قراءات نقدية

تمثّلات المفارقة والتقنيات الدرامية في مجموعة: هذا ما حدث في مطار بغداد

تستأثر القصة القصيرة الاهتمام الاستثنائي على مستوى الخلق الفني والمعاينة النقدية واستجابة التلّقي كونها تنطوي على خطاب ليس من السهل الإمساك به بيسر وسهولة فهو أقرب إلى ما يصطلح عليه بـ(الفن الأصعب) و(السهل الممتنع)، فلا إغراء اطلاقاً بالاختزال والقصر فلا يمكن قياس الأفكار والثيمات (الوجودية) الكبيرة بالحجم والمساحة والتراكم الاستطرادي، وتبقى أسرار الكتابة للقصة القصيرة لدى القاصة تماضر كريم مرهونة بعوالمها السريّة وشفراتها المختزلة وهي تتوغل في سحر اللحظة الهاربة وتجسيد الومضة الدالّة ومن خلال انتقاء الشخصيّات المأزومة والملتبسة، شخصيات تتسم بروح الفردانية المتوّهجة وهي في خضمّ الصراع مع المحيط (السيوسيولوجي) والمكاني اللّحظوي الذي تكابده وهي تكشف عن فداحة التناقض عبر استبصار المفارقة التي تكشف التناقض بين الذات والموضوع، والشخصيّة والموقف، والإستهلال والخاتمة والمغزى أو المحتوى الإنساني وبين أنساق الشكل التعبيري التي تتشكل منها تلك الاطلالة الذكية على واقع متّسع إنَّه اختزال للحظة تعكس أفقاً شاسعاً وموقفاً وجودياً ولذا نجد أن نمط الشخصيّات في القصة القصيرة تختلف عنها في أجناس السرد الأخرى كونها تكوينات وإشارات وعوالم ثريّة وهي عبارة عن سؤال وجودي ولحظة تجلّ عميقة وثرية ولقد وجدنا ضرورة هذا الإستهلال القصدي لتأسيس قصديّة المقاربة النقدية لمجموعة القاصة الواعدة تماضر كريم (هذا ما حدث في مطار بغداد) الصادرة عن (دار أبجد للترجمة والنشر- الحلّة 2023) ومنذ الدلالة المكانية وتأطير الحدث (المفارقة) يضعنا العنوان إزاء عوالم قصصيّة ترصد نماذج من الأبطال الحالمين، العالقين والمتمركزين حول ذاتهم وعوالمهم الخفيّة وهم يقاومون (الخارج) بالتطلّع ومحاولة التواصل والتماهي مع الواقع أو بالابتعاد والرفض والانكفاء على خيارهم وتكوينهم الداخلي؛ لذا نجد معظم القصص تشتغل على هذه الثنائية من صراع الذات مع نفسها أولاً ومن ثمّ صراعها مع الخارج، وبما يفضي إلى نوع من الصراع (السايكولوجي) وغالباً ما يتوّج هذا التناقض بحدوث المفارقة، نظراً للمسافة التي تفصل بين حلميّة و (نوستالوجيا) الشخصيّات وبين تعقيدات الواقع واشتراطاته اليوميّة.

وأغلب شخصيّات المجموعة تعاني وضعاً قلقاً وهي تنشطر باتجاه (فعل وقناعات الذات) وبين الانجراف أو الميل إلى ما يتطلبه (الموقف) الخارجي الذي يميله الواقع في حركيته وتحوّلاته التي قد تشكّل نقطة الصدام والافتراق بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي وغالباً ما كان أبطال المجموعة يعبرّون عن صورة هذه المفارقة عبر تمثّلات متباينة ومختلفة بالرفض أحياناً أو التمرد أو القبول أو الاكتفاء بالتأمل والعودة إلى الذات.

