قراءات نقدية

توظيف الشخصية التراثية عند مظفر النواب

يعد توظيف الشخصية التراثية أحد الوسائل التعبيرية التي يستخدمها الشاعر الحديث للتعبير عن تجربته الإبداعية والمعرفية على حد سواء، وليست التجربة الإبداعية منفصلة عن رؤية الشاعر، الامر الذي يؤكد تفاوت الشعراء في كيفية النظر الى الواقع المعاصر والى التراث في الوقت نفسه، ويقود هذا الى تغاير في طبيعة النظر للشخصيات التراثية وكيفية توظيفها معرفيا وفنيا.

ان توظيف الشخصيات التراثية يمنح (القصيدة المعاصرة طاقات تعبيرية لا حدود لها... ولقد ادرك الشاعر المعاصر انه باستغلال هذه الإمكانات يكون قد وصل تجربته بمعين ينضب من القدرة على الإيحاء والتأثير)[1] وبهذا يتجاوز الشاعر الحديث النزعة الغنائية المهيمنة على الشاعرين الاحيائي والرومانسي، من اجل إضفاء قدر من الدراما والتعبير من خلال الشخصيات التراثية واستخدامها (قناعا) للتعبير عن نزعته الذاتية التي يريد لها ان تختفي خلف هذه الشخصيات التراثية والاقنعة، ويحملها رؤاه وافكاره ومواقفه السياسية. وبهذا يتجاوز الشاعر الحديث الشاعر الاحيائي الذي يعمد الى محاكاة الشخصية التراثية واستعادة حضورها، في حين يعمد  الشاعر الحديث الى خلق جديد  للشخصية التراثية بحيث تعبر عن امرين مزدوجين، أولهما: المحافظة على بعض ملامح الشخصية التراثية، وثانيهما: يحمل رؤية الشاعر الحديث، فيعبر (الشاعر / الشخصية التراثية) عن معاناة معاصرة.

واذا كانت القصيدة الاحيائية تحاكي التراث الشعري في اوزانه وقوافيه وصوره البلاغية بشكل تبدو صوره موازية للتراث الشعري فان الشاعر الحديث يعيش عالما اخر، وأصبحت تجربته اكثر تعقيدا وشمولا وغموضا وتشابكا، الامر الذي دفعه الى التعبير عن هذا التغير بأدوات جدية، فعمد الى تغيير الاوزان والقوافي وفي التعبير بالصور الشعرية التي تنسجم مع طبيعة التغير الحاصل في العالم، وتنسجم مع طبيعة التجربة الشعرية التي تريد التعبير عنها.

ويعد توظيف الشخصية التراثية احد مكونات (القناع) الذي يحدده عبد الوهاب البياتي بانه (الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردا عن ذاتيته) [2].وهذا يعني ان توظيف الشخصيات التراثية يعد (معادلا موضوعيا) لتجربة الشاعر الذاتية، وقد تبلور هذا المصطلح لدى ت. س. إليوت الذي اكد في اثناء حديثه عن الشاعر فاليري بان (مركز القيمة قائم في الانموذج الذي نصنعه من مشاعرنا وليس في مشاعرنا نفسها، فالقصيدة التي يكتب لها البقاء ليست نتاج سكب العواطف الذاتية، اذ ان الطريق الوحيدة للتعبير عن العاطفة انما تكون بالعثور على معادل موضوعي).[3]

وقد يضمن الشاعر التقليدي قصيدته  شخصيات تراثية بأسمائها واقوالها وافعالها، لا على أساس انها جزء ملتحم مع البنية التكوينية والوجودية للنص الشعري، وانا لمجرد كونها (إشارة) يزين بها قصيدته، ومن ثم فان الشخصية لا تعدو ــ هناــ سوى تسجيل خارجي واضفاء معرفي شكلي.

ويختلف الامر تماما في توظيف الشخصيات التراثية عند شعراء الحداثة، اذ يصبح التوظيف جزءا من بنية النص الشعري و جزءا معبرا عن رؤية الشاعر، بحيث تسهم في تعميق الوعي فضلا عن تأثيرها في النص من حيث ايقاعه ولغته واستكمال صوره وفي التأثير بالمتلقي بدهشته وانبهاره بالمضامين الجديدة.

