قراءات نقدية

قراءة في رواية "مفاتيح البهجة" للأديب الفلسطيني عُمَر حمَّش

الرواية توثّق ما جرى من أحداثٍ ومعاناة داخل فلسطين ومخيمات اللجوء، بدءاً من زمن النكبة وبداية الإحتلال والتهجير، وصولاً الى زمن نكسة العام 67، فأتت على شكل بقايا صور عالقة في الذاكرة، أوردها الكاتب على لسان عدّة رواة بدءاً من الجدّ والجدّة مروراً بالأب والأم وإنتهاءً بما عايشه الراوي الشاب، والمُلفت في هذه الرواية أنّ الكاتب تَفَلتَ من ذكر الأسماء لهؤلاء الرواة، وكأنه بذلك يقول أن ما ورد على ألسنتهم هو لسان حال كلّ فلسطينيّ وفلسطينيّة عايش تلك المرحلة، فالمعاناة واحدة، وقد طالت شظاياها كلّ نسيج المجتمع الفلسطينيّ آنذاك..

"مفاتيح البهجة" وإن كانت تشير إلى الواقع الفلسطيني إبّان النكبة وما تلاها، إلّا أنّ ما يُسجّل للكاتب، أنّه بالرغم من تلك المآسي والعذابات التي وقعت على الشعب الفلسطيني، فقد جاءت كتابته لها بأسلوبٍ ولغةٍ رصينةٍ هادئةٍ وهادفة في آنٍ معاً،ّ بحيث تستفزّ القارىء وتحثّه على الإيمان بالأمل وبغدٍ أفضل، وتدعو الى ضرورة التمسّك بحقّ العودة مهما طال الزمن ومهما أُسيء التعامل مع تداعيات الأزمة. فقد تضمّنت فيما تضمّنت ما يشبه القراءة الموضوعيّة وشبه السياسيّة لمُسبِبَات هذهِ النكبّة وما تمّ التعامل مع تداعياتها بما هو دون المرتجى.

من المسلّم به أنّ الأدب هو وليد بيئته أو هكذا يجب أن يكون، فللأدباء والمثقّفين دورٌ مهم وأساسيّ في الإضاءة على قضايا المجتمع، وهذا حال معظم الأدباء الفلسطينين الذين كتبوا عن الحرب والنزوح وآلام اللجوء والشتات،وأيضاً عن الأمل والصمود والوعد بانتصارٍ قادم. وبهذا يكون الأديب محارباً ومناضلاً ثقافيّاً يعمل على نشر الأفكار الإيجابيّة والبنّاءة، وتكون الأعمال الروائيّة والأدبيّة الفلسطينيّة عبارةً عن ما يُسمّى "النضال بالأدب"، ورزاية مفاتيح البهجة تندرج ضمن هذا الإطار.

هي ليست مجرّد رواية تضيء على الهَمّ المجتمعيّ المقهور، وألم المعاناة في مخيمات التهجير، بل إنّها روايةٌ تناضل بالكلمة، وتواجه بالأدب. وإن كان القلم والخيال يبدوان أسلحةً ضعيفةً وهشَّةً في مواجهة آلات التدمير ووسائل الفتك، إلّا أنّهما حتماً سيكونان الأصلبُ والأقوى، ففي البدء كانت الكلمة والبقاء حتماً سيكون لها.

بإستذكار الماضي الجميل قبل النكبة، تبدأ الرواية لتصف لنا الأمّ مواسم الزرع في مجدل عسقلان، حيث المواسم كانت تُفرح الكبيرَ قبل الصغير، وكيف أن من بين الطقوس والعادات في عسقلان  تسمية أسابيع شهر نيسان الأربعة بأسماء ودلالات معينة، فالجمعة الأولى منه  تُسمّى التائهة، كونها تمثل بداية الشهر، والثانية النبات، وفيها تكون الأرض قد استكملت زينتها، والثالثة مُخصّصة لزيارة القبور والتّرحُم على ألأموات، واستجداء عطف الخالق في شأن مخلوقاته، أما الرابعة والأخيرة فسُمّيت بالحلوات، نسبة لما يجري من ابتهاج، ولما يُصرف فيه على صناعة الحلويّات.