وقبل أن نتناول نماذج رئيسية في هذه المجموعة نجد من موضوعية التحليل الإشارة إلى بعض الظواهر الفنيّة منها، إتصّاف القصص بالاختزال الشديد والرشاقة والتكثيف السردي والابتعاد عن الاطناب والاسترسال المخلّ بحركة التتابع، وهذا ما جعل النصوص تنطوي على ايقاع – صوري سريع – يُعنى بتوصيل الفكرة من دون إطناب أو فائضيه أو ترّهل سردي، إلى جانب سيل العناوين إلى استخدام كلمة أو اشارة أو مفردة موصوفة واحدة أو أحياناً جملة اسمية واتَّسم القص أيضاً ببراعة الاستهلال ومحاولة الاشتباك المبكّر مع الحدث من دون لفّ ودوران إلى جانب العناية بوضع النهايات التي تعمّق روح المفارقة التي تعكسه وتتمركز حولها نصوص المجموعة فالقاصة تماضر تتقن فن النهايات القصصية ففي قصة (قرار) نرى الحبيبة مترددة للسفر مع الحبيب المهاجر وهي (عالقة) بالعناية بأمّها المريضة وأختها وتنشطر في لحظة تجلّ بين اللجوء إلى حقيبة السفر التي طالما أعدّتها، وبين رفض فكرة ترك عالمها القديم، وهذا هو خلاصة الصراع في هذه القصة... إنَّه صراع داخلي متصاعد، "أنا وأمّي وشقيقتي وحفنة من الحزن المتراكم وأشجار الحديقة الكالحة والكتب المهجورة، لم يتغيّر شيء البتة عدا أنّي أفكر الآن في اللّحاق بك، لا يمكن أن أسحق رغبات هذه الأرواح للأبد، كل يوم أعدّ حقيبتي هل تدري؟... وأتفقد جواز سفري ثم ألقي نظرة على أمي وشقيقتي وهما نائمتان، أنهما في حاجة إلى من يغطّيهما، إذا صرت إلى جانبك لا أعلم من سيفعل ذلك". (المجموعة: 6). ومن ثمّ فإنّها كانت مشدودة إلى عالمها الداخلي ولم تستطع أن تحسم الأمر، وهي قصّة تشير بطرف خفي إلى ما فعلته الهجرة من تبعثر الواقع وانشطار الذات والمفارقة. أنّ عنوان القصة (قرار) غير أنّ (التردد) هو الذي يشيع فيها وتلك مفارقة أخرى، والجميل أن القصة اكتفت بالساردة بلا اسم لتدل على كل النساء وبضمير المتكلم والسرد الذاتي وهي تتحدّث عن رجل بضمير المخاطب لحضوره الروحي على الرغم من هجرته.

