قراءات نقدية

أساليبُ السَّرديَّةِ المُعاصِرةِ.. قِراءاتٌ تأمُّليَّةٌ نَقديَّةٌ في القِصَّةِ العِراقيَّةِ القَصيرةِ

تَقديـمٌ: إذا كان  الشِّعر العربي التراثي القديم يُشكلُّ الشغلَ الشاغلَ لنفوسِ كثير من جمهور النَّاسِ؛ كونه (ديوانَ العربِ)، وسجلهم الأدبي المالئ لِمِساحة حياتهم اليومية، فضلاً عن أنَّ العَرب أُمَّةَ خطابٍ بلاغيٍ مكين، فإنَّ المقابل لهذا الشَّاغل الكبير لفكر المتلقِّي حديثاً في هذا العصر هو السرد النثري. أي عصر السرديات بمختلف أجناسها اللَّونية، وعلى وجه التحديد الرِّواية والقصة القصيرة جدَّاً التي تتطَّلب من كاتبها العليم حذاقةً فنيَّةً شديدةً وتقنياتٍ إنتاجية عاليةً ذكيةً في الإبداع والإمتاع.

فهذا هو عصر الرِّواية، عصرُ التَّحوِّلات الأدبية الإبداعية والمتغيِّرات الفنيَّة السريعة التي تلامس بحقٍّ حياة الإنسان العربي المعاصر، وتلبِّي جزءاً من احتياجاته الفكرية والجمالية المُلحَّة وهمومه. مثلُ هذا الاهتمام اللَّافت بالسَّردياتِ، ولا سِيَّما القصة القصيرة مكَّن كُتُّابها ومبدعيها إلى التَّفَنُّنِ في التنوِّع بأساليب كتابتها، فـ (الأسلوبُ هو الرَّجلُ)، أي الكاتبُ، كما يصفه الفرنسي جورج بوفون.

وعلى وفق نسق هذا التأسيس الجمالي الإبداعي فقد تعدَّدت أساليب الكُتَّاب في السرد القصصي إلى أربعة أساليب رئيسةٍ بالغة الأهمية: أسلوبٌ غنائي ذاتي وجداني، وأسلوبٌ ساخرٌ تَهَكُّمي، وأسلوبٌ سِيرِي ذاتي أدبي عُرِف بمصطلح (اليوغرافيا)، وأسلوبي دَراميٌّ بَصَريٍ أقرب في مفارقاته الحدثية إلى التمثيل بوقع محاكاته الفعليَّة وحركية شخوصه الفواعلية المرتبطة بوحدتي الزمان والمكان التي حدَّدها رولان بارت عناصرَ رئيسةً للسَّرد الحِكائي، خاصَّةً في كتابة الرّوايات السَّرديَّة.

1- الأُسلوبُ الغِنائي الوجدَاني:

الأسلوب في الحدث السردي الطويل، ولا سِيَّما في (الأدب الوجيز)، أدب القصة القصيرة جداً يشكلُّ فنيَّاً مهمازاً ضوئياً لافتاً من خلال فضاءات بنيته اللُّغوية التي تكاد تتميَّز بأنَّها بنيةٌ شعرية تقترب كثيراً في سيرورة خطابها الموضوعي السَّردي إلى الغنائية في دلالتها الذاتية الوجدانية. وعلى الرُّغم من أنَّ شِعرية الصيغ الغنائية تحتلُّ أهميةً بالغةً في التَّحكُّم بِلغةِ النسيج السَّردي القصصي، فإنَّها لا تقع في حبائل شباكها الشعريَّة الغنائية الوجدانية البحتة المعروفة أدبيات الشعر العربي القديم الحديث على حساب سردية النصِّ الحكائي الحدثي الفعلي للقصة أو الروايَّة.

وهذا المشترك الأُسلوبي الفنِّي يجعل من القصِّ الذاتي القصير الذي يعتمد على تجارب ذاتية في أغلبه، يلتقي في بؤرته الغنائية وثقل مادته الرئيسة بعناصره المشروطة، وأعني بذلك، التكثيف، والاختزال أو ما يُعرف بالاقتصاد اللُّغوي، والاختيار، والإيحاء، والترميز، وتقنية الانزياح اللُّغوي الدلالي النصِّي التعبيري، والمفارقة الإدهاشية الماتعة، وجماليةُ حُسْنِ قفل خاتمةِ النهاية الصادمة.

وإنَّ الاحتفاء بالذات القصصية يندرج فنيَّاً في النقدية السردية الحديثة تحت ما يسمَّى بالأسلوب الغنائي الوجداني الذي يمنح الذات السرديَّة قدراً كبيراً ومُهمَّاً من جماليات الروح مع نظيرها الآخر. ويرى الدكتور صلاح فضل أنَّ الأسلوب ذا الطابع الغنائي، "تُصبِحُ الغلبة فيه للمادة المُقدَّمة في السرد حيث تتَّسق أجزاؤها في نمطٍ أُحادي يخلو من توتر الصراع، ثُمَّ يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع" (1). ومعنى ذلك أنَّ الذات السَّردية الوجدانية مصدر صناعة الحدث وموئله هي الصراع الذاتي الداخلي بعينه، وأسلوبية الإيقاع الفنَّي التعبيري للوحدات السردية الموضوعية.4844 مجموعة كتب

ومن النماذج القصصية الهائلة الأكثر نضجاً وإمتاعاً في التدليل على نسق غنائية الأسلوب الوجداني في التعبير عن وقع فعليتها الحدثية الذاتية نصًّ قصة(هَزيمةٌ) للكاتب الرائد القاصِّ  حنون مجيد الذي تغنَّى بواقعة هزيمة بطله في هذه الأسطرة التي شَعَّرَ فيها لغةَ السَّردِ تشعيراً ورسمَ حدودَ تلك الهزيمة على خريطة مجسَّاتها الغنائية، فترجمَ صراعها الذاتي بهذه الزفرات السَّردية المتنامية:

" تَمتدُ صَحرَاؤُهُ بِلَا حُدُودٍ..

