قراءات نقدية

التقويل والتأويل في نصوص الشاعرة العراقية ناهدة جابر جاسم

إنّ المحاولات الكامنة في الجسد النصّي، هي أصعب مرحلة يُظهرها النصّ من قبل مؤلفه، لذلك فالظهور الذي يعتمده النصّ، وتحويل العلاقات من علاقات خارجية إلى علاقة ذاتية – نصّية، هي تلك المنبهات والمبيّنات والرموز والإشارات والعلامات اللغوية وغير اللغوية، فعملية توليد النصّ، تتبعه عملية توليد الرغبة في الكتابة، أي أنّ هناك مؤثرات وتفكّرات في مراحل إنتاج النصّ. ويلحق عملية خلق النصّ؛ كمنطلق نتاجي تأسيسي أو منطلق تشييدي، فيدخله المنتج في دورة الهدم والبناء، أو في دورة الإعادة والتشييد، وهي تلك المعمارية الهندسية وما يتبعها من عمليات عدة، نفسية واجتماعية ومعرفية ولغوية؛ حيث أن الإدراك اللغوي ينتج من خلال الإدراك الحسّي، وتعد اللغة ملكة ذهنية وإدراكية؛ (وأهمّ شعارات اللسانيات الإدراكية هو أنّ كلّ شيء في اللغة يخترقه المعنى  - مجلة أنساق.. المجلد الأول، العدد الأول – ص 19 – د. محي الدين محسب).

إنّ من أهمّ الاتجاهات التأويلية هي الإشارات والرمزية اللتان تدفعان تأويل المعاني بعدة اتجاهات، وهذه هي أفضل حالة للنصوص التي ندخلها بين الحين والحين، أو حالة المنظور المعتمد على التفكيك والتفسير، فالممارسة التأويلية تكون من نصيب المتلقي، بينما المؤلف هو المؤول، إن كان بصورة قصدية أو خارج القصدية، لأنّ الشاعر في بعض الأحيان يعتمد صورته التأويلية خارج التكلف، أي ضمن تلقائية الخلق النصّي، فيرمز ويشير، وجلّ أهدافه استقامة النصّ الشعري وكيفية تطعيمه بلغة الاختلاف لكي يكون مؤهلاً للفعل التأثيري والذي يتواجد إمّا من خلال حركة الأفعال، أو الصور الشعرية المباغتة للمعاني، وهي الصور التي تعتمد التجزئة.

يقف المتناهي على أبواب التحديد النصّي، وبما أنّ النصّ الشعري عبارة عن صورة شعرية كبيرة قابلة للتأويل، فإنّها لاتتقبّل المتناهي، لأنها تخرج عن الحدود وتكون ضمن المنظور اللامتنهاي، ولكن في نفس الوقت هناك قانون المعاني وإن تعدّدت فإنها ضمن الجامع النصّي، إذن الحدّ أو الخطّ الذي يرسمه الشاعر ضمن اللامحدود داخل المعنى النصّي، أي لانصّ يعلو على النصّ المنظور.

تحتم علينا الصورة الشعرية أن تكون بجاهزيتها وهي تكمل الأشياء الناقصة، فكلّ شاعر ينقصه المزيد خارج الصورة والتأويل، ولكي يغطّي هذا النقص النصّي نلاحظه يشمّر لكي يرسم البدائل المهمّة وإيجاد مالم يجده غيره، لذلك دائما هناك التجدّد والذي يؤدي إلى إبداع الشاعر في رحلته الشعرية.

ما نذهب إليه من خلال الآن والفعل الآني هي مجموعة الشاعرة العراقية ناهدة جاسم، حيث أنّها ومن خلال استقلالية الحدث الشعري استطاعت أن تقودنا إلى مجموعة شعرية تحت عنوان (التين الأسمر).

التين الأسمر: تحمل المجموعة عنوان إحدى القصائد التي كتبتها الشاعرة وهي تخاطب الآخر، وبما أنّ الشعر الحديث عبارة عن حوار داخلي – داخلي، أي أنّه حوار الذات للذات، لتستقرّ في الذات الحقيقية، وكذلك حوار داخلي خارجي، أي أنّ الآخر يكون حاضراً مع الفعل الآني، ومن هنا، يتشكّل القول من الحوار إلى التأويل، أي أنّ المعاني سترافق الحوار الداخلي – الآني، فيكون للفعل المتخيّل بنيته المتصلة في العالم العائم حول الذات الحقيقية.

