قراءات نقدية

مفهوم النقد الثقافي عند الناقد المصري محمد الشحات

يشتغل الناقد المصري محمد الشحات في مجال النقد الثقافي من خلال مجموعة من الكتب والدراسات نذكر منها: سرديات المنفى، الرواية العربية بعد 1967. الذي صدر عام 2006 عن دار أزمنة للنشر بالأردن، وسرديات بديلة، الصادر عام 2012، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وكتاب هوامش ثقافية، تأملات في نصوص ومفاهيم نقدية، الصادر عام 2015، عن بيت الغشام للنشر بمسقط، سلطنة عمان. وسنحاول عرض بعض المفاهيم النقدية المرتبطة بنشاط النقد الثقافي عند محمد الشحات.

فمنذ ظهور كتاب النقد الثقافي "قراءة في الأنساق الثقافية العربية" للناقد السعودي عبد الله الغذامي في طبعته الأولى عام 2000 ، والكتابات النقدية العربية تظهر يوميا محاولة تبني هذا المنجز وتطبيق مقولاته في قراءة نماذج من الأدب العربي القديم والمعاصر. شعرا ونثرا ومسرحا وخطابات أخرى منها خطاب الصورة والأغنية وغيرها.

كما إن هناك دراسات نظرية قدم أصحابها شروحا لمعالم النقد الثقافي والتعريف بحدوده المنهجيّة، وعرض المفاهيم والمصطلحات التي تتقاطع معه مثل الدراسات الثقافية والتاريخانية الجديدة والنسق الثقافي وما بعد الكولونيالية. ومن هذه الكتابات منجز الناقد المصري محمد الشحات، الذي سنحاول مقاربة أهم الأفكار والآراء النقدية التي لها علاقة بنشاط النقد الثقافي.

يحاول محمد الشحات أن يقدم باقة من المفاهيم والتعريفات ذات العلاقة بالنقد الثقافي، محاولا الابتعاد قدر الإمكان عن السجال النقدي الذي ساد الخطاب العربي لسنوات والذي كان منصبا على قيمة النقد الثقافي، ومدى قبوله أو رفضه، والذي توزع بين موقف مؤيد وآخر رافض له،مما جعل محمد الشحات يتجاوز كل هذا اللغط الغير مثمر، مبيّنا أن " دراسات النقد الثقافي تنهض على تحليل الممارسات الخطابية التي تأتي إلينا في شكل أبنية مرتبطة بمفهومي المعرفة والسلطة معا. وما يفعله النقد الثقافي أو الناقد الثقافي هو أنه يهتم بالمضمرات الدلالية الكامنة وراء الخطاب الجمالي الذي يتجلى عبر مفهوم المتن أو النص قد صنعته المؤسسة بعلاقات إنتاجها المعقدة- فلا بد من توجه الباحث الثقافي نحو إلقاء الضوء على علاقة المعرفة بالسلطة والمؤسسة اللتين أسهمتا في تشكيل هذا الخطاب الجمالي أو ذاك على نحو من الأنحاء دون غيره."

يندرج موضوع النقد الثقافي عند محمد الشحات ضمن حدود البحث عن المضمرات الدلاليّة المختزنة داخل الخطاب الجمالي، مركزا على كشف العلاقات المتشكلة بين الخطاب والمؤسسة، والمضمرات الدلالية هو تعبير يحيل على مفهوم الأنساق الثقافية التي هي مركز القراءة الثقافية، وهي التي تتصف بقدرتها على الاختزان خلف البناء الجمالي واللغوي للنصوص الأدبية. وهذه ميزة مرتبطة بقدرة تسلل العناصر الثقافية إلى داخل الخطاب الأدبي والإنصهار ضمن العناصر الجمالية مما يجعلها صعبة الظهور والفهم والتأويل.