عَلَى يَمِينِهِ خَلَاءٌ مُوحِشٌ كَئِيبٌ..

وَعَلَى يَسَارِهِ جِدَارٌ مَشرُوخٌ آيلٌ لِلسُقُوطِ؛

تَتَقاومُ عِندَ قَاعِدَتِهِ ظِلالٌ آخذَةٌ فِي الاِنحِسَارِ.

لَا مَهرَبَ مِنْ شَمسٍ مُحْرِقَةٍ تَشتَدُّ حَرَارَتُهَا وَتَلْهَبُ جَسَدَهُ كُلِّ آنٍ..

لَا مَلَاذَ وَلَو إلَى حِينٍ .. قَالَ:

ضَمَّ رَأسَهُ بَينَ يَدَيهِ..

وَاِرتَمَى تَحتَ الجِدَارِ ! (2) "

فالقاص حنون مجيد لا يسعى جاهداً في انثيالاته السردية إلى تتابع الوعي الحدثي لبطل قصته بهذا المنظور الغنائي الوجداني فحسب، بل  يهبُ محيطه الخارجي وعالمه المتحرك بهذا التوصيف الحكائي القصي المتنامي في تصاعد الحدث وارتباطه بقوى الطبيعة المتحركة في الخفاء والتجلِّي.

ونذهب إلى رائد آخر من روَّاد القصة العراقية القصيرة الحديثة، ذلك هو القاص البصري العتيد محمَّد خضيِّر ونستغور أعماق أسلوبيته الوجدانية في قصته (حكايةُ المُوقدِ) التي هي إحدى مدوَّنات مجموعته الأثيرة (المملكة السوداء) الدالة بعتبتها النصية على ثيمة رمزية نصَّها الموازي للواقعة الحدثية. وبالتحديد نستدل بمفتتح هذه الحكاية التي جعل الكاتب ختامها دليلاً تعضيدياً لمطلعها لمن يودُّ جواباً متسائلاً في سماع حكاية موقد أخرى. فلنبحر في يمِّ  أسلوب خضيرالغنائي الانزياحي:

" لِكُلِّ مَساءٍ حِكايةٌ. حِكايةٌ وَاحدةٌ. فِي أَولِ المَسَاءِ -عِندَمَا تَسكِتُ عَصافيرُ البَردِ عَلَى سِدرَةِ البَيتِ، وَتَكفُّ طُيُورُ (الدَّرَّاجِ) فِي أَحرَاشِ الحَلْفَاءِ خَلفَ البَيتِ عَنِ النَّداءِ المُنَغَّمِ- تَأتي الجَارةُ المُقوسَةُ الظَّهرِ، الَّتي تَحملُ نُدبَةَ (خُزَامَةِ) فِي أَرنبةِ أَنفِها اليُمنَى، وَتَدْلِي قَصيبَةٌ رَخوةٌ بَيضاءُ مِنْ طَرَفِ فُوطتهِا، تَرتَخي بَشرةُ وَجهِهَا، وَقَدْ انمحَى حَاجبَاهَا (يَا لِجنياتُ الجَنوبِ! أَيُّ وَجهٍ رَقيقٍ بِلونِ التُّرابِ تَمِلكُ!)، وَلَو كَشَفتْ عَنْ أُذنِهَا اليُسرَى ؟ لَأصبحَ فِي الإمْكَانِ مُلاحظةُ الفَجوةِ الَّتي تَركَهَا القِرطُ الثَّقيلُ فِي شَحمَتَهَا (قَالتِ الجَارةُ: فِي مَساءٍ مَا، بِأنَّها كَانتْ تَضعُ قِرطينِ مِنَ الفِضةِ العَتِيقةِ، وَأنَّ أَحدَ القِرطينِ  كَانَ ثَقِيلاً فَاقتَطَعَ جُزءَاً مِنْ أُذُنِهَا حِينَ سَقَطَ فِي (الشَّريعَةِ) الَّتي كَانتْ تَغَسِلُ فِيهَا حَضَائنَ اِبنِ مَخْدُومِها الضَابطَ العِثمانِيِّ (3)".

هكذا يمضي القاص البصري الجنوبي محمَّد خضير بنسغ أسلوبه الوجداني الصوري الذاتي الساحر في وضع اللَّمسات السردية والتقنيات الفنيّة والجمالية لحكاية شخصية بطلة قصته الخادمة المرأة العجوز التي منحها منقبة جنيات الجنوب في إظهار شخصيتها وديمومة حركتها في جٍّو معماري بيئي يزدان بعناصر الطبيعة الجنوبية البَصْرِيَّةِ الغنَّاء. والتي أرَّخ ارتباط مكانها وزمانها إبانَّ العهد العثماني من خلال الشخصية الهامشية الضابط العثماني المتولي لأمر المدينة الجنوبية.