الرجل الذي أدمنت عشقه

الرجل الذي تأمّل المطر على شبّاك غرفتي

ولحظات انتظاري في عصاري عمري

وعينيّ تسرق لحظات مروره في شارع أهلي

من فتحات جدران حائط السطح.

من قصيدة: التين الأسمر – ص 7 – التين الأسمر

عندما تنتقل الشاعرة من النصّ إلى الرؤية التي تتبناها تكون قد تخلّت عن ارتباطها الكتابي، وجلّ تصوراتها تذهب مع منطقة الفلاش باك ومن خلال تقنيتها وآليتها يعود النشاط الكتابي لتكوين بؤرة نصّية بين الفعل الآني المطلوب وفعل الفلاش باكي الذي ينصهر من خلال توظيفه بواسطة انفتاح الأفعال الحركية التي تلازم الفعل الكتابي.

الرجل الذي أدمنت عشقه + الرجل الذي تأمّل المطر على شبّاك غرفتي + ولحظات انتظاري في عصاري عمري + وعينيّ تسرق لحظات مروره في شارع أهلي + من فتحات جدران حائط السطح.

إنّ اللغة الوصفية تتحوّل من وصف شائع إلى لغة إبلاغية تتميّز بوضعها الجديد من خلال الفعل الكتابي الآني، فالشاعرة العراقية نهاد جاسم، بالرغم أنّ تفكّرها ذهب قبل سنوات مضت (تقريب منطقة الفلاش باك) إلا أنها تكتب بالفعل الآني وضمن تقنياته الحديثة، لذلك فالتصوير الذي اعتمدته ليس من خلال التصوّرات والوهم في الخيال، وإنما من خلال اللغة الخيالية التي مرّت عليها لكي تلاحق الفعل الانتقالي وتحصل على أريحية نفسية بإنجاز واقعي.

فالرجل الذي تبنته، ليس فرضياً، وإنما ذلك الرجل الذي قاسمها الحياة، فجعلت الذات الشخصية مع ذات الرجل بمسلك واحد بالرغم من فوارق الحياة المتواجدة، فحقق النصّ صلة حميمية بين عشّها وعشقه، وبين الذاتين المتلاحمتين في المنظور النصّي؛ ومن هنا، حصلت على استقلالية نصّية لم ينظر به إلا ذات الشاعرة التي أنجزت هذا العمل.

ومن خلال تقويل النصّ المنظور، نذهب في عدّة اتجاهات وما رسمته الشاعرة العراقية ناهدة جاسم في مجموعتها الشعرية (التين الأسمر)؛ حيث أنّ الملائمة النصّية تقودنا إلى إشكاليات شيئية وأخرى قولية في نقل الحدث الشعري من الطبيعة إلى الداخل النصّي؛ ويكون الأثر الفعلي على الفاعل، إذا اعتبرنا أنّ الفاعل هو الآخر، والفعلي هو الحدث المنقول، أما من ناحية وقوع الفعل فيكون على الحدث المنقول أوّلا، ومن ثمّ على الشخص المنظور في الداخل النصّي، هذا إذا اعتبرنا أنّ الناقد هو المتكلم ليحوّل الكلام إلى قول شعري وقول متقدم.

تقويل النصّ

إشكالية القصدية في الممارسة النصّية

تعدّد الأشياء

ومن خلال هذه الاتجاهات المرسومة فسوف ننطلق مع نصوص الشاعرة العراقية ناهدة جاسم برحلة تفكيكية بين التأويل النصّي والتقويليه والتعدّدية الشيئية التي تلازم النصّ من ناحيتي المرئي وغير المرئي.4718 ناهدة جابر جاسم

تقويل النصّ

أن ينطق النصّ، حسب القول والقول المتقدم؛ فهذه العملية تجعل النصّ يتأسّس وفق معطيات إنتاجية، وهو  المنظر الذي يسعى الشاعر لتثبيته في الجّسد النصّي، ولكن، العلاقة التي يؤسّسها نصّ ذو طراز جديد، علاقة تأويلية قبل كلّ شيء، وكذلك علاقة قولية؛ حيث أن القول الشعري ومنه القول الآني والقول المتقدم يسيطران على فعل القول في المنظور النصّي.

