قراءات نقدية

الخلفيات السياسية لرواية يوميات مچاري لطارق الكناني

من حيث يدري أو لا يدري يعيد طارق الكناني في "يوميات مچاري: أسرار مدينة"* فك وتركيب تطور المجتمع في العراق بعد الاستقلال. فالحبكة تأخذ شكل دوائر أو حلقات كالتالي: هجرة كريم من الريف، حياة كد وشقاء (ما يسمى في النقد الفني حبكة أرزاق - يمثلها لدينا كتاب الطبقة المتوسطة وأدباء المهجر)، ثم وصوله إلى مراكز رفيعة، وأخيرا هدم بيته في أحداث الشغب. ولكن تغلف الحبكة قصة إطار بطلها صندوق ومذكرات. ولا يغيب عن ذهن أحد توازي هذه الهجرات والرحلات الداخلية مع حلقات التحول الاجتماعي ابتداء من الانقلاب العسكري على الملك عام 1958،  وانتهاء بالغزو عام 2003. ويؤكد هذا الافتراض البنية الداخلية لمنطق الأحداث.

1- نضال وكفاح - أو عمالة عضلية فقط تستجيب لما تمليه عليها الغرائز. وتتخللها أحلام يقظة - مثل حب كريم لجارته شهيدة، مع مشاهد اغتصاب تنتهي بابن سفاح - ترمز له الرواية بجماع بين حمارة كريم وحمار شهيدة. ومثل هذا التبادل في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر لا يشير لعلاقة مقلوبة بل إلى حالة رهاب خصاء نموذجي. ويضاعف منها أن كريم كان يتوهم، بينما حمار جارته يمتلك حمارته. ولا تجد الحبكة مخرجا من هذا المطب سوى بافتعال حريق يلتهم البيت ويشرد العائلة. وهو حل استراتيجي طالما لجأت إليه الرواية العربية، وأخص بالذكر "صراخ في ليل طويل" لجبرا. أيضا تنتهي هذه النوفيلا بحريق يهدم قصر العائلة الأرستقراطية ويحول ماضيها إلى رماد. لكن إذا كانت هذه النهاية معلقة، وتضعنا أمام ظلام دامس لا يشبهه غير ظلام القبور، يترك الكناني أمام كريم احتمالا بالمتابعة.  بتعبير آخر لا يؤجل جبرا أحكامه الجازمة، أما الكناني فيؤخرها.

2-  اجتهاد ومثابرة - أو عمالة فكرية تستجيب لما تمليه عليها الطموحات والأطماع. ولا يخرج كريم في هذا السياق عن دورة حياته السابقة. ويقترن بسارة -أرملة لها تاريخ سابق. مجربة مثل شهيدة. ولكنه يصحح النتائج فقط. فيعمد لاغتصابها رمزيا وينجب منها أبناء شرعيين. بتعبير آخر يمسك كريم عصا الذكورة بيده - وهي عصا انتقامية ويضرب بها رأس التاريخ والمجتمع. ويحرص على إدانة أخلاق الطرفين.

وهذا أول اختلاف بين "يوميات مچاري" وبقية الأعمال السياسية التي أرخت لانقلابات العسكر في المنطقة.  فسعد رحيم وسابقه فاضل العزاوي - ينحيان باللائمة على الطغيان وليس انحلال الأخلاق وضعف المبادئ.  بينما يربط بينهما  علاء الأسواني في روايته المعروفة "عمارة يعقوبيان". وإذا تحولت سجون رحيم والعزاوي إلى بيت أو عمارة عند الكناني والأسواني، لا يمكن أن لا نلاحظ الدلالة الضمنية التي لها شكل ميتا رواية. فالسجن فضاء حدود، بينما البيوت والمساكن هي فضاء أحوال. وهناك فرق بين الطرفين يشبه الاختلاف القانوني بين الأخلاق /قديمة وموروثة والطغيان /وضعي وتعاقدي. وأستطيع أن أشبه الأول بما يسميه علم الإحصاء دلالة معنوية significant difference والثاني بما يسميه المتبقي residual أو الخطأ الأولي -وهي أخطاء لها علاقة بالتصميم والقياس.  وتوجد قرائن على هذه المشكلة وهي تأنيث أحداث القسم الثاني من الرواية وتبادل النساء للأدوار دون تبديل في المعنى. فسارة -الزوجة تشبه شهلة -الأخت. وحورية العمة الضحية تشبه شهيدة جارته أو وكيلة الشيطان. وإذا سقطت آخر امرأتين في حفرة المجتمع، فقد جرد كريم حسامه لينتقم لهما بقوة القانون. وإذا نجت أول امرأتين من المصير الأسود تبقى هناك ندبة عميقة في حالة شهلة. فهي أخت بشهادة الميلاد وابنة عمة في الحقيقة.  وتختار الرواية التستر على هذه الأسرار، فيتلف كريم وثائق ميلاد شهلة، ويعيد الراوي صندوق اليوميات إلى صاحبه. وجدير بالذكر أن هذا يضع الاثنين على قدم المساواة، ويساوي بين الراوي الأول والثاني. أو بين المتكلم والمدون. ويحتفظ كل واحد منهما بسر لا يعرفه الآخرون. سر الأخت والعمة، وسر يوميات كريم.