أما قصة (الحالمة ورجل الدين) فهي من النصوص الثرية والحاذقة في تجسيد روح المفارقة عبر تمثّل أحداثها، فالبطلة (حالمة) و (عالقة) بفكرة الزواج من (رجل دين) كونه يمثّل لها صورة للمثالية والتصالح والصدق الذي ينادي به دوماً، ويتحقق حلمها هذه المرّة وتتنامى روح المفارقة حين تكشف بعد زمن أنه أقدم على الزواج (المؤقت) من امرأة أخرى ويجن جنونها وتكتشف حجم الخديعة، ويبدأ الصراع بين الذات والآخر أو بين داخل الشخصيّة وخارجها أو بين الحلميّة والكابوس وندرك أن المفارقة بوصفها فعلاً تناقضياً تشتغل أو تستثمر هذه الثنائيات وغيرها التي أوصلت البطلة إلى حافة التأرجح: "لقد اشتد دوار الأرض بيّ وغلبني الغثيان، لا أتذكر أنه كان احساساً بالغيرة أو الغضب أو الألم، كان ثمة احساس بالخذلان والخجل، لا أعرف مم كنت أخجل... من نفسي... من حلم الطفولة؟ لم يكن بحوزتي الوقت الكافي للنسيان، فقد تكررت لحظات صدقه القاتلة، وتكررت الأسباب، كان يتزوجهن بدافع الشفقة أو الحب أو صيانة لهن من الوقوع في المحرّم أحياناً، لأنه يرغب بذلك فقط هكذا كان يأخذ كفي ويقبلها ويخبرني أني المرأة الأغلى". (المجموعة: 13- 14). والساردة المشاركة أيضاً بلا اسم وكذلك الزوج لأن القاصة أرادتها مشكلة إنسانية وليست خاصة وتجسد في قصة (دعوات ضائعة) حالة انسانية متقدمة حين تقف الزوجة مع زوجها الذي أصيب بداء السرطان وتبقى معه تعينه وتساعده وتقدّم له العلاج وكان سّر عذابها أنّه يذوي أمامها وهذه المفارقة بين حبّها له ووقوعه بهذه المحنة هي مفارقة قدريّة ذات معنى (فسيولوجي) بينما نجد المفارقات الأخرى قد يكون سببها الدافع الاجتماعي أو النفسي أو الاقتصادي (أو المصادفاتي)، كما سنرى "وجدته جالساً بهدوء كانت كفاه مفتوحتين بطريقة ما، وعيناه نحو السماء.. متى تفهم أن لا شيء سوف يتغير، الأمور تمضي لحالها هنا، هل تعرف حسبتك ميتاً، تعال معي إلى الداخل، تعال ننتظر المعجزة يا عزيزي، لن أصدّق الأطباء الذين قالوا: أيّامك معدودة، وجميع الأطباء كاذبون ستشفى وسنخرج معاً من جديد، اضطررت إلى جرّه نحو الغرفة كان ساكناً تماماً مثل جثّة، وضعت الوسادة تحت رأسه"(المجموعة: 20- 21)، والقصة أيضاً بلا اسماء للشخصيّات والقص بضمير المتكلم في (سرد ذاتي) والنهاية رغم قساوتها فيها تعاطف انساني مؤثر. من النصوص المتميزة بعمق الفكرة وجمال المفارقة، ما نجده في قصة (حدث عند النهر) وتلك العلاقة الإشكالية بين المرأة والرجل الذي يقودها إلى حافات المغامرة والخوض في المخاطر واقتحام الحياة بسبب أن طبيعة الحياة وطقوسها وقواعدها تتطلب من الإنسان أن يكون شرساً متماهياً مع الصخب والمخاطر وتعلّم كل أنواع المغامرة بكل شيء لكي يكون (انساناً سوياً)، والقصّة بالسرد الموضوعي أيضاً بضمير الغائب والمخاطب "ستحتاجين أن تكوني ذات قبضة حديدية ذات يوم، العالم ليس آمناً، تحتاجين حتّى أن تبصقي وتشتمي وتركضي من الخطر وتقفزي نحن بلد متوحّش واعداؤنا كثيرون وأنا لن أكون بجانبك دائماً". (المجموعة: 28)، ويقودها الى كل مغامرة حتى استعمال السلاح وقتل الطيور بضراوة لم تتوقعها وهي مستسلمة لتوجيهاته، وهنا نجد الذات المتصالحة مع عالمها وهي تخرج تحت سطوة المفارقة التي يفرضها الواقع، تخرج باتجاه عوالم أخرى متناقضة مع قناعاتها ورسوخها الذاتي، والقصة تطرح بنسق فكري واقعي القيمة التي تكمن في الاضطرار لخلق كينونة متماهية مع الواقع، ونحن نرفض هذا الواقع ولكن المنطق الغريب يفرض علينا السير معه والانغمار فيه ونجد هنا افرازات هذه المفارقة الفادحة والوضع الإشكالي الذي ينتج عنها الاضرار التي تحدث بسبب بؤر الصراع والتناقض سواء أكانت اضراراً ذاتية أم موضوعية، واتسمت القصة بالاختزال والتكثيف وعمق المعالجة ورصانة الفكرة واختيار زاوية الصراع وتناميه، وبقيت بلا ذكر لأي اسم للشخصيتين.

