قراءات نقدية

الصّحراء.. مبْعث الحكي السّاحر

الصحراء ذلك السحر الأسطوري الكامن في المخيال الجمعي للإنسانية عامة، وفي الذاكرة العربية بشكل خاص، حيث تبرز الصحراء في الوعي، والمُخيّلة مَجْمَعًا للنقائض، منسجمة مع طبيعتها المتقلِّبة، فهي لا تسكن حينًا حتَّى تثور، ولا ترضى لحظة حتَّى تغضب، تفرح فيتحوَّل الكون إلى مسرح شعريّ رائع، وتغضب، فيكون في غضبها الهلاك والشقاء. ولوج الصحراء فتْحٌ لإمكانية السرد.. أن تعيش وترى، وتحكيَ عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسي، بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من مُحرِّضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسع أفق التصور المحفّز على الإبداع..

يبدو لنا أن الشفاهية هي مفتاح ثقافة الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغه المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية. فالصحراء تعتمد على الشفاهية في مختلف شؤونها. والشفاهية تشمل الشعر والسرد معا. ولها تأثيرات بليغة في إنتاج المادة الأدبية نفسها، ثم في تداولها ونشرها وحفظها. والكلمة الشفاهية / كلمة الصحراء هي ما يقال بالفم، وليس ما يرى بالعين أو يخط بالقلم، إنها جزء من المتكلم أو الناطق، وهي أقوى وأثبت وأشد تأثيرا حتى حدود الأسطرة والسحر.. في ثقافة الصحراء الكلمة المنطوقة تكفي: فلها قوّتها وفعلها وسيطرتها، أما الكتابيين فيضعف تأثير الكلمة المنطوقة عندهم ويحتاجون إلى الكلمة المكتوبة الموثقة (وإذا تداينتم بدين فاكتبوه) في القرآن الكريم، وهذا مطلب حضري جاء مع تبني الاسلام للنمط الحضري. أما البدوي فعند كلمته (المنطوقة الملفوظة) ولا يحتاج كلاما مكتوبا لتثبيت وعده أو فعله، بل كلمته هي قوته وفعله.[1]

الحضارة في أصل دلالتها ترتبط بالاستقرار في مقابل البادية، أو الصحراء المتسعة التي يتحرك الناس في بقاعها بحرّية أكبر وبإقامة أقل في المكان الواحد. الصحراء حرية والمدينة سجن. الصحراء مفتوحة والمدينة مغلقة. الصحراء ممتدة والمدينة مرتدّة.

الصحراء حرية ..المدينة سجْنٌ

الصحراء أيضا ليست ثابتة تماما على مر الزمن، فقد "تتحضّر" بعض بقاعها إذا ما تغير مناخها وظهر نباتها وصلحت بعض أراضيها للزراعة، وقد يتصحّر الريف وتتصحر القرى إذا ما تعرضت لتغييرات معينة، كأن يجف مطرها ويقل نباتها. ولكن مثل هذا التغير يكون على مدى أزمنة طويلة. وكذلك هناك تغيرات وهجرات من الصحراء وإليها، فقد يتحضر (يقيم) البدوي، وثم أخبار ومرويات سجّلها الرواة الأوائل عن الأعراب الذين انضموا للحواضر وغدوا قنوات لنقل معارف البادية وأشعارها ومروياتها السردية، و تمكننا المصادر العربية من معرفة بعض أسمائهم. وأكثر من يلقبون ب "الأعرابي" أو "ابن الأعرابي" وهم كثر في أخبار المؤلفين والرواة، هم ممن لهم صلة بهذه الفئة من الرواة الأعراب الذين انتقلوا إلى الحضر، أو ظلوا يترددون بين البادية والحاضرة. وهناك رحلات العلماء الحضريين (الأصمعي وغيره..) إلى البادية وعودتهم بحكايات ومرويات كثيرة تمثل صورة من صور التقاط صور البادية وثقافتها بمنظور حضري وأدوات كتابية. وقد يتبدى بعض أهل الحضر ويدخلون في البادية، فيتحولون إلى البداوة بتغيير نمط حياتهم. وفي الحديث نهي عن التبدي "من بدا جفا" وهو موقف مفهوم في ضوء تبني الإسلام للنمط الحضري. وهذا يدلنا على أن التفريق يعتمد نمط المعيشة على الأمد البعيد أكثر مما يرتبط بمجموعات سكانية ثابتة أو معينة. ولذلك فقد نجد قبائل منقسمة بين نمطين أو ثلاثة كما يدل على ذلك بحث أستاذنا الدكتور الأسد الذي أشرنا إليه.[2]

للصحراء سرْدها الساحر

إن للصحراء سردَها، وسرد العرب في جذوره سردٌ صحراوي إجمالا، إذا كان يخيّل إلينا أن الشعر هو فنّ الصحراء الأثير، أو الوحيد فإن ذلك الوهم سببه ثبات الشعر أكثر من النثر، والمرويات السردية، من ناحية قابليته للحفظ مع وجود الوزن والقافية والرواة الموكلين بحفظه وإنشاده. إن الشفاهية هي مفتاح الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغة المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية.. إنها الكتابة بلغة الرمل..