يندمج الفعل القولي مع المعنى، حيث أنّ العلاقة القائمة ذات قيمة دلاليّة؛ فتتدخل الإشارة هنا للتمييز بينها وبين المعنى المرافق لها؛ لذلك وجلّ مانلاحظه أن القول يختفي من ضمنه المعنى، أي أن يكون المعنى الموضوع ذا صوت؛ هذا ماحلّلته بعض التعاريف للغة، وتعتبر اللغة ضمن القول الشعري، حيث يختفي النطق في قيمة الصوت ومدى التمييز بالألفاظ.

أنتَ لم تعد أنتَ

ولأنّ النهر لم يعد هو النهر

أشعر بالحزن

وأنا أقول نعم

لأنّكَ لم تعد أنتَ

نهركَ جارٍ مثل نهر الغسيل

فلم يعد النهر ذلك النهر

وأنت لم تعد أنتَ

من قصيدة: أنتَ – ص 9 – التين الأسمر

ليس هناك منظور قابل للتحديد، أي أنّ اللامتناهي يعوم في الحركة اللغوية، ومن هنا، لايلتزم الشاعر بمحدودية الخطاب الشعري، منه الموجّه (كرسالة) ومنه الدائر بالذات الحقيقية ويستعين بطبيعته المتداولة عندما يصبح أحد النصوص المكتوبة، والمقروء منه، يعتمد على أوّل وحدة لغوية، حيث أن ضربة الشاعر الجذابة وحركة فعل القول لهما الأثر في التأثر النصّي ضمن القول والقول المتقدم.

أنتَ لم تعد أنتَ + ولأنّ النهر لم يعد هو النهر + أشعر بالحزن + وأنا أقول نعم + لأنّكَ لم تعد أنتَ + نهركَ جارٍ مثل نهر الغسيل + فلم يعد النهر ذلك النهر + وأنت لم تعد أنتَ

تشكّل فلسفة الذات جزءاً من الآخرين، وتعلن عن ذواتهم، وذلك من خلال الحوار القائم بين الذات الحقيقية والمنظور الأمامي؛ وربّما يكون ذلك المنظور حالة من تعدّد الأشياء المرئية، فكلّ شيء يتحوّل إلى كلمة ناطقة، أي أنّه يصبح ضمن قول مقروء قبل أن يكون في دائرة القول المكتوب؛ وبما أنّنا في مساحة للتقويل النصّي؛ فقد دسّت الشاعرة نهاد جابر جاسم ضمن النصّ المنظور الأشياء وتمثلاتها من ناحية التشبيه من جهة ومن ناحية الاستعارة من جهة أخرى، وكلّها تؤدي إلى الوجود التأصيلي، فالضمير المنفصل (أنت) تعدّده الشاعرة ضمن وجود الأصل (الاسم) وقد غيّبت اسم المخاطَب بواسطة هذا الضمير واكتفت بحالة التشبيه بينه وبين النهر.

أنت، النهر والغسيل؛ ثلاثة أشياء سيطرت على النصّ من خلال التراكيب المختلفة، وتستطيع الشاعرة أن تفرط في تراكيب المفردات أكثر وأكثر إذا رغبت بذلك، حيث أنّ عنصر التشبيه لايتوقف في دائرة مغلقة، بل من الممكن جداً أن ينطلق ضمن الحوار القائم وأن يستمرّ في امتداد الجمل الشعرية.

مليئة بتفّاح أخضر على الشفاه

ووردة بيضاء

أضفرُ بين كفيّ روح الشّمس

أبتهجُ بحمامة زاجلٍ غافيةٍ أليفةٍ

تمنحني دفء جناحيها

مبهورة بنثيث مطرٍ

يهمس من شبّاك غرفتي

يدغدغ قلبي الشقيّ

صادقة

أحلى من لون الغسق

صادقة

أتحدّث عن بستان عشقي

وأحلمُ...

من قصيدة: لم أكن وحدي – ص 13 – التين الأسمر

من خلال الاستعارة المفهومية، وهي تعني عكس الأفكار والمفاهيم التي يتدوالها الشاعر بشكل عام، ومنها الأشياء التي تختفي خلف الكلمات، والكلام المنظور الذي يتحوّل بحكم النصّ الشعري إلى قول متقدم لتقويل النصّ الشعري والإبحار في حيثياته وتصوّراته؛ برحلة، الهدف منها تفريغ الشحنة الدائرة في دائرة الذات العاملة والتي من خلالها يتمّ العمل النصّي.