وفي قصة (ارتطام) هناك تمثّل لمفارقة (قدريّة) حين يتعرض الشاب الحالم بلقاء أمّه التي رحلت من أجل جلب الزهور لها، يتعرض إلى حادث ارتطام لم يتضح سببه يحرمه من هذا الحلم ونرى أغلب الشخصيّات تعاني هذا الارتكاس بين الحلميّة والكابوسيّة بين رسوخ الذات وصخب الآخر أو المحيط أو الصراع الناشب بين الداخل والخارج، بأسلوب موحٍ ومؤثر، تجعل القاصّة الشاب يسرد ما في نفسه ويحس بحاضره وهو ميت تلك مفارقة فانتازية، إذ نجد معاناته مع زوجة أبيه وحلمه الأثير بزيارة الأم التي أحرقت نفسها ورحلت، والقصة عبارة عن شفرات متتالية وكأنّها عبارة عن (ارتطام) لا هوادة فيه عبر سرد (موضوعي) بضمير الغائب أو سرد (ذاتي) بضمير المتكلم ومتخيل سردي وعمق مؤثر. "كنت أريد أن أصمت، لم أمت... أنا هنا... بخير لكن الصمت بدأ يخيّم على المكان، كأنّه غياب أمي الطويل". (المجموعة: 33)، هذه قصّة تعدّ انموذجاً لإبداع قصصي واعد للقاصة (تماضر) قصّة تنطوي على بعد إنساني ومفارقة قدريّة وتكشف عن الخلل بين الذات والمحيط الآخر. بين الحلم والكابوس وهي أيضاً تخلو من أسماء الشخصيّات التي تغيب كثيراً لدى القاصّة لتركز على الحدث عبر شخصيّات إنسانية عامة.

ونجد في قصة (الألم) تجربة في القصة التي تعتمد المفارقة المؤطرة برمزية الإدانة واقع السياسة وكأنّ العملية السياسية وتعثراتها وقبحها يشبه وجع وتسوس ونخر الأسنان وهي تعاني أشد وأشرس انواع الألم، "لم تنتبه لدموع أمّها ولا لصوتها وهي تصفها بالجنون كانت تستمع إلى الأخبار ويدها على خدّها المتوجع آه: هل سمعت يا أمّي.. إنهم يشكلّون الكتلة الأكبر.. تعالي وأنظري إليهم أنهم يتحالفون، لم تلحظ انكفاء أمّها وسكونها العميق في زاوية الغرفة". (المجموعة:36)، وقد هيمن على القصة (السرد الموضوعي) بضمير الغائب وبتقنيات المفارقة الساخرة من الوضع السياسي وألم الفراق.

أمّا قصّة (منشان الله) فهي تصوير لمفارقة مهنة الاستجداء التي انتشرت من قبل النساء والأطفال العرب والعراقيين في بغداد وما يحدث من المفارقة بين الحاجة والخداع والصدق والكذب، وهي قصّة تسلّط الضوء على اليومي والمهمل في الواقع الاجتماعي، إذ عادت القاصة للسرد المحبب إليها أعني (السرد الذاتي) بضمير المتكلم مع غياب اسماء الساردة والشخصيات، وفي قصة (خواكين فينيكس) نجد تماهياً أو تعالقاً بين البطل (الأستاذ الجامعي) أو بين هذه الشخصيّة الغريبة من فلم (الجوكر) وما يعانيه البطل من تقمص هذه الشخصيّة وما يثيره سلوكه من غرابة أمام الطلاب، والقصة اشتغال على البعد (السايكولوجي) والجدل بين الذات والآخر والذات مع نفسها بسرد ذاتي نفهم منه أنَّ السارد رجل متزوج جاهل.