ويقدم محمد الشحات شرحا أكثر دقة لوظيفة النقد الثقافي، وعلاقته بالأنساق الثقافية، خاصة المضمرة منها؛ لأننا نعتقد أن الأنساق باعتبارها موضوعا للنقد الثقافي تنقسم إلى أنساق ظاهرة وأخرى مضمرة. يقول محمد الشحات"يمكن القول في البدء، إن مفهوم النقد الثقافي ينبني على ما يسمى نظرية الأنساق المضمرة التي هي أنساق ثقافية وتاريخية تتكون من البنية الثقافية والحضارية لأي مجتمع، حيث تتقن الأنساق إستراتيجية الاختفاء أو التواري تحت عباءة النصوص، ويكون لها دور في توجيه عقليّة الثقافة وذائقتها ورسم مسيرتها الذهنيّة والجماليّة."

تتصف الأنساق الثقافية بشكل عام بأنها أنساق ثقافيّة وتاريخيّة، لها علاقة عضوية بالبنيات الثقافية والحضارية لمجتمع ما. فهي قبل أن تنصهر داخل النص الأدبي، ذات وجود خارجيّ وجماعي يظهر عبر الأنماط الاجتماعيّة اليوميّة والسلوكيات الممارسة من قبل أفراد مجتمع معين. وما النص الأدبي إلا نسقا لغويّا وخطابيّا يسبقه نسق ثقافي خارجي يتحول إلى داخل النص متواريا خالقا نسقا ثقافيا مضمرا

ويربط محمد الشحات ظهور النقد الثقافي بالمرحلة التي جاءت في فترة ما بعد الحداثة، وأن وظيفته تنحو "نحو وظيفة التفسير/ التأويل سعيّا إلى إلقاء الضوء على ما وراء النصوص؛ أي ما يتوارى خلف الخطاب " discourse " من أنساق مضمرة وتشكيلات خطابية مسكوت عنها."

يربط محمد الشحات ظهور النقد الثقافي بالمرحلة التي أعقبت ما بعد الحداثة؛ بمعنى إن النقد الثقافي قد جاء في مرحلة "بعد" ما بعد الحداثة، والملاحظ أن لاحقة (بعد) الأولى تحيل على الحركيّة الزمنية وليس على التغير المعرفي والفكري الذي يتعلق بـ"ما بعد" الثانية. فما بعد الحداثة ليست هي الفترة الزمنية التي أعقبت مرحلة الحداثة فحسب، بل هي مرحلة تغيرت فيها كثير من الأنماط المعرفية والثقافية.

ويرى أصحاب النقد الثقافي والدراسات الثقافية أن النص عبارة عن وسيلة وأداة، لأن المهمة المنوطة بالناقد الثقافي هي الاشتغال على النص ليس كونه هدفا للقراءة، بل باعتباره مدخلا أساسيا للكشف عن المضمرات الثقافية، ويتكشف لنا هذا النص عبر ما تحيل عليه الثقافة من حيل وألاعيب هدفها هو تمرير هذه الأنساق.

ويرى محمد الشحات أن "النص" في النقد الثقافي عبارة عن وسيلة نكتشف بواسطتها حيّل الثقافة وألاعيبها في تمرير أنساقها، وهذه نقلة نوعية في مهمة أو وظيفة العملية النقدية، ذلك أن الأنساق هي المراد الوقوف عليها بالتفسير والتحليل والتأويل. من هنا يصبح النص في ضوء النقد الثقافي ليس معزولا بصفة كليّة عن علاقات إنتاجه التاريخية ولا عن نسقه التأثري كما اعتادت أن تقوم بذلك الكثير من المناهج الشكليّة والأسلوبية والبنيوية وغيرها بمضمرات الخطاب فعل إنساني تاريخي متأثر بالمجتمع ومؤثر فيه بالقدر نفسه....

يتعامل النقد الثقافي كما يرى محمد الشحات مع النص باعتباره يتضمن جملة من الأنساق التي تحتاج إلى كشفها ثم تأويلها، وذلك في ضوء السياق الثقافي والتاريخي والسياسي الذي أنتجه. ويتعامل النقد الثقافي مع مفهوم النص بعيدا عن المنظور الذي كرسته الدراسات النقدية منذ القديم، ويرتكز النقاد الثقافيون في تحديد ملامح النص ومعالمه على المقولات المركزية للتاريخانية الجديدة، خاصة مقولتي: "تنصيص التاريخ وأرخنة النص."