3- سقوط ولجوء - أو فشل عسكرة العراق.  فشهلة تسافر إلى لندن لدراسة الطب وتعود بشهادة عليا. ويخرب بيت القاضي كريم ويحتمي بشهلة. وكأن الرواية تريد أن تترك مفاتيح الخاتمة بيد ممثل لقوة خارجية.  ومن سخرية الأقدار أنه حل تأنيثي أيضا. عدا أنه بيولوجي (طبيعي وإحيائي- فشهلة طبيبة).  ولذلك لا أعتقد أن الرواية هي ببساطة قصة نجاح أخوين أحدهما طبيبة والآخر رجل قانون. ولكنها أقرب إلى حبكة العمل الوثائقي الهام الذي أعدته إذاعة بي بي سي قبل سنوات بعنوان "بيت صدام".

بقيت عدة ملاحظات لها علاقة بفن النوع.

أولا هذه الرواية نوفيلا عن تخريب مجتمع المدينة وقيام مجتمع الدولة. ولذلك عمدت لزرع أخلاق ريفية في وسط  مدينة. وإذا غابت صور الحقل والفلاح فقد حلت محلها صور الموظف والطالب والبيت.  ولكن مثل هذا التحويل رافقته بالضرورة المكائد وخطط الانتقام، وربما من هذه الحقيقة نشأ الاهتمام بالجانب القانوني والحقوقي من طرف وبالجنايات وجرائم الشرف وعقدة التلصص من طرف آخر.

ثانيا ابتعد الأسلوب عن أعصبة الحداثة، واستعمل الحيل الفنية الأولية كاليوميات والحوار المونولوجي الطويل. وقد كانت اليوميات تصور وتتابع أما الحوار كان ينقل ويلخص. وربما هذا أيضا تعبير غير مباشر عن أخلاق مهاجرة حقنتها الرواية في مجتمع حضري مستقر. وهو ما يبرر أيضا حيرة كريم بطل الرواية فيما يخص الانتماء، فلا هو يدخل في بنية النظام الجديد ولا يعارضه. وبالمثل لا يتخلى عن المدينة لكنه لا يلتزم بمدينة واحدة. وأعتقد أن هذا التردد ليس مشكلة ذاتية فقط ولكنه قضية نوعية ويعبر عن ضرورة الانتماء لهدف خارجي. وهو يشبه إلى حد كبير بنية السايبورغ، الكائن الذي تتآزر فيه البيولوجيا مع الميكانيك، أو الإنسان الآلي مع الإنسان الحقيقي. وهو ما تجد فيه الدكتورة إيليت بين يشاي الأستاذة في جامعة حيفا حبكة قانون طوارئ أو حبكة أزمة سياسية مستمرة لها تعبير ثقافي. والثقافة في هذا السياق ليس بالمفردات ولكن بالتصورات وبما يلحق سلم العلاقات الوظيفية من تشويه واضمحلال يصل لدرجة السقوط.  ومن المؤكد أن هذا السياق يدين بالكثير لمشكلة فلسطين وما فرضته النكبة علينا من وعي مصدوع بعلاقة الحضارة مع العرق. وهي كلمة أوضح من الهوية أو دولة الأمة. فهي مفردات محدثة وأسقطنا عليها ضغوط الغرب في إعادة تعريف معنانا الوجودي والتعايش مع المحن والأزمات. ولا يوجد شيء يخجل في المفهومات العرقية إذا ابتعدنا بها عن التعالي العنصري. فالعرق حقيقة يرعاها التاريخ والجغرافيا أو قانون الأصول، بينما الهوية مفهوم أنتجته أوروبا بعد عصر التنوير. ولذلك أضيف أن النكبة بحد ذاتها لم تكن هي المحتوى الحقيقي للصراع والمأساة -في رواياتنا ولكنها مجرد إسقاط آخر للمخاض الذي تطور ما بين الحربين بين 1915 وحتى 1950. وإذا قدم الغرب تفسيرا وجوديا لمشكلته مع حرية الأفراد كان لزاما علينا تقديم تفسير حضاري وآخر، للأسف، أمني عن مشاكل السلطة معنا. بتعبير أوضح ما يتسبب به الأفراد من عجز وقلق في مجتمع كوزموبوليتاني متعدد الأعراق والثقافات في الغرب يقابله لدينا تقصير في تأمين الخدمات لمجتمع من لون واحد. وهو ما ينشأ عنه خوف دائم يمنع الإنسان من مصالحة نفسه ويحض على الاختلاف مع صوره الكثيرة التي ينتجها مجتمع مرآتي يكرر ماضيه.