يقول الشاعر والروائي الجزائري أحمد عبد الكريم:

«كتابة الصحراء، لا تُعْني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما تعني نقْل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الايكزوتيكية" الغرائيبية "»[3].

ويذكر في مقاله عن رواية ربيعة جلطي“ نادي الصنوبر” التي تتناول عالم التوارڤ  ما ورد على لسان المرحوم عثمان بالي في كلامه للجمهور في إحدى الحفلات: « الليلة إن شاء الله ما قدرناش نجيبوا لكم الصحراء.. نُدّوكم أنتم للصحراء ».

المُبدعون توّاقون إلى غرائيبيتها

وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مُثقلون بوفرة من الحكايات. غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتع فذٌّ للخيال، وفضاء لا يُضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء، وروائيين، ومغامرين، ومستكشفين، وجواسيس، ومغرمين بأحابيل الجغرافيا، وعتمات التاريخ، ومتصوفةً، ومهووسين بالتحرش بحدود الموت، وغيرهم ليدخلوها، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه. كتب لوكليزيو رواية "صحراء"، الفرنسي الحائز على جائزة نوبل سنة 1980م، ومثله فعل، ولكن في مدار تجربة مختلفة، الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورنس، أو كما يعرفه الكثير من الناس بلورنس العرب، وهو يكتب "أعمدة الحكمة السبعة"، وكذا انطوان ده سانت  أكزوبري الذي بأسلوبه الأدبي البديع، وبروحه الفلسفية، صوِّر لنا عظمة الطيران، وإثارته، وأخطاره، وعزلته في كتابه الجميل:" أرض البشر"، لمّا قاد طائرات البريد الجوي عبر صحراء شمال أفريقيا.

روائيون رصدوا لحظات التحوّل

تناول روائيون عرب عديدون الصحراء حاضنة مكانية لها فرادتها، والتي تحدد تعرجات الأحداث وتؤطرها؛ ذلك لأن للصحراء قوانينها، وسطوتها الثقيلة على إنسانها، وقدر هذا الإنسان ومصيره. لكنَّ هؤلاء الروائيين رصدوا لحظات التحول في الصحراء، لحظات الاختراق التاريخية مع دخول المستعمر، واكتشاف النفط، وبناء المدن، وانتشار وسائل التقنية، ومؤسسات الإدارة الحديثة، أي في شبكة علاقاتها مع خارجها.. نذكر هنا، رواية " فساد الأمكنة " لصبري موسى، وروايات "النهايات" و" سباق المسافات الطويلة "، و" مدن الملح بأجزائها الخمسة " لعبد الرحمن منيف.

أمّا ما فعله إبراهيم الكوني فإنه رسم الصحراء في عزلتها الكونية وعذريتها، وتمنُّعها، حتى بعد تصديها لغزو الأغراب " المجوس والفرنسيس"، وإصرارها على البقاء مِهاداً للحكايات العجيبة والأساطير، وعالماً فسيحاً مُقْفرًا للإنسان. وعندما نتقصّى متْن السرد، والصحراء حتى إلى وقت قريب سيقفز تأكيدًا أمامنا اسم الروائي الليبي إبراهيم الكوني بكمّ رواياته، وبثيماتها المنفتحة على فضاءات متفرّدة زماناً ومكاناً وأنماط علاقات، ورؤية ورؤيا.

متْنُ السّرد الصحراوي تعدّد

فرض فضاء الصحراء نفسه، وبقوة كبيرة على النص الروائي الجزائري المعاصر، بحكم جاذبيته، وروائع طقوسه، وعاداته وتقاليده الساحرة الآسرة، وبحثا من الروائيين الجزائريين عن فُرص جديدة للتجريب، وممارسة مغامرة الكتابة بنوع من الممارسة العشقية مستعينة بقاموس صوفي ثري بمصطلحاته الموغلة في الوله والوجد والفناء؛ خاصّة لدى مبدعي أبناء الصحراء مولدًا، ونشأة، وإقامة؛ ممّا سمح بتعدّد مبدعي السرد قصصًا، وروايات، كما لم يبق هذا الجنس الأدبي حكْرًا على مبدع بعينه؛ لكوْن أسماء أخرى ظهرت على الساحة العربية، وخاصة في منطقة المغرب العربي منهم الروائي الموريتاني موسى ولد ابنو وروايته "مدينة الرياح"، والروائي المالي عمر الأنصاري صاحب رواية "الرجال الزرق".

الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت

ومن الذين ولجوا الصحراء، وفتنتهم فعشِقوها، وكتبوا عنها وأبدعوا، وبقدْر ما ألهمتهم الصحراء فإنهم خلّدوها في أعمال سردية رائعة أشبه ما تكون بلوحات تشكيلية رائعة الجمال.. الكاتبة الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت ذات الشخصية التاريخية المثيرة للجدل، ليس فقط لأنها جزء من ذاكرة الجزائر، وقطعة من فسيفسائها، ولكن لشهرتها العالمية ككاتبة، وما أحيط حولها من جدل، وشكوكٍ في تحرّكها، وعلاقاتها

لقد وجدت في الجزائر جنتها الأرضية، ووطنها المفقود، فاعتنقت دينه الإسلامي الحنيف، وساندته في فضْح بشاعة الاستعمار، وساهمت في ثقافته، وكل هذا بنشاطها وبقلمها الجريء، وأسلوبها الرومانسي الدافئ تارة، والساخر تارة أخرى؛ وهذا ما نستشفّه من كتاباتها، ومراسلاتها الصحفية. عشقت إيزابيل الوادي (وادي سوف.. الجنوب الشرقي الجزائري)، ونخيلَها، وكثبانَها الرملية، وأزقَّتها وآبَارها، وساحاتِها، ومآذنَها، وإبلها فجاءت كلُّها صورا متناسقة منسجمة في كتاباتها عن الوادي؛ كما كانت واضحة جليّة في ذهنها ومخيّلتها.

لقد بلغ عشقُ إيزابيل للوادي حتى أن الذين عاشوا حياتهم كلها في هذه المدينة لا يمكن أن ينافسوها في معرفتها لها، واطلاعها على أتفه الجزئيات، والدقائق في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية لهذه المدينة حينذاك وهي التي أطلقت على مدينة الوادي: "مدينة الألف قبّة وقبّة". عرفت إيزابيل عن الوادي خيرها وشرها، جِدّها وهزلها، عفّتها، وفجورها، عاداتها وتقاليدها. عرفت من أهلها صدقهم وكذبهم، غدرهم وإخلاصهم، صداقتهم وعداوتهم.. كل ذلك سجّلته في نصوص سردية جميلة أشبه بلوحات تشكيلية في غاية الجمال.

تجاربُ مهمّةٌ

الحديث عن الصحراء يجعلنا نلتفت إلى تجربة مهمة، هي تجربة الكاتب الجزائري حبيب السايح الذي عرفت فترةُ إقامته بأدرار تحولا نوعيا في لغة، ومعمارية، وثيمات رواياته، وفي تبلور رؤية جديدة عبْر تلك اللغة التي تنسكب كلمات معجونة بالرمل. إضافة إلى أعمال سردية أخرى تتخذ الصحراء فضاء معماريا كرواية" تميمون" لرشيد بوجدرة، رواية " نادي الصنوبر" لربيعة جلطي، رواية اعترافات أسكرام للأستاذ عزّ الدين ميهوبي، والمجموعة القصصية" حائط رحمونة " للدكتور عبد الله كرّوم، ومجموعة" مغارة الصابوق"، رواية " مملكة الزيوان"، رواية" كاماراد"، ورواية" منّا..قيامة الشتات الصحراوي للدكتور الحاج أحمد الزيواني، رواية " تنزروفت .. بحثًا عن الظلّ" للدكتور ضيف الله عبد القادر، ورواية " الشهيلي " LE SIMON باللغة الفرنسية للأستاذ علي عبيد من الوادي، رواية " أعوذ بالله " للدكتور السعيد بوطاجين. رواية "الخابية" للكاتبة الإعلامية جميلة طلباوي، وكذا روايتها" وادي الحنّاء"، رواية" صحراء الظمإ "للأخضر بن السايح، وكذا رواية" فجْر الغيطان" للكاتب الإعلامي خليفة قعيد، رواية " تاغيت" للدكتور باديس فغالي.

ونختم برواية" نبوءات رايكا " للكاتب خيري بلخير التي فازت بالمرتبة الأولى للغة العربية في جائزة علي معّاشي لسنة 2019. كما في شهر فيفري 2020 فاز القاص، الروائي عبد الرشيد هميسي في جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع بروايته الموسومة ب " الملحد بقيّ بن يقظان" التي تجري وقائعها في بلدة حاسي خليفة بربوع وادي سُوفْ.

وتبقى الصحراءُ مصدرَ إلْهامٍ

في رأيي الشخصي النصّ السّردي الصحراوي، ليس فقط الذي يتّكئ على الصحراء مصدرًا للأحداثِ فحسبُ، وإنّما تلكم أيضًا الروائح، والأساطير، والذكرياتٍ التي سكنت الصحراء، وآثار الإنسان من رسومٍ، ونقوش، ممّا قد يُكسبُ النصّ السّرديَّ الغرائبية.

***

كتب: بشير خلف

..................

[1] - محمد عبيد الله. الصحراء رؤية تأسيسية في ثقافتها وسردياتها. مجلة الكلمة. العدد 110 يونيو 2016

[2] - الصحراء رؤية تأسيسية في ثقافتها وسردياتها (مرجع سابق)

[3] - محمد بن زيان. في السرد والصحراء. جزائر سْ. 04 / 02 / 2013

 

في المثقف اليوم