذلك اليوم الدامي حيث يستحضر من خارج الحياة الدنيا شخوص ذلك الحدث (الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك ومهندس السياسة الملكية والملك فيصل الثاني ملك العراق الذي قضى نحبه صبيحة ذلك اليوم وكذلك الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الضباط الاحرار والعقيد عبد السلام عارف الرجل الثاني المساعد للزعيم) ليجعل منهم متهمين وقضاة وشهودا في آن واحد، فعبر ثمانية فصول اشتملت عليها الرواية حاول المؤلف ببناء درامي جديد اعادة محكمة التاريخ والكشف عن اسرار وتفاصيل لم يسبق لمن كتب عن ذلك الحدث ان تناولها او أشار اليها ولكن المؤلف حرص على تسريبها وتأكيدها على لسان ابطال روايته وفي مواقع متعددة من الرواية .mde

يستهل الكاتب روايته بفصل (قاعة العرش) التي اراد لها ان تكون بمثابة قاعة لمحاكمة الأطراف المشاركة فيأتي بأطراف الصراع من الدنيا الاخرة بملابسهم التي كانوا عليها صبيحة يوم الحادث لكي يلغي المسافة الزمنية في ذهن القارئ ويزيد من واقعية الجلسة ويبدأ بنشر غسيل الاطراف من خلال حواراتهم وتراشقهم بالاتهامات والتنصل عن المسؤوليات جاعلا من شخصية المؤرخ " عبد الرزاق الحسني " التاريخ الشاهد على اقوالهم وبحضور المؤرخ (حنا بطاطو) صاحب كتاب تاريخ العراق الذي جاء تعريف المؤلف له (مؤرخ امريكي سمح له طارق عزيز بنبش سجلات الأمن العام ص 22) واخطر ما تضمنه هذا الفصل من اتهامات هو تعاون الزعيم قاسم مع الحكومة البريطانية ودعم بريطانيا للثورة وهذا أمر لا يخلو من مفارقة ويزيد من تأكيد هذه المعلومة في ما أورده على لسان الباشا نوري السعيد مخاطبا الحسني ومشيرا الى علاقة الزعيم بالسفير تريفليان سفير بريطانيا في العراق عام 1958 بقوله (اسمع سيدنا الحسني وانت يا استاذ حنا ان الرجل تريفليان سفير بريطانيا ببغداد أيامها كان شخصية متآمرة على العرش الهاشمي ويتمتع بصداقة قديمة مع عبد الكريم ص 56) و(ان عبد الكريم كان مرتبطا بالسفارة البريطانية في بغداد قبل قيامه بحركته ص61) وهي اشارة يراد منها التشكيك بنزاهة واستقلالية ما حدث صبيحة 14 تموز كما انها مفارقة اخرى يصعب تصديقها فمجريات الاحداث بعد الرابع عشر من تموز تقول غير ذلك، كما نخرج من هذا الفصل بمعلومة جديدة اخرى هي ان شاه ايران كان على علم بالحدث وقد ارسل مبعوثه الصحفي السوري والمبعد ايامها في ايران " نذير فنصة " الى النظام الملكي يعلمه ان انقلابا سيحدث ضد العرش .