فالقاص البصري حين يقول في مفتتح مدونته القصية: (لكلِّ مساءٍ حِكايةُ. حكايةٌ واحدةٌ في أول المساء)، وتحديدا للزمن في بدء المساء، فهكذا تقصيص محدَّد يُحيلنا إلى أجواء تراث (ألف ليلة وليلة)وسحر تأثيرها على مخيال الكاتب، وبالذات حين يكون المؤثِّر إشارةً إلى مثيولوجيا شهريار وحكاياته الليلية الأسطورية مع شهرزاد بطلة الألفية، وإن اختلفت رؤى المضمون السردي لكلتا الحكايتين، لكنْ لكل مساءٍ أو ليلةٍ حكايةٌ، وأيَّةُ حكاية عذبة تنماز عن وقع مثيلتها السردية الأخرى؟

وللتدليل على فاعلية الأسلوب الغنائي، نقرأ بتأمُّلٍ ما كتبته القاصَّة الكربلائية المثابرة أمل حمزة خضير نصَّ قصتها (مُعاناةٌ) التي وردت ضمن مجموعتها القصصية (نَحيبُ المَقصَلَةِ) الدالة على  ثيمة عتبتها العنوانية الفنيَّة. ذلك النصِّ الذي هيمنت فيه ترانيمُ النّبرةِ الشعريَّة الأنوية على وقع خطى الّسَّرديَّة بأسلوبها الغنائي، والذي وظَّفت الكاتبة حكايته الواقعية على لسان فتاة تُعاني الوجع الإنساني الكبير. فجاء الخطاب النصِّي التسريدي مُعبِّراً عن تجلِّيات عتبته العنوانية الدالة على وظائفه الأربع التي وضعها (جيرار جينيت) له بمدونته، وهي:(التعينية، والوصفية، والدلالية الضمنية المُصاحبة، والإغرائية). فلننظر إلى ما تُسطِّرهُ هذه القاصة الواعدة بِجدَّة القصِّ القصير:

"خَرَجَتْ تَحتَ عَبَاءَةِ اللَّيلِ، تَوَجَّهتْ نَحوَ بَيتِ أَحدِ وُجَهَاءِ الحَيِّ وَأَغنِيَائِهِ،

وَانْتَظرَتْ طَوِيلَاً حَتَّى اِنطَفَأَتِ الأَنوَارُ وَأُسدَلَ الظَّلَامُ سَتاَئِرَهُ؛

أَسرَعَتْ لِمِكَبٍّ النِّفايَاتِ لِتَجمَعَ بَقَايَا طَعَامٍ تَسُدُّ بِهِ رَمَقَ أَيتَامِهَا (4)".

إنَّ ما يميز الأسلوبية الوجدانية لقصة (معاناة) أنَّ بطلتها امرأة من الوسط الاجتماعي الذي يعاني آثار الفقر والفاقة والحرمان الدائم. فهي على الرغم من ذلك العوز الطبقي تُغضي حياءً ومهابة خشية أن يفضح سرها الحالي ضوء النهار وتتكشف حقيقتها الإنسانية في شعورها بالعدم  وحاجتها في جمع النفايات من أجل أن تحيي بها آيتامها الذين ينتظرون عودتها لسدِّ رمقهم إثر الجُوع الكافر.

2- الأُسلوبُ الساخرُ المكينُ:

إيجاباً قد تنحرف بوصلة الأُسلوبيَّة القصصية المعاصرة عن حركة مسارها الإبداعي المألوف إلى خطِّ نَجْدٍ أسلوبي آخر أكثر نضجاً وتقدُّماً وجمالاً وبلاغةً في منظور الخطاب السردي؛ كون لأسلوب الانزياحي الدلالي الجديد يعتمد في بنيته النصيَّة الحدثية على فنِّ السخرية اللَّاذعة المُرَّة ولُغة التَّفكيهِ والانتقاد الحادِّ الذي يُشخِّص بدقةٍ غيِر مُباشرةٍ مواطنَ الخللِ البائن، وبواطن المقموع والمسكوت عنه من التابو السِّياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الدِّيني للواقع المعاش. كما ويستحضر فقاعات تمظهراته المُنتفخة، ويستجلي آثارَ سَقمِ عُيوبه المرضية المتفشية غير السَّويَّة.

تلك هي المصادر والأنساق الظاهرة والخفيَّة التي استأثرت باهتمام عين المبدع الثالثة وألقت بظلالها القصصية المثيرة على مرآة تفكيره العاكسة لصورها. مما كان لها في وعيه الثقافي وحسِّه الأدبي نصيبٌ وافرٌ وحظٌّ من صور الاستهجان والسخرية والتحقير والتصغير والرفض والاحتجاج في بلاغة خطابه السَّردي عبر أثير مجسَّات قصِّه اللَّاذع؛ لتتصيَّر صوراً كاريكاتوريةً و(إيموجية) حركية قصيَّة معبِّرة عن رفض هُويَّة الواقع المعيش، ومُعَرِّيَةً حقيقتهُ للخروج من عنق الزجاجة المقيَّد إلى واقع جديد حُرٍّ مُغاير في مِساحته التعبيرية لِجَلدِ ذاته الآيدلوجية المعطوبة بهذا الساخر.

فمثل هذا التسريد المائز عذوبةً في تركيبه اللُّغوي المكين يُسمَّى بالأسلوب الساخر في واقعيته السحرية، والذي يعشقه الكاتب النابه ويتبنَّاه موقفاً دفاعياً وسلاحاً هجومياً ناجعاً؛ كونه أسلوباً جزئياً نابعاً من شخصيته الوجودية التي تقدِّسُ الحريَّة والتَّحرُّرَ والاستقلالية. التي وجدت في هذا الأسلوب الفنِّي وسيلةً صوريةً نقديةً لاذعةً من خلال صناعة الضحك والاستهزاء المبطن لعيوب الواقع المُشين.

أسلوب السُّخرية، أحدُ أساليب العصرنة السردية الهادفة غير المباشرة التي تُظهر بأيقوناتها المعايب والهنَّات الأخلاقية والسلوكية المُستهلكة لحركة المجتمع وسير الأنظمة السيادية الحاكمة. واعتمدَت سخرية النسق القصصي على أسلوبيَّة المُحاكاة في معالجة الأمور المستعظمة الكبيرة، والتعريف بها من خلال آليات الأُسلوب الفنِّي الكاريكاتوري الذي يصل كثيراً إلى حدٍّ المبالغة والتسخيف والإذلال في إظهار صور المنق في إظهار صور المذموم أو المنقود بالصفات السلبية.

وقد يتَّخذ الحدث الموضوعي الأسلوبي القصصي الساخر من التَّنَدُّر وسيلةً من خلال التَّلاعب بالألفاظ وإناطتها معانٍ غير معانيها الأصيلة للنَيلِ من جوهر الحقيقة المغيَّبة والمسكوت عنها عمداً. ويحدث هذا كلُّه عبرَ إيجاز الفكرة وتكثيفها أو الإضاءة إليها، مما يُخرجها عن هدف موضوعها الحقيقي لمعناها الأصلي؛ لغرضٍ إصلاحها أو ترميمها عبر تسريد آليات الذمُ أو الهجاء المُقذِع بِها.

ومن نماذج مختاراتنا القصصية القصيرة الدالة بجمالياتها اللُّغوية السردية على فنيَّة هذا الأسلوب التهكمي الساخر قصة (مُحلِّلُ سياسي)، لِضَاري الغَضبان الذي يرصد فيها صورة عقابيل الواقع السياسي المعيش المرتهن بطريقةٍ ساخرةٍ مُؤثِّرةٍ ومستهجنةٍ، والذي وصل فيه هرم الفساد إلى رأس المُحلِّل السياسي نفسه، أي كاشفُ أُسَ الفسادِ فاسدٌ تحت مظلَّة المَستور المغيَّب. فلنتأمَّل التقاطات عدسة عين الغَضبان البَصريَّة وما تحكيه من مفارقات صورية عجيبة تُلامس حركة الحياة الجديدة:

" ظَهَرَ المُحلِّلُ الاِستراتِيجِي عَبرَ الشَّاشةِ عَلَى الهَواءِ مُباشِرَةً، وَهوَ أَنيقٌ بِبدلتهِ وَرَبطةِ عُنُقٍ حَمرَاءَ، وَقَميصٍ بَنفسجيٍ، وَكَانَ يَنتقِي كَلماتِهِ بِدِقَةٍ، وَخَلفهُ سِتَارَةٌ بِأَزرَارٍ جَميلةٍ بَراقَةٍ... تَكَلَّمَ عَنِ الاِستراتيجِيةِ وَالتَّكتيكِ، وَتَلاقِي الحَضَارَاتِ، وَتَلَاقُحِ الأَفكارِ، وَأَزمَاتِ المَاءِ وَالبِترولِ، وَنَبَّهَ لِمستقبلٍ غَامضٍ، وَحَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ عَدَمِ الاِنتباهِ لِرُؤاهِ...

قِطَّةٌ مَلعونَةٌ سَوداءُ دَخَلَتْ مِن  خَلفِ المُحلِّلِ، فِي البَدءِ أَهملَهَا وَأَكمَلَ تِلاوَةَ رُؤاهِ التَّحليليةِ السِّياسيَّةِ؛ لَكنَّهَا دَارَتْ وَتَكَرَّرتْ حَركَتُهَا المُقلِقَةُ لَهُ، وَيَبدُو بِأنَّهَا تُطَاِردُ فَأْرَاً، فَأَزعجتُهُ بِتَحريكِ السِّتارَةِ، وَلَمْ تَنفعْ مُحاولاتُهُ بِمِسكِ السِّتارَةِ بِيَدِهِ، فَسَقَطَتْ وَبَانَ كُومُ القُمَامَةِ خَلفَهُ! فَاِرَتَبَكَ وَتَحَرَّكتْ الكَامِيرَا؛ فَظَهَرَ الرَّجُلُ دُونَ بِنطَالٍ ! وَبِلَا مَلابسَ دَاخليةٍ (5)".