2

كان مظفر النواب يعيش واقعا خاصا يؤثر في حساسيته الشعرية، وفي تعميق وعيه بالتراث، وبخاصة ان باصرة مظفر النواب تلتقط صور الواقع الذي يعيش فيه من ناحية، والتجسيد التاريخي الذي يشاهده في المواسم الدينية من ناحية اخرى، ان مدينة الكاظمية التي يعيش فيها الشاعر زودته بمشاهد الواقع التعيس الذي يعيشه الانسان، وجعلته يبصر تجسيد التراث التي يعيد صياغتها المجتمع الشيعي لواقعة حدثت قبل اكثر من الف عام في  احتفالية فريدة، اذ لا يخفى ان منزل مظفر النواب بخصائصه الارستقراطية كان جزءا من استعادة الماضي، بحيث يكون خلفية مسرحية مزدانة بالديكور، فلقد كانت أبواب بيته الخشبية الضخمة (تشبه أبواب القلاع تتسع لدخول مواكب عاشوراء بالخيول والاعلام والمشاعل، فكانت تدخل من باب لتخرج من الباب الثاني،... وكان اهل الدار يرشون ماء الورد على المواكب التي كانت تدخل البيت وهي تردد بصوت هادر الاهازيج والردات الحزينة والاشعار والتراتيل... ان هذا المشهد المشبع بالحزن والاسى ولطقوس المثقلة بالرهبة والخشوع كان يتكرر سنويا داخل البيت في عاشوراء مما ترك بصماته في بعد في شعر النواب وذكرياته) [4].

كانت عيون مظفر النواب تقتنص التجسيد التمثيلي لاستعادة الماضي وتكرار خلقه من جديد، ولا ريب انه وبسبب حساسيته المفرطة في طفولته وبسبب حساسيته الثورية بعد انتمائه للحزب الشيوعي العراقي، جعلته ينحاز الى الانسان البسيط في مجتمع الكاظمية، وينحاز أيضا الى الثائرين في التاريخ الذين عبروا بصلابه وصدق عن مواقفهم حتى الاستشهاد، ولذلك ادرك الواقع بازدواجيته الثنائية، الماضي / الحاضر.

ولقد اثر هذا كله في رسم ملامح توظيف الشخصية التراثية في شعره ونثرة على السواء، يقول مظفر النواب:[5]

اما انا فلا اخلع صاحبي

عاشرته وخبرته وعرفيته

ولذا لا اخلع صاحبي

يستعيد هنا الشاعر مهزلة التحكيم التي حصلت بين ابي موسى الاشعري وعمرو بن العاص، حيث تمكن عمرو من خداع الاشعري  ليخلع صاحبه الامام علي من الخلافة، ولكنه يعيده بشكلها المخالف تماما، واذا كان الاشعري قد خلع صاحبه فان مظفر النواب ـــ هنا ـــ يرفض خلع صاحبه،اما انا فلا اخلع صاحبي، وقد برر سبب الرفض الى معرفته وخبرته ومعاشرته، بمعنى ان الوعي يسبق المواقف.وبهذا يستعيد موقفا وفعلا وعبارة، ولكنه يوظفها بالتضاد من موقف الاشعري، من خلال ظاهرة تناصية لا تعتمد الاقتباس الساذج وانما تفجر دلالات جديدة في النص الشعري الحديث، وتضفي عليه ملامح ثورية جديدة.

ان الشاعر لا يتحدث هنا عن الاشعري وانما يتحدث عن قضية سياسية معاصرة، تعاني من ارهاصات الهزيمة والتنازل في لحظات ضعفها.وبقي الشاعر وفيا لثوابته الفكرية مهما كانت الصراعات والدسائس التي تحك ضدها.

ان انحياز مظفر النواب للرفض هو جزء من تكوينه اليومي،ولكنه يعضده برفض تراثي، ولذا فانه ينحاز لحركة القرامطة  الصورة الاشتراكية التي حاول تجسيدها الحسين الأهوازي، وحمدان قرمط، وهما يطوران النضال في الفكر الإسماعيلي الذي تميز بأصالته ورموزه الباطنية العميقه، يقول:

من هذه الأرض ابتدأت دعوة ابتدأ بها إسماعيل، ثم تلاقفها القرامطة، وانا قرمطي، أولئك قالوا مشاعة الأرض ومشاعة السلاح ولكن لم يقولوا مشاعة الانسان، وانا أيضا مع مشاعة الأرض ومشاعة السلاح ولكني لست مع مشاعة الانسان.[6]

ويزاوج مظفر النواب بين تفرد العشق وتكامله من ناحية واتقان المعرفة من ناحية ثانية، فلقد اصبح تلميذاً للحسين الأهوازي في الصف الأول في مدرسة القرامطة، وكان الاهوازي ثوة تحكي في المهد: [7]

في العاشر من نيسان تفرد عشقي

اتقنت تعاليم الاهوازي

ووحدت النخلة والله وفلاحا

يفتح نار الثورة في حقل الفجر

تكامل عشقي

....

