قراءات نقدية

ميتافيزيقا الشعور.. سياحة في قصيدة إحساس للشاعرة آسيا ال ربيعة

إنَّ موضوعة ميتافيزيقيا الوجود لاتقتصر على جنس بشري بعينه دون غيره، ولا عصر من العصور فقط، ولا على دين من الأديان السماوية، ولا على دراسة من الدراسات العلمية أو الأدبية،ولاسيما الدراسات النقدية، ولعلنا حين نقرأ الإنسان من خلال نتاجاته الشعرية نتحسس الروح في عالمها الميتافيزيقي، وهي تعبر عما يعتمل دواخل الأديب الشاعر، نرى أنَّ روحه حين تكابد نسج أحلامها الفنية بصيغ وتشكيلات متنوعة مضاءة بكشوفات الشعر وتجلياته؛ يشعرنا أنَّ وراء كل دفقة شعورية إحساس بحتمية الوجود الذاتي والموضوعي وكلاهما يتغذيان من بعضهما، فلا حياة للإنسان إلا بوجود ما حوله، ولا وجود للأشياء إلا ويكون الإنسان منظِّماً لها؛ ما يجعل لغة الأدب واقعاً، تنتظم الأشياء وتتعافى عند الحجر والبحر والشجر والبشر وجميعها تؤول إلى لغة مشتركة يتوق لها الجميع، ولاسيما الأنبياء والمتصوفة والشعراء والفلاسفة بوصفها تتغذى من عالمٍ ميتافيزيقي الرؤى.

ولما كان الشاعر يعبر عن ذاته بانعكاس موضوع ما يثير إحساسه نراه يعيش "في بيت الحقيقة... يحاول النفاذ إليها من خلال التخلي عن الطرق العادية إلى طرق المجاز؛ ليصف ما يدهمه من عناء تجاه قضاياه...للبعد الذي يمثل الحقيقة خارج اللغة؛ لأن الشاعر هو الأكثر ابتعاداً عن الطرق العادية؛ كونه يستشعر دواخل الذات الشعورية؛ ليعبر عنها بلغة لايمكن أن تكون عادية بوصف الشعور عالم الحقيقة المطلق يترجم مايستشعره منه بلغة تنسجم مع ما يتآلف مع الواقع المجامل لأحداثه، ما يجعل حقيقة الذات هي ما تنبثق من شعوره"(1)، ويبدو أنَّ للحدوس والاستبصارات التي يمتلكها الشاعر من قدحة عقله المستمدة من قوة قلبه هي ما تخترق الظاهر؛ لتنفذ إلى ماهية الأشياء؛ معبِّرة بلغة خاصة بما يطلق عليها لغة الانزياح أو اللغة الشعرية.

وشاعرتنا الفتية (آسيا ال ربيعة) تلفت إدهاشنا بلغتها التي حاولت أن تجعل منها محمولاً مادياً ينير طريق النص حين تضيء لنا بما يختلج إحساسها من شعور تجاه الإنسان والكون والوجود، إذ نراها تقول في قصيدتها إحساس:

إﺣساﺱ يتأجج بحدائق آمالي

يرمي إليَّ فساتينَ نقائه.

ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ أنَّ شموعا ﺗﺸﺘﺎﻕ؛

لتعزف في قلبي لحن غواء.

إﺣﺴاﺱ ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ أنَّ العمرَ يتعدى الأحلام.

مسافاتٌ حيرى ﺗراقب خُطانا

عسانا نسقي الورد بيدينا.

هذا الإحساس الذي يتأجج بحدائق آمالها، في إشارة منها لرؤية المستقبل الوضاء بقرينة (الحدائق، والفساتين، والشموع، والعزف، فضلاً عن لفظة الإغواء الذي يمثل أسباب الحياة، ثم لفظة الأحلام، و الورد الذي يسقياه بيديهما)، وجميع ما أوردته من ألفاظ تمثل رموزاً، إذ إنَّ الرمز يعدُّ لازمة للتفكير اللاشعوري الفردي والجمعي فـ "طبيعة التجربة الشعورية التي يمر بها الفنان والتي أصبحت أكثر تكثيفاً وأكثر عمقاً؛ مما دعا الشعراء يعتمدون الرمز وسيلة نقل لما له من قدرة كبيرة على التكثيف والعمق" (2)؛ للتعبير عما يعتملهم من إحساس.

والشاعرة نراها تصرح من أنَّها لايمكنها أن تتكهن بتفسير هذا الشعور الذي يكتنف روحها بوصفه غريباً عليها، فتقول:

شعورٌ ﻏﺮﻳﺐٌ

يهدهدُ أشواقي

لا أﻋﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﺃﺻﻔَﻪُ

يا أنتَ: أتعلم،

لم يفهم هاجسه سوى صمتٍ

ﺩقاﺕُ القلب تستشعر ما يغرس في دنياي.

وعداً تراقصه الأضواء.