ولا أدلُّ على فنيَّة التعبير الأسلوبي السردي الساخر المكين ما كتبه القاصَّ الساخر بامتياز محمَّد سيِّد كرم الموسوي في نصِّه القصصي الموسوم  بـ(تَبعيَّةٌ)، الذي تماهى فيه مُتندِّرَاً بأسلوبه الساحر الرصين مع واقعة الاقتصاد الوطني المحلِّي الذي لم يتحرَّر من قيود تبعيته الأجنبية الدَّوليَّة، والمقصودة موحياته السيميولوجية بتدمير بنيته الداخلية وتعطيلها من خلال عجز مدخلاته الداخلية، وربطه خارجيَّاً بتبعية مخرجاته. فلننظر بإمعانٍ إلى ما تقوله إضاءةُ السيِّد كرم الساخرة ونقرؤها:

" بَعدَ أَنْ أَكمَلَ الخَبِيرُ الاِقتصادي مُحاضَرَتَهُ، دُعِيَ إِلَى وَلَيمَةٍ، كُلُّ مَا فِيهَا مُستورَدٌ، بَعدَ سَاعَاتٍ أَخرجهَا مِنْ جُوفهِ صِناعَةً مَحليّةً بِامتيِازٍ (6)".

بهذه الروح الإنسانية الساخرة يؤطِّر السيِّد كرم ألفاظه ومعانيه الدلالية بصبغة انتقادية لاذعة في كسر توقُّع خطوط المألوف الاعتباري؛ لينتج منه رؤاه السردية لا لغرض الإمتاع والدهشة فحسب، بل لإصلاح منظومة الفساد وعرضها على المتلقِّي الواعي لمحاربة آفة الواقع المعطوب واجتثاثه. ولنأخذ صورة أخرى من صوره السروديَّة الماتعة، نصَّهُ(أولياءُ الخُبزِ)الذي حَمِلَ اسمَ المجموعةِ:

"يَوَم سَقَطَتِ الدَّولةُ بِضَربَةٍ جَويَّةٍ مَاحِقَةٍ، كَانَ يُشَاهِدُ النَّهبَ بِعَينٍ بَاكِيَةٍ وَيُردِّدُ: تَبَّاً لَكُم مِنْ لُصُوصٍ، لَدَى عَودتِهِ إِلَى البَيتِ، تَخَيُّلُهَ فَرَحَ أَطفَالِهِ بِرائِحَةِ شُواءِ الخُبزِ هَوَّنَ عَلَيِه ثِقلَ كِيسِ الدَّقيقِ عَلَى ظَهرِهِ(7).

3- الأُسلوبُ الدَّرامِي:

ومن أساليب القصِّ السَّردية الجديدة في أدبيات القصة العراقية المعاصرة الأسلوب الدرامي الذي لجأ إليه ثلَّةٌ من كُتَّاب الدَّراما المَهرةِ السيناريست، وغيرهم من أدباء القصَّة القصيرة ممن يجدون في هذا اللون من القصِّ مُفارقاتٍ كبيرةً ماتعةً. وذلك كونُ الأُسلوبُ الدِّرامي؛ هوَ أُسلوب تعبيري عن حقيقة (أدب المفارقات) القصصية التي هي أبرز المزايا الشعريَّة في السَّرد، والذي تكون فيه المقدِّمات أو مطالع العمل الأدبي القصصي تُخالف خواتيم النهايات في ثيمة العمل القصِّي الدرامي.

تلك النقطة الضوئية الصادمة التي تجعل من المتلقِّي أو القارئ للعمل الأدبي في  حيرةٍ من أمره حيال تلك الشخصيات القصصية الفواعلية المتحركة، الأمر المُحيِّر الذي يُلجِئ المتلقِّي إلى التفكير أو المشاركة الفاعلة بما ستؤول إليه الأحداث في العمل، وكيف تنتهي. ولذلك فإنَّ لفظة (الدراما) التي أخذت جذورها وأصولها الحقيقية من اللُّغة الإغريقية اللاتينية القديمة، تعني (الفِعْلَ) أو(العَمَلَ) الأدبي السردي القصصي المملوء فضاءً بشحنةِ التناقضاتِ الكثيرةِ التي تكتنفه فنَّاً إبداعياً جميلاً.

وتأتي أهمية الأسلوب الدرامي  من كون (الدراما) كفعلٍ حدثيٍ مؤثِّر تُمثِّل بؤرة الحدث القصصي المضيئة ومركز نواته الحقيقية اللَّافتة التي عرفتها شعوب الحضارات الإنسانية القديمة. على الرُّغم من أنَّها لم تضعها ضمن إطار فِّني مُعيَّنٍ بذاته؛ ولكن الأهمَّ في ذلك أنَّ الأسلوب الدرامي الذي ينتهجه القاصُّ بلغته الماتعة يهتمُّ اهتماماً كبيراً بالتفاعل الإنساني على أرض الواقع سواءٌ أكان ذلك التفاعل القصصي الدرامي كوميدياً (إيجابياً أم سلبياً)، وكما هو حاصل –إجرائياً- في الأعمال الدَّرامية التَّمثيلية والسينمائية لأشهر الأدباء السَّردة من القصاصين وكُتَّباب الدراما السيناريست.

ويؤكِّد الدكتور صلاح فضل أنَّ ما يعطي الأهميةً بميزةَ الأُسلوب الدرامي، هو ما أنْ "يُسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعدِّدة من زمانيةٍ ومكانيةٍ مُنظمةٍ، ثُمَّ يَعقبهُ في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة (8)". ويضيف فضل في الوقت نفسه "أنَّه لا توجد حدود فاصلة بين هذه الأساليب، إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان (9)". وأنَّ هذا التداخل الأسلوبي المتشابك هو ما يمكن أن نسلط عليه الأضواء الإجرائية الكاشفة لرؤاه الفنية والجمالية من خلال التطبيق العملي لنصوص الأسلوب الدرامي الذي أبدع في تقصيص تسريده ثلةُ من الكُتَّاب المائزين.