ووقفت امام القرن الرابع للهجرة

تلميذا في الصف الأول

يحمل دفتره، يفترش الأرض

يعرف كيف تكلم عيسى في المهد

فان الثورة تحكى في المهد [8]

ويقول:

كيف نسينا القرن الرابع للهجرة ؟ كيف نسينا التاريخ ؟

كان القرن الرابع للهجرة فلاحا يطلق في اقصى الحنطة نارا

ويحدد مظفر النواب انتماءه:

انا انتمي للفداء

لرأس الحسين

وللقرمطية كل انتمائي [9]

اما الامام علي فيحتل مكانة خاصة لدى مظفر النواب، فهو ملك الثوار، وان التآمر عليه انما هو تآمر على كل الثورات والثوار، وهو الرمز المطلق، ينتمي اليه وينحاز له: [10]

انا انتمي للجياع

ومن سيقاتل

انا انتمي للمسيح

المجدف فوق الصليب

لمحمد

شرط الدخول الى مكة بالسلاح

لعلي بغير شروط

انا انتمي للفداء

لرأس الحسين

وحين يعيش مظفر النواب الغربة في المنفى يحلم ان يستذكر اوجاع بلاده  العراق، المضمخ بدماء الشهداء في الحديث والقديم، ولذلك يستودع أحلامه لطائر البرق الذي يمثل رمزا للوعي، كي ينقل الى وطنه تحياته وسلامه: [11]

أحمل لبلادي

حين ينام الناس سلامي

للخط الكوفي يتم صلاة الصبح

بإفريز جوامعها

لشوارعها

للصبر

لعلي يتوضأ بالسيف قبيل الفجر

أنبيك علياً

ما زلنا نتوضأ بالذل

ونمسح بالخرقة حد السيف

وما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف

ما زالت عورة عمرو بن العاص معاصرةً

وتقبح وجه التاريخ

ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية

ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء،

يؤلب باسم اللات

العصبيات القبلية

ما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتها

وتراك زعيم السوقية

لو جئت اليوم

لحاربك الداعون إليك

وسموك شيوعا

ويرسم مظفر النواب لوحة فنية يتداخل فيها المكان بالرؤية وبالتكرار الايقاعي، بمعنى ان خلفية اللوحة ترسم ويتم اسقاطها على الشخصيات التراثية سمات عصرية.4754 النواب

وتتجلى أهمية التكرار الايقاعي وامتزاجه بالصورة وتفرع منهما التلوينات والدلالات كصور عنقودية:4755 النواب

وتصاحب هذه التلوينات دلالات مصاحبة تتفجر فيها اللغة  ضمن استعارة كبرى للدلالات الجمالية والمعرفية للنص الشعري،اذ يمتزج الفني بالمقدس، فالخط الكوفي يتم صلاة الصبح، إذ يضفي على هذا الفن الرفيع والاصيل من فنون العرب، أقول يضفي عليه مظفر النواب دلالة انه يؤدي صلاة الصبح، وكذا الامر حين يتحول الوضوء من الماء الى الوضوء بالسيف كما هو في قوله: لعلي يتوضأ بالسيف قبل الفجر، والملاحظ ان الشاعر هنا يجعل من الصبح والفجر زمانين يمتزج بهما الفني والثوري من ناحية بالمقدس من ناحية ثانية.

ان مظفر النواب يتحدث عن خندقين، خندق جند علي الذين مازالوا ــ كما في التاريخ ــــ يتحججون بالبرد وحر الصيف، وهو خندق الفقراء، والخندق الاخر هو خندق الطبقة الارستقراطية التي يقودها دينيا  وتاريخيا أولئك الطارئون على الوعي.

موقفان متعارضان، موقف الامام علي زعيم الفقراء والبسطاء، وموقف الارستقراطية التي لا زالت تمتح دينيا من الصنمية الفكرية، ومن الطبقية القبلية ، ويعتمد الشاعر في توظيف التلوينات الصوتية واللونية، فلقد اضفت اللحية الصفراء لابي سفيان دلالات المكر والدهاء، وكذا تأليبه العصبيات القبلية بحسب عبادة الاصنام، في حين يمثل الامام علي نقاء الدين وروحيته وثوريته، مؤكدا المساواة بين الناس جميعا، ولذا فان الأغلبية السوقية هي التي تتبنى الامام علي زعيما وقائدا، تم تأتي الومضة الأخيرة

لو عدت اليوم لحاربك الداعون اليك

وسموك شيوعية.

***

ا. د كريم الوائلي - أستاذ جامعي

ومدير عام سابق في وزارة التربية العراقية

........................

[1] علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،الشركة العامة للنشر والتوزيع والاعلان، طرابلس، 1978،  ص 16.

[2] عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، دار العودة، بيروت،1990، ص 37.

[3]  ف. أ. ماثيسن، ت. س. اليوت الشاعر الناقد، ترجمة احسان عباس مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، 1965، ص 132.

[4] باقر ياسين، مظفر النواب حياته وشعره،دار الغدير، قم، 2003، ص 16.

[5] https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=562641

[6] https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=562641

[7] باقر ياسين، مظفر النواب حياته وشعرة، ص 253.

[8]  باقر ياسين مظر النواب حياته وشعره، ص 124

[9] مظفر النوب، الاعمال الكاملة، دار فاروس للنشر، القاهرة، 2012 ،  ص 158.

[10] نفسه، ص 174 ــ 175.

[11] مظفر النواب الاعمال الكاملة، ص 155 ــ 157.

 

في المثقف اليوم