قراءات نقدية

عندما تخون الذاكرة.. تجليات الغرائبية في رواية: المواطنة 247 للكاتبة بشرى الهلالي

“أن تحمل رأسك فوق كتفيك، هذا لا يعني بأنّك تمتلكه” بهذه العبارة التّصديرية، تحاول الكاتبة العراقية بشرى الهلالي، ركوب موجة التّجريب السّردي والانعتاق من الكتابة النّمطية المُتراكمةالمتون، وتجاوز النّماذج التّقليدية المألوفة من خلال هدم المبنى التقليدي للمحكي وتحريره من قيود الكلاسيكية القديمة، إذ توظّف تقانة، الغرائبي، بوصفها الثيمة الأساسية والمهيمنة شكلا ومضمونا ووظيفة، مخترقة بذلك حدود المعقول والمنطقي والتأريخي والواقعي، فهي تنحو نحو وقائع غريبة من طريق تمويه الواقع والسُّمو بالخيال، والمزاوجة بين الواقعي واللاواقعي وبين المألوف واللامألوف قاصدةً من وراء ذلك إيصال رسالة للقارىء العربي والعراقي تحديدا، مفادها بأن الحكومات الديكتاتورية عندها الأستعداد لمصادرة حيوات شعوبها من أجل البقاء أطول مدة ممكنة

ولعل العوامل السّياسية والوقائع التأريخية والتّحولات الثّقافية والفكرية أسهمت في بلورة هذا النوع من السّرد، وقد فصل القول فيه الناقد كمال أبو ديب فجعله “بؤرة الخيال الخلّاق الذي يجمع مخترقا حدود المعقول، والمنطقي، والتأريخي والواقعي، ومخضعًا كلّ ما في الوجود من الطبيعي إلى ما ورائي لقوة واحدة فقط هي قوة الخيال المبدع المبتكر، الذي يجوب الوجود بإحساس مطلق بالحرية المطلقة، يعجن العالم كما يشاء ويصوغ ما يشاء غير خاضع إلا لشهواته ولمتطلباته الخاصة ولما يختار هو أن يرسمه من قوانين وحدود “.

وقد انمازت رواية المواطنة ٢٤٧ بقدرتها على رصد بعض قضايا المشهد العراقي خلال مرحلة منتصف التسعينيات حتى قيام حرب الخليج عام ٢٠٠٣، فجاءت تعبيرا عن واقع مشوه ومزيف أفرز أمراضا متعددة، انسحقت فيه نفسية المواطن العراقي حتى باتت مشوهة، تعاني الموت السّريري زيادة على مصادرة كلّ ما هو إيجابي وسط حروب وفقر وتخلف، ويمكن رصد أهم التجليات الغرائبية في هذه الرواية على النّحو الآتي :

اولا: غرائبية العنوان

عنونت السّاردة روايتها بـ المواطنة ٢٤٧، المتأمل لهذا العنوان من حيث التركيب اللغوي يلحظ أنّه جاء بصيغة الجملة الأسمية المتكونة من، المسند (المواطنة) وهي المُحَدَّث عنه والمسند إليه وقد جاء رقما ٢٤٧ وهو المُحَدَّث به، والجملة الأسمية على حدّ قول النحويون، يُؤتى بها للدلالة على الثبات والاستمرار، وهذا يشير إلى أن المواطنين أصبحوا وسيصبحون ارقاما لا غير واستعيظ عن أسمائهم بالأرقام التي تدخل ضمن شبكة بيانية معلوماتية مبرمجة لمراقبة تصرفاتهم وكلامهم وأفعالهم، فالعنوان يشير إلى أن المتن سيعالج قضية لأمراة تحمل هذا الرقم بعد أن أصبحت الذاكرة ملكا للدولة منذ منتصف التسعينيات، عندما كثرت الاختراقات والمؤامرات التي أرهقت رجال الأمن حسبما يدعون وفي هذا العنوان نلمس رؤية بعيدة المدى لما سيكون عليه المستقبل .

ثانيا: غرائبية الشخصيات

يبدأ الراوي الخارجي بوصف الشخصيات التي تدور أحداث الرواية عليها، وهي أسرة مكونة من خمسة أفراد يرزخون تحت وطأت ساعات القطع المبرمج للذاكرة، الأب وهو الذي استسلم بكامل إرادته لفكرة تصدير الذاكرة، فهو يذهب إلى عمله ويعود لينام، ثم يستيقظ ليأكل، ثم ينام فهو بمثابة الميت سريريا بعدما كان شعلة من النشاط والحيوية، إذ أكمل دراسته بجد واجتهاد وقرأ كل ما وقعت عليه عيناه من كتب التأريخ والشعر، وكان رساما موهوبا وعازفا على آلة الكمان، وبعد أن التحق بخدمة العلم في الثمانينيات، انتدب مدرسا للتأريخ في مدرسة تابعة لإحدى المحافظات الجنوبية، يقول :” مرت السنوات وأنا اكرر الكلام نفسه عن التأريخ الأموي والعباسي والتأريخ الحديث، ..فكل ما فعلوه انهم أضافوا إليه نصرا مزيفا وهزائما مزوقة… ولم أعد أحتاج أيضا إلى استعمال رأسي أو ذاكرتي، فما افعله اليوم لا يختلف عما فعلته بالأمس، ولن يختلف عما سأفعله غدا” يرى أن ذاكرته إذا عادت بعد ساعات القطع المبرمج، لا تجود عليه سوى بأصوات الطائرات الحربية وأزيز الرصاص ووجه صديقه الذي استشهد خلال إحدى الغارات الجوية ولذا “فعلوا خيرا حين صادروا رؤوسنا، وحجبوا الذاكرة”.