ويهدف محمد الشحات إلى عدم الإكثار على القارئ وإغراقه في الكثرة المفرطة من المصطلحات والمفاهيم التي قد تتداخل فيما بينها وتستشكل عليه، لا سيما عندما يتحدث عن العلاقة بين التاريخ والسرد والتاريخ والنص وموقعهما بين مجالي النقد الثقافي والتاريخانية الجديدة. ومنه يرى أنّ "التاريخ نص، والنص ليس سوى تاريخ، وبلغة أخرى، فالتاريخ سرد والسرد تاريخ، أو هو مقولة سرديّة بمعنى واسع..."

وقد حاول بعض النقاد العرب المهتمين بالنقد الثقافي استثمار العلاقة الموجودة بين السرد والتاريخ والسرد والثقافة في الاشتغال في الدراسات الثقافية ونذكر منهم محمد الشحات ومحمد بوعزة في كتابه "سرديات ثقافية" ورامي أبو شهاب في كتابه "الممر الأخير، وأدريس الخضراوي في كتابه سرديات الأمة ووحيد بن بوعزبز في كتابه جدل الثقافة، وعبد القادر فيدوح في كتابه تأويل المتخيل...مما وفر للقارئ منجزا نقديا يمكنه أن يؤسس لتوجه السرديات الثقافية العربية.

وكثيرا ما تناقش العلاقة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي من منظور تعارضهما من الناحية المنهجية، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعة وتصحيح لبعض الهنات المعرفية، حيث لا يمكننا أن نتعامل مع النقد الثقافي باعتباره مجالا نقديا مستقلا عن التطورات المعرفيّة والمنهجيّة التي يعرفها النقد الأدبي عبر مراحل تطوره، وتحديدا مع مرحلة ما بعد الحداثة، وما رافقها من مراجعات لكثير من المفاهيم أهما مفهوم الأدب. ولهذا فليس النقد الثقافي نقيضا منهجيا ومعرفيا للنقد الأدبي؛ بل هو دعوة إلى مراجعة كثير من المفاهيم التي سادت داخل النظرية الأدبية لقرون طويلة.

لهذا فهناك من النقاد من يعتبر أن النقد الثقافي سوف يحلّ محل النقد الأدبي، كونه قد وصل إلى حد التشبع النظري والإجرائي. لكن هذا الموقف يبقى نسبيا لأننا لا يمكن أن نتهم النقد الأدبي بتخمة نظرية وإجرائية بمثل هذه السهولة، إذ يتطلب ذلك أن نقول بأن النقد الثقافي هو مرحلة مفصلية من مراحل النقد الأدبي وليس إنهاء لدوره النظري والإجرائي.

ويرى محمد الشحات أن "النقد الثقافي مشروع في نقد الأنساق في المقام الأول، وهنا تكمن أحد التحولات الجذريّة التي يفترق فيها النقد الثقافي عن النقد الأدبي، على اعتبار أن النقد الأدبي يعنى بنقد النصوص الذي هو بحث في الجماليات والمجاز والأسلوب، لذلك سوف يصبح مفهوم المجاز الكلي من حيث هو مجاز يتحرك على محوري التركيب والدلالة معا، بديلا عن المجاز البلاغي."

وما يجب التشديد عليه أن النقد الثقافي لا يرفض المناهج الأدبية بل يحاول توظيفها والاستفادة منها وفق المبحث الثقافي الذي يشتغل فيه / عليه؛ بمعنى أن النقد الثقافي يحتاج على المستوى التطبيقي التوسل ببعض المناهج الأدبيّة التي لا تتعارض وبعده المنهجي، مما يستدعي مداخل قرائية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية.

***

طارق بوحالة

 

في المثقف اليوم