أمَّا في قصة (أم) فنجد المفارقة بين موقف الأم والأبناء والمعاناة الأزلية بين التضحية والإيثار وبين الأبناء الذين تأخذهم الحياة بعيداً، ولأول مرة تقوم القاصّة بذكر اسمي ابناء الأم وهما (فرح) و(أحمد) وفي سرد مختلط بين الذاتي والموضوعي ولعله يعزى إلى دلالة الاسمين سيميائياً بالنسبة للأم، ومن نصوص المجموعة التي تركز بشكل استثنائي ومتقدم بالتقاطة ذكية لمفارقة المسكوت عنه ما نجده في قصة (طبق المقبلاّت بالدموع) تلك المفارقة التي تبدأ بالعنوان وتجسّد ما يقوم به عمال المطاعم من عدم الاهتمام بالطعام ونظافته بل نجد كثيراً منهم يعبث بحياة الآخرين مع أنّ الزبائن يتوجهون بشراهة لتناول أطباق الدموع وربّما الموت. "تلك الفتاة ذات الشعر الأشقر المرفوع مثلاً تلك التي تبدو مثل ملكة اسكندنافية تمدّ يدها آمنة إلى صحن المقبلاّت وتأكل بشغف وتدير فكّها بنعومة". (المجموعة: 75). وحين يعترض أو يتحسس بطل القصة ممثلاً بالطالب الجامعي فهو لا يجد سوى إهانة وشتيمة من صاحب المطعم وطرده خارج العمل وتلك هي المفارقة المؤذية.

ونلحظ في هذا النص تكرار لنمط الصراع (السايكولوجي) والحياتي بين الشخصية الرئيسية والواقع الذي يحاصرها وأساس هذا الصراع قائم على التناقض القيمي بين رسوخ الذات ومتغيرات المحيط ويتفجّر الموقف بحدوث المفارقة التي تحرك مصير الشخصيّة وتقرر نهايتها أو التاثير في (فعلها الذاتي) فمن المؤكد أن قوّة الفضاء الاجتماعي الخارجي وموروثاته ونظمه وقواعده أقوى من تأملات أحلام وتطلعات الروح الفردانية التي تجسدها أغلب نصوص المجموعة، وهذه القصّة فيها عنصر الحوار الرشيق مع تنوع أساليب السرد ونعثر على روح المفارقة تتجلّى باتجاه حدوث (فوبيا) لبطلة قصّة (مجانين) التي تصاب بمفارقة الخوف من شخصية المجنون على الرغم من أنها تسكن قرب أربعة منهم وتظل تكابد هذه (الفوبيا) وكأنّها ترفض واقعاً لا يتساوق مع توجهها الداخلي وهي مفارقة تنتمي إلى نمط الاختلال العقلي والبيولوجي الذي يؤدي إلى صراع سايكولوجي اجتماعي.

ويتموقع نص (هذا ما حدث في مطار بغداد) في بؤرة متصدرة ومتميزة لما انطوى عليه من مفارقة فادحة وتجسيد يقترب من المسحة الغرائبية التي تضمنّت انتقال الحدث من الواقعي والحلمي إلى النسق الغرائبي وهذه المرّة تتدخل المصادفة الطبيعية في تحقيق حلميّة البطل، ولكن على حساب واختلال الواقع المحيط وهذا إيحاء بأنّ هيمنة الذات وتفعيل الحلم أو الفعل الذاتي لا يأتي إلاّ بخلل يصيب الواقع أو المحيط الخارجي وبهذا نجد الشخصيّة ذات الانكفاء الذاتي وقد حققت بعض وجودها أو حلمها أو تطلّعها وكانت الفكرة قد صيغت على منوال النسق الغرائبي وصولاً إلى هذه النتيجة أو الكشف عن أبعاد الصراع بين شاب يحلم بفتاة يلتقيها في المطار وتحدث علاقة حب ويتفقان على كل التفاصيل، أي تفاصيل الحلم الذي أرّقه كثيراً وهو يدرك بأنّه حلم عصي وأمنية تقترب من الإستحالة، ولكنه يتحقق بصدفة رومانسية، "وأنا هنا وحيد مع حقيبة سفر، وحلم جامع ورغبة في الحديث والضحك والمشاركة في الطعام معها، تلك التي ستأتي، كما رسمها كتاب الروايات والقصص، ربّما في البدء ستمرّ بشكل عابر تسألني عن مكان ما في هذا المطار الكبير، بعدها تتشكل الكلمات والأفكار لتنتج حديثاً، انبهر بعينها السوداوين ويديها وصوتها وألمح حزناً وحكايات خلق حديثها المقتضب وصوتها ذي البحّة العذبة". (المجموعة: 105)، ويردد البطل بؤس حالته في هذه الحلميّة ويشبّه نفسه بأحد أبطال كافكا، وهنا يتم زج طاقة (المفارقة) التي تأتي بفعل الطبيعة والحدث الخارجي والأقرب إلى القدر الرومانسي ليجتمع الشاب مع الفتاة من دون أن تسافر في طائرة أخرى فلقد حدث في المطار حريق كبير التهم جوانب وأمكنة وصالات كبيرة مما أربك الوضع وتأجّل كل شيء، ولكن المهم حدثت المفارقة غير المتوقعة بلقاء الشاب مع فتاة حلمه العصي بعد أن أنتهى كلّ شيء إلى الحريق والرماد والتبعثر، "كان الدخان كثيفاً وسقط كثيرون وارتبكت حركة الطائرات وتناثرت بعض الحقائب من دون أصوات سيارات الدفاع المدني والاسعاف.. لكني كنت مطمئناً، هادئاً جداً أمسك بيدها الصغيرة وأخبرها أنّ كل شيء سيكون بخير"(المجموعة: 109)، وقد أجادت القاصّة تماضر اختيار عنوان القصة حين جعلته عنوان المجموعة لأنّه يثير تداعيات ما حدث في المطار عند احتلال بغداد، فالعنوان حقق دواعي الدلالة والإغراء وإن كان يوحي بكتاب تاريخي يرصد أحداث المطار في يوم احتلال بغداد، لكنّ القاصة بلعبتها السردية أبعدت المتلقي عن كل ما توّقعه حينما خيبت أفق توّقعه لصالح النص.