مليئة بتفّاح أخضر على الشفاه + ووردة بيضاء + أضفرُ بين كفيّ روح الشّمس + أبتهجُ بحمامة زاجلٍ غافيةٍ أليفةٍ + تمنحني دفء جناحيها + مبهورة بنثيث مطرٍ + يهمس من شبّاك غرفتي + يدغدغ قلبي الشقيّ + صادقة + أحلى من لون الغسق + صادقة + أتحدّث عن بستان عشقي + وأحلمُ...

نلاحظ من خلال الجمل الشعرية، هناك توسّع وهناك تكثيف، وفي الحالتين يتمّ البناء على التكافؤ الدلالي، حيث أنّ حركة الدّال في الجمل الممتدة على بعضها، تكون قيمته التعبيرية الظاهرة أقوى من القيمة المختفية، ونستنتج من وراء ذلك، إنّ المعاني التي تلتزم الظهور، تكون أقوى من المعاني المختفية، ولكن في نفس الوقت عندما تختفي المعاني وراء الرمزية، فسوف تكون ذات سيطرة على الجمل المتواصلة في المنظور الشعري؛ وهكذا نقيس اشتغال دال المعنى في النصّ الشعري الحديث.

عيناي

تسافرُ لكَ

تفتح صمتكَ

تُلبسك عرياً متوهّجاً

تُزيل عنك غبار التصحّر

قصيدة: لمسة – ص 18 – التين الأسمر

تعتبر اللغة في المنظور القولي، أن لها علاقة الاتصال والانفصال؛ ومن خلال هذا المنظور، نلاحظ أنّ فعل القول التأثيري، يكون عادة من الأفعال الآنية، لذلك فأنّ الجملة المنسوجة، نُسجت مخصوصة لهذا النصّ، ولكن من الممكن توظيف المفردات بتراكيب جديدة، ونبتعد عن العبارات والجمل التي تمّ تركيبها للمنظور النصّي، وفي طبيعة الحال تختلف التراكيب من نصّ إلى آخر حسب الأسلوبية التي يتبنّاها الشاعر، ومدى استخدام الانزياحات في النصّ الشعري.

عيناي + تسافرُ لكَ + تفتح صمتكَ + تُلبسك عرياً متوهّجاً + تُزيل عنك غبار التصحّر

نستطيع أن نطلق على هذا التعبير المركزي والذي اختص بعينيّ الشاعرة بالـ (التمثيل) حيث أنّها ركّزت على بعض الأشياء المحدّدة، وهي من لوازم المصطلح الذي رسمته؛ وكلّ تمثيل يمتثل أمام بعض الأشياء المعيّنة والتي تعين الشاعرة على المثول أمام منظورها المرئي وغير المرئي، وإنّ علاقة العين من خلال تفكّرها علاقة تواصل مع الذات الحقيقية، وتعتبر العين واقفة أمام الحضور والغياب؛ وإنّ العين ليست  فقط لاستقبال الألوان والضياء والخطوط، بل هناك نتائج غير مرئية تعكسها في حالة الغياب؛ وذلك عندما يتواجد المنظور المرئي.

الإشكالية القصدية في الممارسة النصّية

إنّ القصدية تؤدّي مهامها في المعنى، وهي الطريق السالكة نحو هذا المنظور، لذلك عندما نؤول المعنى، نؤول المنظور القصدي من وراء ذلك؛ وهي ظواهر أيضاً تؤدّي إلى ظهور الخبايا التي يعاني منها الشاعر، وأهمّها الألم الباطني، حيث أنّ مثل هذا الألم لايظهر إلا من خلال تفريغ شحنات الشاعر من خلال اللغة والتي تقف كحاجز أوّلي في النظرية التواصلية لكي يستطيع الشاعر أن يكون في حيثياتها كعنصر متطابق لكشف المطابقات والمعينات والمسمّيات النصّية؛ ومن هنا، تظهر للوجود القصدية المخفية، والتي تلازم العنصر المضاف في الكشف عنها، ويعتبر العنصر  المضاف هو نفسه القائم على التقاطع التركيبي وانزياح فعل الجملة الرئيسي، فتظهر أيضاً الدلالات التي يعتبرها النحاة بأنها تعني المعاني، ولكن وجه الاختلاف أنّها تصاحب المعنى ويكون للتأويل (القصدي أعني) المطابقات من خلال الانتقال من القصدية إلى الحالة العقلية التصوّرية، وهذا ماتحتاجه الشعرية التي نمكث خلف دوافعها التأسيسية في عملية الخلق النصّي.