الأم/ وهي آمنة جابر، الفتاة السّمراء الجميلة الذكية الحالمة المحبّة والقارئة النَّهمة، التي أُقتيدت عندما كان عمرها سبعة عشر عاما مع حبيبها ابن جارها (سلام)، إلى مركز شرطة الآداب تحت تهمة تبادل قبلة بينها وبين حبيبها، تلك القبلة التي انتظرتها طويلا والتي استحالت إلى أصفاد تكبل يديها لتلقي بها في سجن لم يكن ارحم من الزنزانة التي قضت فيها ليلة فرحتها الأولى، فهي في نظرهم تلك الفتاة قليلة التربية التي جلبت الخزي والعار لأهلها الذين اضطروا إلى ترك مكان سكناهم والانتقال إلى منطقة أخرى، وتزويجها بأول رجل يتقدم لخطبتها، وهكذا بقيت تكافح مرارة الحياة في ظل حصار شرس وزوج ميت سريريا لتأمين لقمة العيش لأولادها الثلاث، إلا أنّها بقيت تحاول قدر الإمكان شحن ذاكرتها الأصلية والحفاظ على المتبقي من خزينها وعدم الانقياد لسياسة مصادرة الذاكرة بشكل تام “سأصنع ذاكرة تكفيني لأهرب مع أولادي” وقد نجحت في إحداث خلخلة في نظام البرمجة بعدما اكتشفت تلاعبت ابنتها في ذاكرة رأسها خلال فترة غيابها خارج المنزل،  استجمعت الأفكار في رأسها واكتشفت أن الراس يحمل فقط الشيفرة التي يقابلها رقم في منظومة البرمجة، أما الجسد فهو كتلة من اللحم والفعاليات الحيوية التي لا تهم أحدا، فلا فارق إن وضع هذا الراس على جسدها أم على جسد حمار، وحتى تتأكد من ذلك الاكتشاف عليها أن ترتدي رأس زوجها مرّة أو رأس أحد أبناءها لترى إن كان ذلك سيشكل فارقا .

وكان من حسن حظها أن حبيبها الأول الذي تخلى عنها في مركز شرطة الآداب، هو نفسه المهندس والمراقب لمنظومة برمجة الرؤوس وهو المسؤول عن ذاكرة أسرتها ايضا، وكان قد شعر بهذا التّلاعب في ذاكرة آمنة وأنّها لم تستثمرها في عملها وفي رعاية عائلتها فقط، لكنّه لم يرد خذلانها للمرة الثانية فبقي يراقبها ويحميها من بعيد من غير أن تشعر هي بذلك .

سلام/ ابن الجار الشّاب المراهق الذي دفع هو الآخر ثمن مغامرته العاطفية في تلك الليلة مع آمنة عندما حاول تقبيلها في مكان عام، حيث ألقت القبض عليهما شرطة الآداب في الجرم المشهود وحتى ينقذ نفسه تخلى عن حبيبته مضطرا، فلم يكن يدرك بأن ذكاءه الخارق وتفوقه ومواهبه المتميزة في الرياضيات ستكون وبالا عليه، وقد باع راسه إلى السلطة الحاكمة حين وافق على العمل معهم لم يكن يملك خيارا آخرحتى يخلص نفسه من ذلك الموقف مع ابنة الجيران.

هددوه باستباحة وقتل والديه وأخواته وآمنة ! كيف له أن يذبحها مرتين؟ كان عليه أن يقبل السفر والبعثة لدراسة علم الحاسوب في دولة متقدمة، العلم الجديد آنذاك، ليعود بعد أربع سنوات مع مجموعة من الأدمغة الذكية من أقرانه وقد أصبحوا جاهزين لتأسيس أكبر منظومة للتجسس على رؤوس المواطنين، وصولا إلى حجب الذاكرة تقنينها ثم تنظيمها ببرمجة تسمح للفرد أن يمارس فعالياته الحيوية والحياتية بما يكفي لبقائه ولإدائه عمله، وقد استغرق العمل سنوات قاموا خلالها بتدريب كادر يكفي لتأسيس شبكة تتوزع خيوطها لتشمل كل المحافظات والأقضية حتى تصل إلى أبعد نقطة على حدود البلد .