ومن نافلة القول التبصيري، أنَّ ما يُميِّز أساليب السرد الأربعة في القصِّة العراقية القصيرة، أنَّها فعلاً أساليب مُتجدِّدة ذاتَ بنىً لغويةٍ غيرِ ثابتةٍ، وغيرِ نمطيةٍ في تخليقها السردي الحكائي، فهي تتبَأورُ في بوصلتها الاتجاهية مُنفحةً تارةً على الشعر في غنائيتها الذاتية، وتارةً أُخرى تنصرف في تجلياتها الأسلوبية إلى الفنِّ البَصَرِي الحركي الدرامي التمثيلي، وتارةً ثالثةً تظهر في أدبيتها الإنسانية السيرة الذاتية لبطلها الحقيقي الأديب الكاتب أو بطلها الرمزي الراوي العليم في تحاكيه وتشاكله الوجداني مع المروي له، وتارة رابعةً تلتحم في أسلوبيتها الإنتاجية السردية اللَّاذعة مع فنيَّة التعبير التهكمي الساخر المحبَّب إلى النفس وسيلةً وغايةً في كشف آفاق عقابيل المحجوب من المستور عن هُوية الآخر السلبي الذي يشكل بؤرة الحدث الساخر بطريقةٍ فنيَّةٍ سلسةٍ وغير مباشرةٍ في التصدِّي لجذامير آفة الفساد الذي يَمخرُ عُباب الحياة المجتمعية.

ومن يتأمَّل نصَّ القاص السومري إبراهيم دكس الغراوي (بيتُ الوجعِ) الدالة موحياته الإشارية على متن نصِّه الموازي الرئيس، والذي جاء ضمن مجموعته القصصية السومريَّة(سفنٌ ورياحٌ)، سيلحظ فنيَّاً تمظهرات الأسلوب الدرامي بصور مختلفةً وبشكلٍ مُتجلٍ في مفارقاته الفاعلية والفعلية ووحدته الزمكانية المحدَّدة بزمانٍ ومكانٍ مُعينٍ ما كما يحلو لـ(رولان بارت) أن يُسميها في تنظيره. تلك المفارقات الحركية التي كانت أكثر تأثيراً وتجلِّياً في خاتمة قصته التي اخترنا سطورها الآتية:

"رَفَعَ رَأسَهُ قَلِيلَاً، لَملَمَ أَذيَالَ ثَوبِهَ، سَكَتَ وَأطَالَ السُّكُوتَ، تَلَقَّفنَا فُرصةَ سُكُوتِهِ لاِستذكَارِ مَا أَسقطَهُ القَلَمُ مِنِ الكَلَامِ سَهوَاً. ولكنَّ آهةَ الرَّجُلِ الَّتي خَتَمَ بِهَا ذَيلَ لَوحَةِ أَقوالِهِ شَدَّتنَا إِليهِ ثَانِيَةً لِنُكمِلَ مَا قَدْ يُضيفُ قَالَ: -الشَّيءُ الَّذي يُرعُبُنِي يَا سَادةُ أَنَّ أَحفادِي الأيتَامَ، وَلِحَدِّ الآنَ يَتَعَامَلُونَ فَيمَا بَينَهُم كَأَضدَادٍ رُغمَ أَنَّهُم تَحتَ سَقفٍ وَاحِدِ...(10)".

والرائي بعين ثالثة لدلالات هذا التقصيص الختامي، سَيجسُّ ما وظَّفه الغراوي من تناقض فنِّي عجيب بين تصرقات هؤلاء الأحفاد الحدثية، وموقفهم الشعوري المتضاد حيال بعضهم، على الرُّغم من  أنَّهم يَقبعونَ تحتَ مظلةِ خيمةٍ، وهذا يشي بأنَّ الخلاف مهما كانت حركته الدَّرامية لا تمنع من تعدُّد الآراء وتباين المواقف، وكأنَّهم طيفٌ من الأجناس الإثنية والمذهبية يجمعهم وحبُّ طنهم الكبيرٌ العراق الواحدٌ.

ونذهب إلى بصمة كاتب آخر للبحث عن وقع تجلِّيات أسلوبية القصِّ الدرامي وجماليات تناقضاته الفنيَّة المؤثِّرة عند القاص البَصْري جابر خليفة جابر في مشاهد قصته (الحِصانُ قَائدُ العَرَبَةِ)، والتي جاءت ضمن مجموعته الفكرية الفلسفية (زَيْدُ النَّارِ) التي جسَّد فيها واقعة الحدث الدرامي تجسيداً حركياً متنامياً في مشاهده التصويرية التي تبعث على التأمل والاستغراق المعرفي لرؤى المفارقة:

" قَذَفَتنِي الصَّدمَةُ بَعِيدَاً عَنِ الحُوذِي وَعَنِ الخِزَانةِ الخَشبيَّةِ الَّتي رَأيتُهَا تَتَدَحرَجُ مُتَهَشِّمَةً مَعَ العَرَبَةِ والحِصَانِ وَأعدادٍ مِنْ حَيوانَاتِ السَّيركِ وِالأحصنَةِ الصَّغِيرةِ تَتَساقطُ مِنْهَا مُتدَحرِجَةً عَلَى المُنحدَرِ، بَينَمَا شَرَعَتُ رُغمَ آلَامِي وَرُضوضِي فِي صُعودِ السَّدَّةِ ثَانِيَّةً، وَفِي نِيَتِي شَرِاءِ خِزَانَةٍ للتَّخَلُّص مِنْ مَلَابِسِي(11)".