تظهر في المنظور النصّي حالات قصدية وحالات غير قصدية، فالحزن يعتبر من الأشياء الانفعالية؛ فهل ننسبه إلى المنظور القصدي؟ علماً أنّ تواجده في الجمل الشعرية يتمّ بشكل تلقائي، وهو حالة نفسية قبل أن يكون حالة تأكيدية، وكذلك البهجة وتشخصيها في منظور الفرح. ومن هنا، سنكون بين نصوص الشاعرة العراقية ناهدة جابر جاسم الشعرية.

هواجس قاتلة

وقشرة جوز فارغة

أفتّتها بعذابي وأنام

ونشيج شيخوخة مبكّرة

وخمول

وردة شقائق نعمان

ربيع وادي (زيوه وكَلي مراني)

وقمم جبال (كَارة)

الليل شجرة قطن ناصعة البياض

ووحشة تركض في مناحي الروح

الليل مقطوعة موسيقية

هادئة وحزينة.

من قصيدة: نشيج الليل – ص 24 – التين الأسمر

حركة ذاتية تخترق النصّ من خلال التفكّر التلقائي والتي نتجت عن بؤرة مركزية أرادت الشاعرة العراقية ناهدة أن تبتسم لذلك النشيج الليلي، وابتسامتها التي لايردّ عليها أحد، سوى النصّ المكتوب، لذلك فقد عدّدت الأسماء التي اندمجت مع حالتها القصدية، وهي منظورها الذي التفّ على رقاب بعض المناطق في شمال العراق (كوردستان العراقية)؛ فالسمة الأولى تبدأ من نشاط الشاعرة العملي، والعمل يجري في المنظور الواقعي لأنه حرّ وانتقالي وحركي، وتبينت هذه الأشياء من خلال حركة الأفعال التي اختارتها الشاعرة في الجمل التي تقبّلت التركيب.

هواجس قاتلة + وقشرة جوز فارغة + أفتّتها بعذابي وأنام + ونشيج شيخوخة مبكّرة + وخمول + وردة شقائق نعمان + ربيع وادي (زيوه وكَلي مراني) + وقمم جبال (كَارة) + الليل شجرة قطن ناصعة البياض + ووحشة تركض في مناحي الروح + الليل مقطوعة موسيقية + هادئة وحزينة.

لقد أشارت الشاعرة إلى بعض الأشياء المنظورة (المرئية) وبعض الأشياء غير المرئية، وهي اعتقادات وتصوّرات الشاعرة نهاد جاسم، وما آلت إليه في الكتابة كمكون قصدي أرادت منه أن يكون خارج الشعور، فليس من الضروري دائماً نكون ضمن الفعل الشعوري لكي نتواصل مع الفعل القصدي.

هواجس قاتلة = أن ترى معنى المفردة فتشير إليها، فالهواجس دائما تكون داخلية (باطنية)، لذلك فالتفكّر الذي يطرأ، يطرأ ضمن التفكّر النفسي، ومن خلال هذه الإشارة والتي أشارت إلى شيء بوجود، وهي خصوصية نظرية الإشارة عندما نشير إلى الأشياء، وإن كانت تلك الأشياء مرئية أو غير مرئية، فهي متواجدة ضمن الحقل المعرفي للشاعرة، لذلك عندما تحرّكت باتجاه الأشياء المنظورة (المادية) فهي واضحة ضمن العلاقة بين الرمز الذي تشير إليه وبين تلك الأشياء التي نعتبرها ضمن حركة النصّ.

كالأشباح وقفنا

ننتظر حفنة تراب في العيون

وبرودة في أطراف القدمين

نحن موتى في الضفتين

يغطينا عشبٌ أسود

وينتظرُنا عراق المقبرة

قصيدة: انتظار – ص 28 – التين الأسمر

إنّ التوجه الأنثوي من خلال الكتابة النصّية، يمنح الآخر المواجه، مواجهة الكتابة للمساحة الذكورية، ومواجهتها أيضاً لحالات اجتماعية يتمّ تشخيصها بواسطة الحسّية الداخلية المختفية والتي لاتظهر إلا بواسطة الكتابة؛ ومن هنا، هل سنكون مع تلك المساحة التي زخرفتها الشاعرة وهي تواجه الآخر كتابياً؟

إنّ المرأة لاتكتب النصّ فقط، بل تسكنه، لذلك نلاحظ أنها تكتب بعض التفاصيل والإشارة إليها، وهي ضمن خصوصية التفكّر الآني خارج الفلاش باك.