جاء الفصل الثاني (شارع الرشيد) ليكون بمثابة كشف دلالة حيث تخرج اطراف الحدث وهي مطوقة برجال الحرس السماوي في جولة شملت الاماكن التي لها علاقة بأحداث الرابع عشر من تموز ومن بينها بناية وزارة الدفاع وكذلك قاعة الشعب التي شهدت محاكمة اقطاب النظام الملكي وكعادته حرص المؤلف على تمرير عدد من المعلومات التي لم يسبق الاشارة اليها من قبل المؤرخين ومنها شخصية الفنان عباس جميل الذي كان من منتسبي القوة الجوية العراقية باختصاص التصوير الجوي وكذلك شخصية القاص عبد الملك نوري الذي شارك والده في انقلاب بكر صدقي وقتل في الموصل والصحفية المقربة من الزعيم نعيمة الوكيل ومحاكمة الجواهري خلال عهد الزعيم واطلاق سراحه بكفالة مهينة كما انه رفع غطاء الحياد عن المؤرخ الحسني وجعله من المنحازين لأحد اطراف الصراع من خلال توجيه الاتهامات للزعيم والعقيد في مواضع عدة من الحوارات ومنها رده على الزعيم في وصف احداث الموصل عام 1959 بانها (كانت فوضى مجنونة وانتما من شجعها ص26) او رأيه في سياسة الزعيم (الزعيم والعقيد لم يتركا للناس حرية الابداع ص 45) اوفي رده على العقيد (كان عبد الكريم سقيفة الحكم التي انهارت مع صورة ديمقراطية كاذبة ص 47)

لقد اظهر المؤلف صورة الزعيم والعقيد مهزومين امام خصومهم وعاجزين عن الرد على كيل الاتهامات الموجهة اليهما سواء من الذين صورهم ضحايا او من المثقفين الذين مثلهم التكرلي وعبد الملك والصقر والذي استحضرهم في المشهد ليزيد من اظهار سلبيات الشخصيتين وليبرئ النظام الملكي من اية سيئة رافقت اداءه واقتصرت ــ على لسان ابطال روايته ــ مسؤولية ما حدث صبيحة ذلك اليوم على الزعيم لوحده .

في الفصل الرابع من الرواية نتعرف على شخصيتين جديدتين هما نعيمة العسكري شقيقة جعفر العسكري وحرم الباشا نوري السعيد والملكة نفيسة والدة الوصي عبد الاله وجدة الملك فيصل ويبدو ان المؤلف زج بهما في مجريات الاحداث لزيادة التنكيل بالضباط الاحرار ولزيادة شعبية المتعاطفين مع ضحايا الاسرة الهاشمية حيث يخلق المؤلف جواً دراميا عندما يترك الملكة نفيسة تروي للجالسين (لم اكن اصدق انهم سيقومون بقتلنا .. وضعت القران الكريم على رأس فيصل وانا امشي خلفه مرددة آيات من الذكر الحكيم وكل ظني انهم سينقلوننا بسيارات الى خارج العراق .. تماما مثلما فعل المصريون مع فاروق ص 88) .

وجاء الفصل قبل الاخير من الرواية الذي اطلق عليه المؤلف عنوان " المواجهة " ليكون الجلسة الاخيرة للمحاكمة واطلاق قرار الحكم عندما يجمع الاطراف في صالة فندق بغداد وتتولى الملكة عالية والدة الملك بتوجيه السؤال الى الزعيم عن الاسباب الذي دعته لقتل الملك فيجيبها الزعيم بكلمات لا تخلو من اعتراف وندم (يا سيدتي .. ما حدث قد حدث .. انها مشيئة الله ص 99) ويقر عبد السلام بعذاب الضمير الذي نالاه جراء جريمتهما (ولم نهنئ لا بقتل من قتل ولا بحياة آمنة ص 100) ويختتم المؤلف روايته بمشهد خروج موكب الضحايا وقاتليهم من بوابة فندق بابل في اشارة الى نهاية عهد دامي وكان في توديع الموكب عهد دامي جديد يمثل صدام حسين وسلام عادل وكامل الجادرجي وصولا الى عهد دامي اخر ابطاله عمائم مختلفة الالوان .

لقد حاول المؤلف ان يقف على الحياد والنأي بنفسه عن الانحياز الى احد اطراف ذلك اليوم الدامي الا انه لم يتمكن من اخفاء تعاطفه مع محنة الاسرة الهاشمية عندما لم يتعرض الى سيرتها السياسية ولم ُيظهر من خلال حوارات ابطال روايته الاسباب والتراكمات التي ادت الى احداث صبيحة يوم الرابع عشر تموز لذا ظهر المؤلف في روايته ناقدا اكثر منه روائيا .

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم