قراءات نقدية

الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـفولتير.. دراسة مقارنة (8)

صدَّق الفرنسيُّون زعم (أنطوان جالان Antoine Galland، -1715) في مقدِّمة ترجمته "ألف ليلة وليلة"، (باريس 1704- 1708)، أنها تُمثِّل: "الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه، من الخاصَّة إلى السُّوقة، والصورة الصادقة له، ومَن قرأها فكأنَّه رحلَ إليه، فسمعه ورآه ولمَسه لمسَ اليَد"(1).  ولذا ظلَّت "ألف ليلة وليلة"، طوال القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، تمثِّل للغرب، وللفرنسيِّين خاصَّةً، صورة الشرق الساحرة.  حتى ليمكن القول: إنَّ بعض جوانب الاستشراق إنَّما نشأت عن ردَّة فعلٍ لانتشار تلك القصص. (2)

وأهم الملامح في الأدب الفرنسي عن الشرق الإسلامي، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر:

1- تعسُّف الحُكَّام، واستكانة الشعوب.

2- امتهان المرأة.

3- كثرة النِّساء في القصور.

4- حراسة الخِصيان السُّود للنِّساء البِيض.(3)

هذا إلى جانب شرقٍ عجيبٍ تبدَّى في أدب القرن الثامن عشر الفرنسي، كان مليئًا بغريب الشخصيَّات، والجِن، والشياطين، والقُضاة، والخلفاء... وهَلُمَّ جَرًّا. (4)

وقد عرفَ الغربُ من كُتب الشرق "كتاب السندباد"، غير البحري.  وهو كتابٌ عَرَبيٌّ، فُقِد كأصله الهندي، إلَّا أنَّ له ترجمات فارسيَّة كثيرة، تُرجِم بعضها إلى العبريَّة والتركيَّة، وقُدِّر له أن يصِل إلى (أوربا) في القرن الثامن عشر.(5)

كما عثر (جالان) على قِصَّة "السندباد البحري"، مستقلَّة أوَّل الأمر.  فأضافها بين المجلَّد الثاني والثالث من "ألف ليلة وليلة" المترجمة إلى الفرنسيَّة.  ومن الثابت أنَّ هذا المترجِم كان يصوغ القصص بأسلوبه، ويُضيف بعضها أحيانًا، وربما حذف وبدَّل فيها لتُلائم الذوق الغربي.(6)

 ولقد أمدَّت هذه القصص الشرقيَّة الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، وغيره من الفرنسيِّين المصلحين، "برموز أودعوا فيها نقدهم الساخر، الاجتماعيَّ والسياسي".(7)

وإذ مرَّت في حياة (فولتير) فترةٌ قرأ فيها ترجمة "ألف ليلة وليلة"، شاقته، ولفتته إلى دراسة الشرق؛ "فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه".(8)  ومن ثَمَّ كتب قصصًا شرقيَّة كثيرة، كانت منها قصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، التي نحن بصددها في هذه الدراسة.  وقد كتبها عام 1748، ليُعالج بعض المسائل الفلسفيَّة الكُبرى، ولينقد بعض الأوضاع الفرنسيَّة في عصره.

ولقد كانت علاقة (فولتير) بالشرق الإسلامي، وبالعالم العَرَبي خاصَّة، أبعد من ذلك.  من شواهدها كتابته مسرحيَّة عن نبيِّ الإسلام، بعنوان "محمَّد"، عُرِضَت أوَّل مرَّة عام 1741.(9)  كما كان على اطِّلاع على ترجمات المستشرقين عن ثقافات الشرق.  وربطته صِلَةٌ بالعالِـم العَرَبيِّ (أبي زيد)، صاحب الشارع المعروف باسمه في (جنيف).  ولا غرو، إذن، أن يبدو متأثِّرًا بالشرق في أكثر مصنَّفاته ومؤلَّفاته، مثل كتابه "عصر لويس الرابع عشر"، و"زايير"، و"الأبيض والأسود"، و"الصوفا"، و"أميرة بابل".  ولا غرابة أن تأتي أكثر أعماله القصصيَّة مستوحاة من "ألف ليلة وليلة"، وإنْ بذوقٍ فولتيريٍّ خاص. (10)  

وللدراسة المقارنة بين عمله والنصوص العَرَبيَّة مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  العقيقي، نجيب، (1947)، المستشرقون، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 169.

(2)  يُنظَر: القلماوي، سهير، (1959)، ألف ليلة وليلة، (القاهرة: دار المعارف)، 53- 66.

(3)  يُنظَر: هلال، محمَّد غنيمي،  (د.ت)، الأدب المقارن، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 405.

(4)  يُنظَر: كبّ، هاملتون، (1954)، الأدب: (ضِمن كتاب "تراث الإسلام"، لجمهرة من المستشرقين، بإشراف: توماس أرنولد)، عَرَّبه وعلَّق عليه: جرجيس فتح الله المحامي، (الموصل: المطبعة العصريَّة)، 290.

(5)  يُنظَر: م.ن، 281.

(6)  يُنظَر: القلماوي، 5- 6.

(7)  كبّ، 290.

(8)  يُنظَر: طه حسين، في مقدِّمة (فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 8.

(9)  مع ما أبداه في ظاهر مسرحيَّته تلك من نقدٍ للإسلام، فقد قيل إنَّه إنَّما استخدمها للتعريض بالكنيسة الكاثوليكيَّة.  ولقد عبَّر في أعمال أخرى عن إعجابه بنبيِّ الإسلام وامتدحه. (يُنظَر مثلًا: مومزن، كاترينا، (1995)، جوته والعالم العَرَبي، ترجمة: عدنان عبَّاس علي، مراجعة: عبدالغفار مكاوي، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، 26، 142- 143).

(10)  يُنظَر: العقيقي، 1: 170.

 

في المثقف اليوم