كثيرةٌ هي المحاور والمفاصل التي تطرّق إليها الكاتب، ولو بإشاراتٍ مختصرةٍ أو عابرة، فقد تحدّث عن مسألة النزوح واللجوء وعمليّات التهجير، وكيف لم يغِب عن الفلسطينيّ الشعور بالأمل، وأنّه سيعود يوماً إلى موطنه، لذا فقد كان حريصاً على الإحتفاظ بأوراق الطابو ومفاتيح البيوت. وأيضاً كان للمجازر والإنتهاكات التي مارسها المحتّل حيّزا لا بأس به، ولكي لا ننسى ما تعرّض له شعب فلسطين من نكبات، يُعيدنا الكاتب إلى وصف بعض ما جرى وما ارتكبَهُ المُحتلّ من مجازر، ففي مجزرة خان يونس مثلاً كانوا يدفعون الأبواب ويُسمَع صوت الرصاص، وصراخ من يهوون خلف الجدار لتنجلي هذه المجزرة عن أكوام من الشهداء والجرحى.

هذه النكبة التي تعرّض لها الشعب كان لها تداعياتها المُرّة على ظروف حياته اليوميّة والمعيشيّة اضطرّته للإنتظام في طوابيرَ أمام مكاتب الاونروا طلباً للحصص الغذائيّة وبطاقات التموين، وقد إستفاض الكاتب في توثيق عذابات العيش في مخيّمات اللجوء، والفُتات الذي تقدّمه وكالة الاونروا المعنيّة ببرنامج غوث وتشغيل اللاجئين التابع للامم المتحدة، فتحدّث عن الطوابير التي تنتظر أن يُكال لها الإعاشات، أو أن تُمنح صُرّة من صُرر الملابس المستعملة.

لقد أثبتت الأيّام ماضياً وحاضراً، أنّه عند تفلّت الأوضاع وانعدام الأمن والطمأنينة، عادةً ما نجد بروز ظاهرة الإنتهازيّين والمستفيدين، الذين يخفون حقيقة وضاعَتهم خلف قناع الثورة والإدّعاء بمساندة القضية، كما تبرز ظاهرة الخيانة والتعامل مع المحتلّ وإستغلال الظروف، وهذا ما جسّده الهوّاري الذي نعم بظروفٍ معيشيّةٍ أفضل من بقية جيرانه، وما حفلة طهور ولده ومظاهر البذخ والترف، سوى دليل على ذلك، وقد إستطاع هذا الهوّاري أن يُقنع الجميع ويوهمَهم بأنه الفدائيّ المغوار، وما هو بالحقيقة سوى سارق البرتقال الذي  يبيعه من خلال شبكة توزيع متمثّلة بكمال الخبّاز والمرأة ربيحة، هذا الهوّاري مع رفقته، كانوا أول الذين إرتموا في الماء وتعلّقوا بحافّة المركب للهرب من المواجهة، وأيضا نجد السلّال المغربيّ الفقير الذي زرعه المحتلّ ليكون عيناً له لمراقبة سكان الحيّ، عاش وسطهم، وبعد دخول المحتلّ وإقتياد الشباب وإعتقالهم، إختفى ولم يُعرف مكانه، هذه النماذج التي يمثّلها الهوّاري والسلّال وممارساتهم هي التي أدخلت الشكّ قي نفوس الناس وجعلت والدة الحنتوت تُمسك بخصلةٍ بيضاء من مقدّمة شعرها وتهزّها، وتصيح: - أقصّ شيبتي إن رجعتوا للبلاد.

غالبا ما نجد أن  معظم الكتابات الفلسطينيّة تقارب بشكل أو بآخر ظاهرة العمل الفدائيّ، وفي روايتنا هذه إشارة ولو بشكلٍ عابرٍ إلى بداية العمل الفدائيّ الذي جسّده كلٌّ من الفدائيّ سرحان الذي أستشهد وهو يقاوم، وأيضاً معلّم اللّغة العربيّة الذي أسس لبداية التظاهرات وواجه المُحتلّ وإستطاع النجاة من قبضته، ولم يجد الإحتلال وسيلةً للإنتقام منه سوى بهدم كوخه وتشريد عائلته، أضف إلى هذا، الإعلان عن تأسيس جيش التحرير وتدريب الأفراد وتوزيعهم إلى كتائب، لكن غياب التنظيم وسوء التواصل بين المجموعات كان ظاهراً للعيان وهذا ما عبّر عنه الضابط وهو ينادي يا قيادة يا قيادة ولا من مجيب، فألقى بالهاتف أرضاً، هذا الضابط الذي إستشهد لاحقاً بعد أن نصب وسط الشارع رشاشه، وهو يُقسِم  ألا يمّروا، ولما جاءت الدبابات ظلَّ يُطلق النار حتى اخترقت القذيفةُ صدرَه.

