قراءات نقدية

أدب المقاومة في مراسلات محمود درويش وسميح القاسم

(حتى الريشة كانت حاضرة بقوة في أدب المقاومة زكي سلام نموذجا)

لا شك أن خصوصيات التجربة الفلسطينية في عالم الكتابة في ظل الحصار المشدد على الكُتَّابِ، لها ميزة خاصة، لأن "الأرض" هي القيمة الأساسية، والصراع كله كان ولا يزال يدور حول الأرض، فقد تميزت الحركة الأدبية التي لازمت الثورات بنوع من الثورية، حيث كان الأدباء يتبادلون الرسائل يعبرون فيها عن الجرح وألمه ومواجهته بالمقاومة، ذلك ما نلمسه عند كثير من أدباء المقاومة الفلسطينية، وأدب الثورة في فلسطين كان له اثر بليغ في نفوس الأدباء العرب، وعلى سبيل المثال وقعت بين أيدينا رسالة الشاعر الفلسطيني الثائر محمود درويش التي كتبها إلى رفيق دربه سميح القاسم عام 1987، حملت عنوان: " منذ البداية" بمناسبة تأسيس الإتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين وكان محمود درويش هو رئيسه، الحقيقة أن أدب المقاومة لم يكن كتابة فقط، بل كانت الريشة حاضرة بقوة في لوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ومنهم الفنان التشكيلي زكي سلاّم الذي يعد سفير القضية الفلسطينية في عالم الفن التشكيلي

يقول محمود درويش في رسالته وهو يقاسمه المعاناة وقتما كان الصراع ولا يزال محتدمًا على الجبهة الثقافيّة بين مشروع التهويد، والاستلاب، والعدميّة، والتغريب.. وبين وعي الهويّة والحريّة، فهو يرى أن ما يحدث ليس عاديا لأنه في ظروف غير عاديّة، أن ينجح الكتّابُ في تأسيس أوّل اتّحاد للكتاب العرب في الوطن، بعد أربعين عامًا، فينصحه بأن لا ينظر إلى الوراء إلّا ليعرف أين وصلتْ بهم الطريق، لأن للأعداء حساباتُهم، فأربعين عاما من محاولة تهويد الأرض، واللغة، والصراع على البقاء عن ولادة أوّلِ اتّحاد للكتّاب الذين كانوا مرشّحين للالتحاق بما تحدّده الدبّابة من حدودٍ للهزيمة النفسيّة والأدبيّة ليس عاديا.

في النشاط الثقافي الفلسطيني كما يقول محمود درويش، كانت الكلمة هي الفعل، لا حدودَ بينهما، ولا حدودَ بين الجسد واللغة، وذلك ما جعل الأغنيةَ وطنًا وما جعل الوطنَ أغنية، كن النشاط جماعيا تمثل في النشيد الذي لا يزال مفتوحًا على أفق الحريّة داعيا إياه وهو يشد على يديه أن يترك باب الاتّحاد مفتوحًا على مصراعيه لكلّ من يخالفُهم الرأيَ والعقيدة، هذه الرسائل حسب النقاد تدخل في إطار أدب الثورة أو أدب المقاومة، وسمّاه البعض بأدب السجون والمعتقلات، وآخرون أعطوه أسماء عديدة، حيث أطلقوا عليه اسم أدب المنافي وأدب الانتفاضة وأدب النكبة، وهذا النوع من الأدب يعبر عن الثقافة المجتمعية، هذه الثقافة وحدها كما يقول بعض الأدباء تؤسس للمقاومة.

ويعتبر أدب المقاومة أدب التعديل في صراع الأنا وكشف الآخر ومواجهته، والانتصار عليه، كما يمكنه أن يحقق أهدافا من خلال مناهج متباينة، فهو بمثابة الدعوة إلى النضال وتوثيق التاريخ ونقل المعاناة، والدعوة إلى الصمود ورفض الهجرة ورفض التعامل مع المحتل، واللجوء إلى الكفاح المسلح، علاوة على تمجيد البطولات، مما جعل العديد من النقاد يسلطون الضوء على هذا النوع من الأدب، الذي بدا لأول وهلة لونًا جديدًا من ألوان الأدب الحديث، ليشمل أسماءً لمبدعين في عالم الشعر والرواية والمسرحية والقصة أمثال سميح القاسم، كما ظهر في تلك الفترة العديد من شعراء الثورة أو المقاومة أمثال إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، الذي اشتهر بقصيدته "الشهيد"، ولم يستثن أدب المقاومة الكتابات النسوية، حيث شكلت كل من الروائية سحر خليفة مع الشاعرة فدوى طوقان القاسم المشترك في حمل رسالة الدفاع عن الحرية بكل أشكالها بدءًا من حرية الوطن وحتى حرية المرأة.