ﻛﻴﻒ، ﻭﺃﻧﺎ لا ﺃﺳﻤﻊ سوى ﺩﻗاﺕ القلب

وتحار أنْ تقرأ ما فوق الأهداب

ﻳﺴﻜﻦ عبق في أنفاسي !

ﻛﻴﻒ ﺑإﻣﻜﺎﻧﻲ ﺗﺠاﻫل موسيقاه

وهي تسافر عبر فضاء الوله السابح

في أزمنتي.

فالشعور هو من عوالم الميتافيزيقاً الذي لايمكن استشعاره إلا بالحدوس، ولعل الشعر هو تعبير عن رقي الإنسان فحين يغترف من عوالم ميتافيزيقية يستشط في إلباس ما يتجلى في مخيلته بنمارق من الأردية الفنية، إذ إنَّ "مهمة الفن في السمو على الواقع بصفاته العينية يحفزنا على إصلاحه.. الخضوع للشكل الجمالي... يتطور بتطور الوعي، وتنامي المعرفة في وجدان المتلقي الذي يتأمل، ويحاور، ويستقصي، ويستنتج لغة الأشكال التي انبنتْ على نظام من الرموز وبإنشائية تركيبية المنحى، أضفت نظاماً دلالياً انفعالي التأثير"(3) فنرى الشاعرة (ال ربيعة) تستعين بمن تناديه: (يا أنت) أن يعاونها بفك لغز شعورها، كونه صدرَ عن المجهول. ذلك الشعور مثل لها هاجساً من عوالم المجهول، لكنها لم تتجاهل أثره، فقد صار القلب صامتاً حال حلوله ضيفاً عليه يستمع لأنغام موسيقاه التي ما فتئت تسافر عبر فضاء الوله السابح في أزمنتها، إشارة إلى هَيمانها في هذا العالم المُرفل بالأناقة الخميلة عبر أزمنتها.

إنَّ في ميدان النقد الأدبي عبر مناهجه الحديثة استعمال "لفظة الميتافيزيقيا في وصف كلِّ أمر عميق مُبهَم... والميتافيزيقيا علم الوجود بما هو موجود، ويبدو أنَّ موضوعها الأساس الجوهر في حين جوهر الشعر هو عالم المطلق"(4) ما أباح للفنانين تصوراتهم فيه استيعاب" شتى المواقف المحتملة كصلة الإنسان بالطبيعة، وكثيراً ما أحالوا الطبيعة الكونية الجامدة إلى نبضة حية حينما أنسنوا الطبيعة وأشياءها،وحين حاوروها وعرضوا على لسانها سرَّ جبروتها وعظمتها" (5).

إنَّ ما استدعى الشاعرة (آسيا ال ربيعية) أن تغترف من مناهل الوجود رموزها للتعبير عن إحساسها المتقن الذي تستشعر من عوالم ميتافيزيقية انعكاساته. فحين يستبد شعور ما في الإنسان الشاعر يعبر عنه بصياغات إشارية يمكن للمتفحص للنص فهمها حسب قدراته التخيلية والذهنية وذائقته الشعرية؛ ليتغذى منها روحياً وذهنيا معرفياً. فنجد في المقطع الأخير من القصيدة ما نستوضحه من طريق قراءتنا مراد النص وما يحمله إلى متلقيها، فهي تقول:

لكن لا أعلم كيف المرء يجهل

ما تأنس فيه طيور الله.

شعور يغريني ببهجته

وضَّاء كالأقمار....

فما أفعلهُ أدعو للقادم بالبركات؛

لتعلو حكايانا؛

فنشعل شموعَ الحبِّ

بعالمنا، وحاضرنا

يا من تشرق بالأضواء.

فهي تطلق عنان خيالها، حين دخلت عوالم الميتافيزيقيا؛ معبِّرة عن رحمة الخالق حين تأنس طيور الله في مرابعه ذلك المكان الأثير الذي يلوح في تأملاتها، إشارة إلى نقاء المقصد، وحسن التدبير للتحليق في فضاءاته المرجوة. عالم وضَّاء كالأقمار؛ لذا تدعو للقادم بالبركات، إشارة إلى عمق تفاؤلها به، وما الحكايا التي تعلو إلا حكايا خير وأمان واطمئنان، يتأتى ذلك في إشعال شموع حبٍّ وفرح في المكان والزمان الذي تعيش في أروقتهما، إشارة إلى سعادتها بالقادم الجميل، ثم تسدد صوب الحبيب القادم الذي بثَّ ذلك الشعور في عوالمها فأشرقت بالأضواء.

***

بقلم د. رحيم الغرباوي

....................

الهوامش:

(1) الكون الشعري وفضاءات الرؤيا سياحة في تجربة يحيى السماوي الشعرية، د. رحيم الغرباوي: 107.

(2) الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر، د. غسان غنيم: 33.

(3) الوعي الجمالي، د. هيلا شهيد: 248.

(4) الكون الشعري: 63.

(5) الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، سلام الأوسي: 192.

 

في المثقف اليوم