كالأشباح وقفنا + ننتظر حفنة تراب في العيون + وبرودة في أطراف القدمين + نحن موتى في الضفتين + يغطينا عشبٌ أسود + وينتظرُنا عراق المقبرة

لقد أشارت الشاعرة نهاد إلى بعض الحالات التي تكون عادة من حالات الموتى (برودة في أطراف القدمين)، وقد اعتنت بالمسمّيات منذ المطلع الأوّل للنصّ؛ حيث جعلت النصّ حواراً بينها وبين الذات التي تحرّكت بفعل الأفعال الحركية، حيث أنّها اعتمدت على بعض الأفعال ومنها : وقف، ينتظر وننتظر، وفي الحالتين هما من أفعال الحركة ويلتقيان بنتيجة لكلّ فعل، وبين الانتظار العائد إليها (بشكل جماعي) حيث أنّها استخدمت الضمير المتصل الدال على الأكثرية. إذن هناك مجموعة تقف معها والكلّ ينظر إلى عراق (المقبرة).

إن محور عملية التواصل كانت من خلال القناة (والمتمثلة بالشاعرة نهاد)، حيث شكّلت تلك القناة المساحة التي تولتها الشاعرة وهي تستنطق الموجود، من موت مؤجّل وموت حاضر.

إذا تطرّقنا إلى فلسفة الذات ومارسمه هيدجر من التزامات تصوّرية، نكون قد تواصلنا بين التفكيك الأوّلي لهذه الفلسفة والعلاقات المفروضة بينها وبين أي نصّ تم زركشته بموضوع، حيث أنّ المعنى الذي نقصده ضمن تقويل النصّ، هو الموضوع المتغيّر بذاته.

شبيهة بحمامة

تبحث عن عشّ أدمنت رائحته

قلبي كالبحر في عصفةٍ

تتقاذفه رياح الشكّ

عيناي تبحثان بين صخور المنفى

عن حبيبٍ

ضيعته في متاهات الوهم

من قصيدة: نخلة في إسنكدنافيا – ص 50 – التين الأسمر

معظم عمليات التشبيه، هي عمليات تركيبية لجمل فيها شعرية القول ذي القوّة اللغوية التي تساعد على ظهور الصورة الشعرية؛ ويكون للمختلف انبثاقه وحضوره كعامل لغوي يتخذ الشاعر منه كجسد تخييلي، وآخر كجسد مرئي، فالشاعر يتخلّى عمّا حوله من كائنات اجتماعية، ويُظهر العالم المخصخص الذي أختاره في الخلق النصّي، لذلك تأتي المفاجأة من خلال التعابير الانزياحية وتشمل المنظور التشبيهي والمنظور الاستعاري، وهما منظوران يعتمدهما الشاعر في إيجاد تناسقات جديدة.

شبيهة بحمامة + تبحث عن عشّ أدمنت رائحته + قلبي كالبحر في عصفةٍ + تتقاذفه رياح الشكّ + عيناي تبحثان بين صخور المنفى + عن حبيبٍ + ضيعته في متاهات الوهم

عندما نكون مع لغة الاختلاف، فتكون الشاعرة قد أسّست من خلال الاختلاف منظورها التصويري، وليست كلّ صورة تعتمد الاختلاف، ولكن الاختلاف اللغوي من الممكن جداً أن يؤدي إلى الصورة الشعرية؛ وعندما نكون مع فعل الشيء، فمن الطبيعي أن يكون المنظور النصّي في استعارته لكي تُدخل هذا الفعل من خلال التشبيه الذي اعتمدته الشاعرة نهاد جابر في تحديد المعاني من جهة، وفي تدجين الصور الشعرية من جهة أخرى.

لقد ربطت الشاعرة العراقية نهاد جابر بين الشيء المرئي والشيء الغائب، فالأشياء التي عدّدتها وهي تبحث عن (حبيب) هي تلك الأشياء المرئية والتي حضرت بصيغة مستسلمة لرغبتها، ومن هنا، يكون للرغبة حركتها اللامتناهية عندما يكون الموضوع امتداداً في تحقيق تلك الرغبة التي أعلنتها وهي تكتب نصّها، مرافقة الدلائل الحاضرة والتي تنظرها من خلال التصوير الخيالي.

***

كتابة : علاء حمد – العراق

...................

التين الأسمر.. من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق

في المثقف اليوم