بالنسبة للمقاومة الفلسطينية يقول الباحثون أن أدب المقاومة الفلسطينية تأثر بالمراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها الثورة الفلسطينية، وقد خاض كثير من الكتاب والأدباء في هذا مجال وكتبوا بحرقة عن أدب الثورة والمقاومة على غرار الكاتبة الفلسطينية عائشة عودة التي فازت بجائزة ابن رشد التي أعلنتها مؤسسة ابن رشد للفكر الحر في برلين 2015 في مجال أدب السجون، وكتابات عائشة عودة تعتبر جزء مما أصدره كتاب وروائيون رجال في هذا المجال، حيث نقرأ لبرقوق نيسان وتصور شخصية الفلسطيني التي تتسم بالتحدي والمقاومة بعد عام 1967، كما نقرأ في رواية جبرا إبراهيم جبرا بعنوان "صيادون في شارع ضيق"، وهي رواية تحمل هموم القضية الفلسطينية والقضايا العربية، ورواية إيميل حبيبي بعنوان "سداسية الأيام الستة" في عام 1967، ثم رواية المجموعة 778 للروائي توفيق فياض، ورواية "وإن كنت الليل وحيدا" للروائي نواف أبو الهيجا وغيرهم، وهم يمثلون جيل ما بعد النكبة،.

والحديث عن أدب النكبة يطلق على مجموعة الأحداث والمجازر التي قامت بها العصابات الصهيونية بحق الإنسان والأرض في فلسطين عام 1948 وما سبقه، فمعظم الكتابات الفلسطينية تدور حول أدب النكبة، وقد ركزت هذه الكتابات على نوع خاص من الأدب، ألا وهو أدب "الهجرة"، فأكثر ما تناولت الرواية الفلسطينية هي تصوير النكبة وأحداثها ورسم الصورة الواقعية لمخيمات اللاجئين، ومن الأسماء البارزة في عالم الرواية الفلسطينية نقف رواية "الطوق" للروائي "غريب عسقلاني"، الذي تعبر كتاباته عن مسيرة الشعب الفلسطيني واللاجئين، بحكم ارتباطه بمخيم اللاجئين وحياتهم ومعيشتهم اليومية في المخيم، لقد كان غريب عسقلاني من الروائيين الذين أسسوا للمشهد الأدبي في فلسطين، فيما يرى بعض النقاد أن الكتابة عن أدب المقاومة بعيد المنال، لأن الكتابة عن المقاومة لا يكون إلا بعد الانتقال بها إلى حيز الفعل والتطبيق، والتأسيس لها ذهنيا ووعيا ويقينيا في ثقافة تقوم بتنظيم الذاكرة الجماعية وتعزيزها والحفاظ عليها.

و يمكن القول أن هذه الرسائل كما تم ذكره آنفا تعد من ضمن الأعمال الأدبية التي تتميز بالرمزية ، حيث اتخذ الأدباء الفلسطينيين "الرمز" كأداة للكتابة في ظل الحصار المشدد عليهم وتقييد حريتهم في التعبير والكتابة، استعمال "الرمزية" من أجل مواصلة إبداعهم، فتجدهم يركزون على الأمثال الشعبية لخدمة الفكرة المسيطرة على القصة، أو الحديث عن الأم وابنها مثلما هو الشأن في قصة "أم الخير" الرمزية، وهي امرأة ترمز إلى فلسطين، وابنها هو الفلسطيني، وآخرون اعتمدوا على رسوم الحيوانات مثل رأس الغراب أو الذئب، وهذه الفئة هي الأكثر تأثرا بالأسلوب الرمزي، أما مصادر أدب المقاومة فهي متنوعة منها الواقعية، التاريخية والدينية وغير ذلك.

فقد امتزجت روح الشعراء الفلسطينيين في روح واحدة مثلما امتزجت دماؤهم، فكانوا كلما تألمت روح تألمت الروح الثانية لألمها فكانت الرد القوي، وقد عرف سميح القاسم بقصائده الثورية، وقد اشتهر بقصيدته: " منتصب القامة أمشي" وكانت مؤثرة جدا، إذ يقول فيها: (منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي..الخ)، هكذا كان أدب المقاومة، يقول بعض النقاد أن القصيدة الثورية توقفت عند الشاعرين سميح القاسم ومحمود درويش، وبقيت القصيدة الفلسطينية يتيمة من شعرائها، وقد وصف الكاتب عصام خوري المراسلات التي كانت تتم بين محمود درويش وسميح القاسم بأنها كانت حالة أدبية نادرة وخاصة بين شاعرين كبيرين قلما نجدها في التاريخ، لكن الواقع وما يمكن قوله هو أن أدب المقاومة لم يكن قصيدة أو قصة أو رواية أو مسرحية فقط بل كانت الريشة حاضرة بقوة في لوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ومنهم الفنان التشكيلي زكي سلاّم الذي يعد سفير القضية الفلسطينية في عالم الفن التشكيلي، فقد كانت منحوتاته تعبر عن رسالة إنسانية لكل الشعوب المضطهدة، وقد اثرت لوحاته الساحة العربية.

***

علجية عيش

في المثقف اليوم