فجابر كان حريصاً في تقفيله الختامي المماهي لواقعة الحدث السحريَّة على تخليق مفارقة تناقضية درامية تشدُّ المتلقي للتفاعل معها، وكأنكَ أمامَ مشاهدَ مسرحية تتحرك فيها الفواعل الشَّخصية والفعليات.

وللأسلوب الدرامي حركته الفعلية الحدثية النابضة بالإثارة، وأثره التوقُّعي التعبيري الفنِّي التصويري الشاعري الذي يُضفي على حركية التمثيل في الخطاب السَّري قوةً سحريةً وجماليةً مذهلةً تلقي بظلالها الوارفة تأثيراً إبداعياً مباشراً في نفس القارئ والمتلقِّي وتحمله على التواصل البصري والرؤيوي في الإمتاع والمؤانسة والأبداع والإتباع.

وهذا الأفق الجمالي الدرامي نجد انثيالاته الأسلوبية في نصِّ قِصَّةِ(لصُّ الأبواب المواَرِبَةِ) للقاص والكاتب والسيناريست الجنوبي الميساني ضاري الغضبان، وتحديداً في مجموعته الواقعية الساخرة (نَادِي الُحفَاةِ) التي تمثِّل أُنموذجاً واقعياً لرؤيا المدينة الفاضلة، الفائزة بالجائزة الثانية في مسابقة الطيِّب صالح الدولية العالمية للكتابة عام 2021م في السودان، فلنقرأ خاتمة هذه القصة الماتعة:

" وَمَعَ بَرقٍ شَدِيدٍ أَمطَرَتِ السَّمَاءُ، وَهوَ يَبتَعَدُ أَكثرَ نَحوَ ضَوءِ الفَجرِ الَّذِي يُقَاوِمُ حُلُوكِ الغُيُومِ، بَدَأَ يَتَبَلَّلُ، بَينَمَا اِنحَدَرَتِ المَفَاتِيحُ مِنْ تَحتَ المِعطَفِ تَتَسَاقطُ عَلَى الرَّصِيفِ بِالتَتَابُعِ، وَلَمْ يَتوقَّفْ لِجِمعِهَا؛ بَلْ اِبتَعَدَ مُبَللاً وَمَفَاتِيحُ فَتحِ الأَبوابِ المُغلَقَةِ تَتَناَثرُ خَلفَهُ وَيُغَطِّيهَا المَطَرُ المِدْرَارُ(12)".

هكذا يُصوِّر ضاري الغضبان –درامياً- ضبط إيقاع مشاهد شخصيته بطله اللِّصِ ويرسم مسار حركته، ويهبها أرفع صورة درامية جمالية مغايرة لنسق نظائره اللُّصوص الأُخر. فهو لصٌّ موسوم بعلامة الأبواب الموَارِبَة لا المُغلقة المؤصدة. واللَّافت أنَّه ينمازُ بخصالٍ وقيمٍ أخلاقيةٍ وسلوكيةٍ لصوصيةٍ فيها من الالتزام المبدئي المُغاير، حيثُ المروءةُ والإقدامُ والإحجامُ والبسالةُ والتأثُّر، على الرُغم من سلبيته اللصوصية الممقوتة.

4- الأُسلوبُ السِّيري الذَّاتي:

من بين الأساليب الأدبية المهمَّة التي هيمنتْ إبداعياً بفضاء تمظهراتها الفنيَّة الرائدة على فن السرد النثري، الأسلوب السِّيري ذو الطابع الأدبي الحكائي القصصي أو الروائي الذاتي. وإنَّ هذا الأسلوب هو الذي يقترب فيه الكاتب أو (السارد) كثيراً إلى ما يسمَّى بـ(اليوغرافيا الذاتية)، والتي تُعنى بفن سرديَّات الكاتب أو الشخص لسيرة حياته الأدبيَّة كاملةً أو اقتطاع جزء منها بشكلٍ فنَّي يوظَّف فيه آلياتات وشرائط وتقنيات وعناصر الفن القصصي أو الروائي الحديث الذي يلفت الأنظار بجماليات تسريده الحكائي المُتقن وسحر تأثير لغته المحبَّبة إلى نفس القارئ والمتلقي النابه العليم.

فإذا كان الأُسلوب في القياس اللُّغوي المُعجمي يعني معناه، الطريقة أو السُّنَّة أو المذهب أو المنهج الإبداعي اللُّغوي الذي ينتهجه الكاتب في الحياة الأدبيَّة، فإنَّ مصطلح (السِّيري الذاتي) في واقع الأمر يصعب وضع أو تحديد تعريفٍ اصطلاحيٍ دقيقٍ أو ثابتٍ لهذا اللُّون الأدبي السردي؛ لكونه أكثرَ الألوان أو الأساليب الأدبيَّة مرونةً وشفافيةً وتأثيراً من الأساليب الثلاثة الأخرى، وأقلَّها وضوحاً وبياناً. فهو في الأعمِّ الأغلب إمَّا أن يتراوح -طوليَّاً وعُرضيَّاً- ما بين تقنُّع الكاتب أو السارد أو الراوي العليم للحكاية بسرد للأجزاء الخاصَّة بحياته الذاتية والأدبيَّة، أو بعرض وتوظيف وتوثيق كُلِّي ليومياته الشخصية أو اعترافاته الأوغسطينية ذات الطابع الشخصي البَاتِّ للمروي له.