ونجد انموذجاً آخر ينطوي على فكرة المفارقة الغرائبية في قصة (بقعة ضوء) وحضور تلك الفتاة في جلسة شعريّة وتجد نفسها قد عبثت بهدوء الجلسة واربكت كلّ شيء.. "لم استطع السيطرة على نبضات قلبي المتسارعة فقد كانت النظرات الغاضبة تجلدني كلّما ارتفع صوت الشاعر لقد عزموا على طلب سيارة الاسعاف، بدا الأمر خطيراً، قال احدهم قد يفقد نظره، ياللهول.. سيحاكمونني ويزجّون بيّ في السجن كانوا لا يزالون حوله يتكلمون بصوت عال وقد تباينت الآراء". (المجموعة: 117)، وهيمن السرد الذاتي بضمير المتكلم على القصّة مع شعور بالصراع بين الذات والواقع. ووفق هذه المقاربة النقدية نقول إنَّ هذه المجموعة تؤشر على تجربة واعدة وطريفة لاسيما في حقل القصة القصيرة التي شهدت بعض الانحسار بسبب المدّ (الكمي) الذي حققته الرواية ولكن الحقيقة والمنطق يثبتان أنّ لكل نوع أو جنس أدبي مساحته ومجال تألقه وانبعاثه على يد مبدعيه ومساحات اشتغاله وبراعة هذه المجموعة وجماليتها تكمن في توظيف المتخيل السردي ودمجه بالواقع وتمركزها حول استثمار المفارقة بطريقة فنية عالية وتجسيد تمثيلاتها في تناول كثير من الأزمات والمواقف الحياتية وتفحصّ دلالة الصراع الناشئ بين الذات أو الفرد الذي يتميّز برسوخ (الأنا) والتصالح مع أحلامه وباتجاه صراع يكشف الخلل والقطيعة والتناقض بين إرادة (الذات) والموروث التراكمي للواقع الاجتماعي وصيرورته المتواترة وجمالية التناول، تمركزت أيضاً حول تنويع تجارب هذه المفارقات التي كشفت عن أزمة البطل إزاء واقع محتدم وملتبس، عن تغييب اسماء الشخصيّات في مجمل قصصها وتكاد تكون ظاهرة عامة لديها في القصص التي ترصد ظواهر اجتماعية وتفسيري لذلك أنّها تجعل منها ظاهرة إنسانية وليست خاصة ببيئة محددة، وتنوعت أساليب السرد لديها غير أن (السرد الذاتي) بضمير الأنا هو المهيمن.

***

د. سمير الخليل

في المثقف اليوم