قراءات نقدية

قراءة في مجموعة "مطرٌ عاطر" للشاعر خالد الحلي

هل يأتي الموجود من اللا موجود؟

كان الشاعر الألماني الكبير هولدرين يؤكد على أن الشاعر ربما ينضج مشروعه الشعري بعد سن الخمسين، وهذا ما لا يتفق مع رأي الشاعر الإنكليزي ت س إليوت الذي يرى أن موهبة الشعر تبدأ في بداية العشريات من عمر الشاعر لتتوقّف بعد ذلك.

والاختلاف هنا يرجع لمعنى الشعر، الذي يراه هولدرين تنقية للوجود من الشوائب العالقة فيه، ويعني الأفكار الصغيرة التي لا ترتقي إلى الأسئلة الكبيرة في الفلسفة التي تذهب إلى العمق في تفسير الظواهر من أجل ترميم العالم من تصدعاته، أما ت س إليوت فيستفيد من بزوغ نجم الشاعر الفرنسي رامبو في عمر مبكر من كتابة الشعر والذي سرعان ما انطفأ، لكنه ترك أثرًا عظيمًا في كتابة الشعر مخلفا كتابيه "الاستشراقات" و "فصل في الجحيم" مع مجموعة قصائد لم تنشر أثناء حياته".

ويبدو أن الشاعر خالد الحلي ينطبق عليه ماذهب إليه الشاعر هولدرين حسب ما كتبت أعلاه، ففي مجموعته الشعريّة الجديدة الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في بغداد للعام ٢٠٢٢، والتي حملت عنوان " مطرٌعاطر"، يواصل مشروعه في الكتابة التي تسعى دائماً إلى أن تكون أشبه بالوجود الصغير الذي يقيم فيه سؤاله بحياديّة ومهارة وخبرة صقلتها التجارب والسنين، خاصة في انتقاء الكلمات التي تتطابق بحساسيتها مع بعضها، مما يخلق جملاً قصيرة تنساب بموسيقى سريعة لتنتهي بسؤال.4737 خالد الحلي

وعلى سبيل المثال، نجد ونحن نقرأ قصيدة "زوايا مختبئة" في المجموعة، أن عنوانها يوحي بأن عالمًا آخرَ غير مرئي يختبئ في هذا العالم المرئي أمامنا وهو غير كامل، حيث يقول:

" ما لا أرى تراه

وما أرى يُبعد عنكَ خائفًا"

إذن ثمة اشكاليّة وجوديّة ليست عرضيّة بل جوهريّة تتعدّد فيها الرؤيّة التي تصل حدّ العماء، فما لا يراه هو الكائن، وما يراه يخاف ويبتعد عن الذي يرى وهو سلطة بلا مسمى هنا، واقصد الذي يرى

ويُكمل الشاعر بالقول:

"يطير في الرّياح مرّة

ومرّة يفوص في المياه

فلا ترى الذي أرى

ولا أرى الذي تراه"

ومن جديد يؤكد على أن الرؤية ليست واضحة بمعطياتها وتفسيراتها، لكنّ السائل يحاول أن يقبل بها كي يتآلف مع قدره ومصيره المحتوم، وهو قبول شكلي لا سلطة للكائن فيه. نوع من الاستسلام القهري الذي يًفرض عليه،

ونجده يقول ونحن نكمل القراءة:

"حين ترى السماء غائمة

أرى السماء ماطرة

لكنّنا

لسنا نرى

ماذا يرى

في الصحو والمنام غيرنا"

يتعمّد الشاعر هنا خلق نقيضٍ ماديٍّ له لتوسيع الفكرة الفلسفيّة الشعريّة في هذه القصيدة بتفاصيل تحاول أن ترسم شخصيتين متقابلتين ومتناقضتين لكنهما متوافقتان بمحدوديّة قدراتهما وعجزهما، حتى نهاية القصيدة حيث يقول:

"هل سَيرُينا بعضنا

ما لا نراهُ كلُّنا

يكتئبُ السّؤالُ

في رؤوسنا

وتكتوي بدمعِها

عيونُنا"

وبالانتقال إلى قصيدة "ريحٌ ومرآة حائرة" نجد الشّاعر يستهلها بالقول:

"أبوابكِ مُوصدةُ

ودروبي مغلقة

ورؤانا تتقاذفها

أمواجُ بروق ورعود

هل يأتي الموجود

من اللا موجود؟"

إن استخدام الريح في هذه القصيدة يدلّ على حركة الغياب متجسّداً بفعل الخراب المؤقت الذي يمسح كل أثرٍ لحياة تعكسها المرآة الحائرة التي من الممكن أن تكون صورة الذات القلقة غير المستقرّة التي تتحكم فيها قوى غيبيّة حاول الشاعر أن يَرمز لها عبر مشهديّة البرق والرعد وما لهما من تأثير نفسي في ذاكرة القارئ، حتى يطرح سؤاله الكوني العميق مرّة ثانيّة، عن مسيرة الوجود واحتماليّة ديمومته وهو الذي ينشأ من عدم، وفكرة العدم هنا ليست سوداويّة تفرضها العاطفة الشعوريّة البسيطة بل التصادمات والتناقضات الخيّرة والشريرة التي يشهدها الوجود من خراب تتدخل فيه الطبيعة التي يعجز الكائن أن يتصدى لها، وعقله الذي يتحول إلى أداة لتفكيك التناغم الطبيعي للموجودات وانتخابها الأبدي.