ويبقى الأمل والإتّكال على الذات هو الدافع والمُحفِّز للبقاء والتشبّث بالحقوق، ووحده والد الراوي الشاب من كان يملك رؤيةً ثاقبة وواضحة لما يجري، ولم تكن تقنعه الظواهر والبيانات الإعلاميّة الآتية من صوت العرب، حيث كان المذيع  يفاخر بأنّ طائرات العدّو تتساقط كالذباب، أخفض صوته ونكّس رأسه  وقال إنتهينا، وأكملَ عندما هجّرونا كانت ذات اللّغة، لتلتقط زوجته  جهاز الراديو متوجهةً إلى ابنها قائلة: خذه إلى مُجَمّع الزبالة.

أمام هذا التخاذل الذي ظهر في عدم النصرة الحقيقيّة للفلسطينيّ، يبقى الأمل معقوداً على هذا الشعب نفسه، فما حكَّ جلدك مثل ضفرك، ولذا فإنّ والد الراوي يدعو للإعتماد على النفس وعدم انتظار المعونة من أحد، يقول:" لا تنتظروا أحداً خارج حدودنا .. تناسلوا فقط .. املؤوها من البحر إلى النهر .. زوّجوا بناتِكم بصبيانِكم ،وسلّموهم الطابو والمفاتيح، إلى يوٍم يقضي فيه الله بيننا".

لم يغفل الكاتب عن ذكر بعض مشاهد الحرب، وكيف أن كلّ طائرات مصر قد دُمّرت وهي على مدارجها، ووصل جيش الإحتلال إلى قناة السويس. أمّا في الأراضي الفلسطينيّة فقد  جاءت الطائرات وألقَت براميلها  وقتلَت الكثيرين، حتى أنّهم استهدفوا الجنازات فوق القبور، وتشتّت عسكر مصر بعد محاصرته في الفالوجا؛ فسارعتْ الناسُ للهرب وكلّ ما أخذوه شهادات الطابو، ومفاتيح بيوتهم، والتحقوا بالعسكر الهاربة غرباً، ومن على تلال الشاطئ، كان الكبار يحملون الصغار والعجائز، ويتوجهون جنوباّ إلى غزّة.

وينتقل الكاتب بعد ذلك لوصف ممارسات الإحتلال وكيف أنّ من بقي من السكان، إرتضوا بالعيش داخل السياج، وقبلوا أن يكونوا عمال قطافٍ في بساتينهم المصادرة، ناهيك عن عمليّات الدهم والإعتقال، فكان المحتلّ يتوجّه بالنداء لأهالي المخيّم : على الرجال  من سنّ ١٤ إلى سنّ ٦٠ الخروج إلى ساحة بركة المجاري، أو " يا أهالي مخيّم جباليا  إنذار، إنذار .. الجيش يُفتّش بيوتكم، وسيقتل كلّ من تخلّف فيه".

كذلك وفي سبيل محاولة  طمس الهويّة الفلسطينيّة، يورد الكاتب كيف أنّ المحتلّ يأمر كل من تجاوز عمره الستّة عشر بالتوجّه إلى مبنى الجوازات في غزّة  ليغيّر بطاقته، بأخرى جديدة، تتوسّطها نجمة داوود.

ختاماً، مفاتيح البهجة رواية جديرة بالقراءة، وإن كانت قد وصفت الواقع كما هو، إلّا أنّ الكاتب ترك للقارىء مهمّة وضع النهاية المرتجاة والتي تتناسب وحجم القضيّة وقدسيّتها.

***

عفيف قاووق – لبنان

في المثقف اليوم