ثالثا. لم تنقل الرواية بطلها من مستوى أدنى إلى أعلى، ولم تغير المعنى المباشر للأجناس بمفهوم الجندر - أو التجنيس الاختياري. وإنما حاولت أن تصالح عليه. فشهيدة تعود للظهور بصورة سارة، وأخيرا بصورة شهلة. وكل ما يتبدل هندسة المكان ومظهر الشخصيات. لكن من الداخل نجد اهتماما بقضية الأنساب وتطور هذه الناحية اجتماعيا من فوق المعنى التاريخي للجنيالوجيا. وحتى لا نضفي على العمل البسيط والتلقائي شيئا ليس منه، أعتقد أن لجوء المقيم للمهاجر العائد لا يختلف عن وعي فتح المدينة الأم بمعونة من المدينة التوأم (إسقاطات عميقة لنزاع مجتمع مكة التجاري مع مجتمع اامدينة العسكري - وعقد تحالفات خارجية لكسر شركة النواة أو المركز).

رابعا اهتمت الرواية بما أسميه سياسة المكان المحدود أو الكامبوس. ولا أقصد المدينة الجامعية بل أضيف أيضا مخافر الشرطة والمحاكم والضواحي. بمعنى أنها حولت البلد إلى ثكنة عسكرية. وهذا ما يرشحها لتكون نموذجا لأدب الطوارئ.  ولذلك يجب أن نتوقع وجود لغة رمزية تنشط من خلف الدال وفوق المدلول. وأستطيع أن أتصور أنها نظام رموزي معدل من لاكان: في أول مستوى تكون الأحلاف الاجتماعية نتيجة عقود تعود بالنفع على الطرف الضعيف وتضمن تحييد الطرف القوي (حالة الآغا بعد رفع راية الاستسلام - وقد ظهر في الحبكة مرتين. أول مرة اغتصب بها عمة كريم. وثاني مرة بعد الانقلاب. وجاء إلى كريم ليطلب يد أخته. ولا شك أن الارغام والامتلاك هو نقيض الطلب والتوسل).  وفي المستوى الثاني  لا يمكن للدوال، والتي هي شكل عائم للمتخيل، أن تخدع ذاتها دون خداع غيرها. ولذلك تبدو الأخطاء كما لو أنها بديهيات أو أمر واقع. وفي أسوأ الأحوال كأنها نتيجة مرونة براغماتية. وفي هذه الحالة لا يوجد موضوع للرغبة ولكن افتراضات عنه (وهو حالة سارة).

***

د. صالح الرزوق

................

* صدرت الرواية عن مؤسسة المثقف العربي ودار أمل الجديدة بغلاف للفنان مصدق الحبيب. 136ص. 2023.

في المثقف اليوم