وبنفس المعنى يكتب الشاعر قصيدة : "سنة تفتح الباب"، كما في هذا المقطع

"قلت لها:

من حق كلينا أن يسأل

فالسنواتُ الأرضيّةُ

وقتٌ يأسرنا

لا نملُكهُ

بل يملكنا

والسنوات الضوئيّةُ

ألغازٌ تسبحُ في الكونْ

ليس لها شكلٌ أو لونْ

وسنينُ الوهم

سرابٌ

ليس له أُفُقٌ ومدارْ

سنة حيرى أنتِ

فهل تدرينَ بأنّي مثلكِ

محتارْ؟ "

وغير بعيدِ عن هذه الأجواء، نجده في مقطع بعنوان "بابان" من قصيدته " منافذ":

هل تُسدلُ جُمجُمتي

أستارًا تبعدُ أخيلتي

عن ذاكرتي

كما نجده يقول في المقطع الأول من قصيدته "بين مدّ وجزرٍ ":

خطواتُ الليل تدبُّ

بدربِ مسدودْ

وأنا بين النوم وبين الاستيقاظ

أتمنى أن لا تستيقظ أيّامي

من أحلامي

أن لا أنسى أمسُا مفقودْ

أن تمتدَّ بيَ الأزمانُ بلا أمدٍ

أن لا تشهدَ أيّامًا سودْ

حتى ينام المدُّ، ويصحو الجزرُ

تبعثرُ أنهاري

أيامًا تكتم أسراري

وتجفف أزهارًا

وورودْ

كانت تمنحني أملاً

ووعودْ

ولا تقتصر المجموعة الشعريّة على هذه القصائد التحريضيّة الوجوديّة بل تتنوّع إلى قصائد تحاول أن تستدعي النفسي والذاتي الفردي كما في قصيدة "مخاضات وسلالم" . وابتداءً نجد أن كلتا كلمتي العنوان تؤشران لحالة من المعاناة التي تكون مرّة ألمّا طبيعيًا لكنه غير محتمل ومرّة ألمّا غير طبيعيٍّ لكنّه متواصلٌ لا يتوقف.

يكتب خالد الحلي قائلاً:

وأنا أقرأ في دفتر أيّامي

وأنا أسأل ذاتي:

مَنْ نفّذ ؟

مَنْ خطّط؟

مَنْ شح؟

و مَنْ فرط؟

كيف؟ لماذا؟ ومتى؟

أين؟

تُسكتني أسئلتي

وتقول بصوت واحد

لا تسأل أحدّا

لا تسأل أبدًا

أنت سمحتَ لدفتر أيّامكَ

أن يُسرق،

ثمة علامات استفهام كثيرة تبقى مفتوحة أسألتها لا يكتمل فيها القول ويستقيم المعنى في هذا الحوار الداخلي المنولوجي بين الذات وصاحبها، وهو ليس قسوة على النفس بل السعي إلى تخليصها من قطيعيتها التي تقودها في أحيان كثيرة إلى التهلكة، ولا يمكن لها أن توجه اصبع الاتهام لغيرها.

لا تخلو قصائد المجموعة من المرأة التي تكون مرّة واضحة متجسّدة في حكاية تكتمل بعناصرها الدراميّة المتنوّعة، ومرّة متخفيّة يومئ لها الشاعر من بعيد كي تقاسمه السؤال، والسؤال الذي اقصد هنا، هو التحامها به ما يجعله يشعر بالإطمئنان الروحي والجسدي قربها، والضياع والإنطفاء بغيرها، كما في هذه القصيدة الذكيّة التي تحمل بعنوان "مواعيد"، حيث يكتب:

قبل يومين ملأتُ

الدرب وردًا

ورششتُ البابَ

عطرًا

وانتظرتُ

لمَ أخلفتِ المجيء

عندما طالَ انتظاري

صار دربي لا يضيء

يبقى السؤال : هل يتوقف الشعر عن الوجود؟

سؤال لطالما أرقّ المعنيين بالابداع في المجتمعات الصناعيّة الغربيّة، والجواب كما أراه ككاتب شرقي يرى الشعر كونه: أهم الفعاليات الانسانيّة التي اكتشفها الكائن إلى جانب اللغة، إنه لا يتوقّف حتى لو أصبح نوعًا من أسئلة التأمل الذهني الموازي للفلسفة التنويريّة بكل مدارسها في القرن الماضي قبل أن تحل محلها العلوم التجريبيّة التي قضت عليها تمامًا وجعلت من منجزها مجلدات من الكتب يعلوها الغبار في المكتبات الحكوميّة في زمننا هذا حيث يسود نظام التفاهة كما يفصلّه الفيلسوف الكندي آلان دونو. في كتابه المسمى به.

***

عقيل منقوش – ملبورن / استراليا

في المثقف اليوم