وقد شعر سلام بتلاعب المواطنة ٢٤٧ في منظومة البرمجة المعدة لأفراد أسرتها رغبة منها في الهروب مع أولادها خارج البلاد من طريق الشمال بمساعدة أخيها نبيل الذي استطاع الهروب قبل أن يبدأ نظام البرمجة هذا، وها هو يحاول التكفير عن ذنبه وعدم خذلانها والوقوف بجانبها على الرغم من الإجراءات المشددة.

الأبنة/ تلك الفتاة المراهقة التي فشلت دراسيا، فهي لا تهتم إن صادروا ذاكرتها أم لم يصادروها، “فما حاجتي إلى رأس لا اعرف كيف استخدمه” لذا فهي تحب ساعات البرمجة التي تقيها نصائح أمها وأحباط والدها الذي كان يحلم بأن تصبح ابنته طبيبة، وقد نجحت في التسلل إلى ذاكرة والدتها، المواطنة ٢٤٧، عندما خرجت ذات ليلة من دون رأس إلى عيادة الطبيبة، وعرفت الفتاة سرَّ أمها “عرفت أن فارسا آخر امتطى صهوة أحلام شبابها، لكنّه اختفى …فأمي حريصة جدا على صندوق ذاكرتها المقفل بأحكام في زاوية من رأسها، نادرا ما تغفو خشية أن يسطو عليه أحد، ليس أنا أو أبي، بل أحدهم، أولئك الذين يفحصون الذاكرة كل يوم ليتأكدوا بأنها ما زالت كما هي، لم يتم تجديدها ” ولذلك فقد أحبت هي الأخرى ابن جارها، أحبته بذاكرة أمها التي كانت تعرف الحب على سطح الدار .

ثاليا: غرائبية الأحداث

تدور أحداث الرواية على فكرة برمجة رؤوس المواطنين، ومصادرة ذاكراتهم، بسبب كثرة الاختراقات والمؤامرات التي أرهقت رجال الأمن منذ منتصف التسعينيات، إذ تم الأتفاق مع خبراء أجانب لأختراع منظومة لبرمجة استعمال الروؤس من قبل المواطنين في الفترات التي يحتاجون إليها من أجل الاستمرار في العيش، فماذا يطلب المواطن اكثر من الاستمرار في العيش بسلام؟ ما جدوى التفكير في كل ما يدور من حوله؟

لم يكن الهدف من هذا المشروع هو التحكم في ذاكرة المواطن كما ذكر الرئيس في خطبته التي بثها في ذلك اليوم، وإنما حمايته من التورط مع المغرضين الذين غصّت بهم السجون وأرهقوا الجلادين!! (الأكاذيب النبيلة)، ومن مبدأ الإحساس بالمسؤولية تجاه الشعب، كان لابّد من إيجاد طريقة لقمع المؤامرات وهي بَعدُ في مهدها!!، وهكذا أصبحت حياة الأسر تحدد على وفق ساعات القطع المبرمج للذاكرة، في العمل تتهدل روؤس الموظفين فوق ملفات تراكمت على المكاتب، هناك لا يوجد وقت للحديث، وحتى إن وجد، فهو غير مسموح به، فرؤوسهم تمنح لهم على وفق نظام برمجة خاص بالدوائر الرسمية، وتحت رقابة صارمة، يتم فيه تزويد الموظفين برؤوسهم في فترة العمل، من أجل العمل وليس لغرض الخوض في أحاديث قد تذهب بهم بعيدا إلى مناقشة واقع صار عصيا عليهم .

وعلى وفق هذا النّظام تدور حياة الناس، وتتجلّى الغرائبية بكلّ أبعادها فهي ترتبط بزمن معين وهو ليس الزمن العادي المتعلق بعقارب الساعة، بل هو الزمن الذي يقع فيه القارىء في حيرة، فيتخبط بين واقع وخيال .

هنا على _ما أظن _الكاتبة أرادت توجيه الأنظار إلى فكرة ترويض الشعوب التي تطرق إليها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه (أوهام ضرورية) الصادر عام ١٩٩٩، وما سياسة البرمجة تلك إلا المعادل الموضوعي لسياسات الدّول ذات الأنظمة الشّمولية، وهي استراتيجية تظل دوما من أسرار الدّول العليا، ولا يجب كشفها للدول المغلوبة على أمرها، وتعني التغييب التام للعقول وغسل الأدمغة والتلاعب بها من خلال خلق أوهام ومعلومات مغلوطة، واشغال الناس بقضايا تافهة وجعلهم لايدركون أكثر من حاجاتهم اليومية، لايعرفون سوى طريق العمل والسوق والتفكير في كيفية تدبير عيشة يومهم، وتعديل ميزانيتهم اليومية بما يتناسب مع صعود الأسعار المستمر، فمن أهم مبادىء الأوهام الضرورية هو عدم الكشف عن كلّ شيء وتقديم ما يروق للعامة أو ما سمّاه أفلاطون بالأكاذيب النبيلة، وهذا ما أذاعه الرئيس في خطابه عندما قال، السبب الذي دفعنا لنظام برمجة العقول هو الحفاظ على أمنكم وسلامتكم .

***

يقلم: د. أمل سلمان

في المثقف اليوم