والكاتب القاصُّ أو الروائيّ في هذا النوع الكتابي الأدبي الذي يجمع في مكنوناته السرديَّة بين مدخلات الإيجابي والسَّلبي قد يعترف بمدوناته القصصيَّة التسريديَّة بجملةٍ من الأخطاء والهنّاَت أو الهفوات التي ارتكبها في مرحلةٍ ما، أو مراحل حياته الزمنيَّة. والتي أخذت منه مأخذاً نفسياً كبيراً في توجيه بوصلة مسيرة حياته الذاتية نتيجة عوامل داخلية وخارجية مؤثِّرةٍ كبيرةٍ كان لها الوقع المباشر في بناء وتأسيس أو هدم شخصيته الوجودية الذاتية، (أكون أو لا أكون) في حلبة التحدِّي.

وحين نبحث عن أصول مصطلح فنِّ( السيرة الذاتي) في أبجديات اللغة الإنكليزيَّة، نجدُ أثر أصوله الحقيقية تُشيرُ إلى اليونانية أو اللَّاتينية، والتي تعني في أقرب معنىً لها، هو مفردات المعنى (الذاتي أو الحياتي أو الكتابي)، والتي أشرنا لها مسبقاً بكيفيَّة سرد الكاتب أو الأديب أو الشخص لجوانب مختلفة من قصَّة حياته. ولعلَّ مثل هذه الأصول تُحيلنا إلى الإشارة إلى أنَّ أوّل من عكف على استخدام وتوظيف مصطلح السيرة الذاتية تطبيقاً، هو الكاتب والسفير الدبلوماسي والعسكري الأمريكي المعروف في الأوساط الدَّوليَّة(وِليام بي. تَايلور جُونيور). والذي كان قائداً عسكرياً  في جيش الولايات المتحدة الأمريكية إبّاَن حرب فيتنام، والحائز على وسام النَّجمة الذهبية لهذه الحرب الدَّولية كما تشير وقائع سيرته التعريفية والمهنية الدبلوماسية في مواقع شبكة المعلوماتية.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإنَّ استخدام مفهوم مصطلح (السِّيرة الذاتية) مسجَّلٌ كما تُشير  الدوريات الأنكليزية بواسطة الكاتب( روبرت ساوذي) عام 1809م بمعناها الحالي المعروف الذي أخذ اسمها فقط في بدايات القرن التاسع عشر. وتُشير صحائف المرويات والأخبار التاريخية إلى أنَّ أوَّل شخصٍ كتب سيرته الذاتية مدونةً تعود زمنياً وجذرياً إلى أُس العصور التاريخيَّة القديمة.

وعلى وفق تلك الأصول التأسيسيَّة، فإنَّ مفهوم مصطلح السيرة الذاتية تطوَّر تطوِّراً كبيراً في أبجديَّات الفنِّ الكتابي من مفهوم محتواه الأصلي إلى المحتوى السَّردي الأدبي القصصي الأكثر نضوجاً واتساعاً فنَّاً وبلاغةً في عملية الإبداع والابتداع الكتابي النوعي.

والفرق كبير بين اللَّونين، أنَّ الأُسلوب السيري الذاتي يستعرض حياة كاتبه الأدبي بشكلٍ لافتٍ مُنذ لحظة التكوين الوجودي الأول لخليقته الذاتية على الأرض. في حين يعتمد كاتب السيرة الذاتية بشكلٍّ عامٍ في مدخلاته ومخرجاته السِّيرية الفنيَّة على مجموعة كبيرة من الوثائق والمستندات وعلى بيانات وجهات النظر. كما ويعتمد كذلك على أفق ذاكرته الفكرية في تدوين وتوثيق سيرته الأدبية الذاتية، كمال هو الحال في مذكَّرات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الأدبية في كتابه المجَزَّأ بأجزاءٍ مُتعدِّدة (الأيام). وقد تكون السيرة الذاتية اعترافات محضةٌ مثل اعترافات القديس أوغسطين.

ويبدو لي أنَّ هذا اللون الكتابي من المذكرات السِّيريَّة، والذي يرتبط ارتباطاً كبيراً بفنِّ السِّيرة الذاتية يُركِّز كثيراً على هُويَّة الآخر المَروي عنه، في حين يقلُّ تركيزه السِّيري على بؤرة الذات خلال استعراضه التوثيقي لآفاق مسيرة حياته الشخصية. في الوقت الذي يبذل فيه الكاتب أو الرائي السردي جهداً كبيراً في تواتر قصِّه الحكائي، ويتوخَّى فيه الدقة الموضوعية لواقعة الحدث السردية.

وقد يكون توظيف الذات السيرية بشكلٍ مغاير فيه من إشارات التمويه الفنِّي والتعمية الرمزية والتقنُّع الإشاري في الارتباط بواقعه التاريخي والاجتماعي والثقافي والزمني؛ وذلك من خلال تتابع فنيَّة الاستباقات والتأخيرات الهندسية لوحدة الحدث في كتابة التسريد الذاتي أو ما يُسمَّى بتقنية (الاستقدامات والاسترجاعات)التي يتناول فيها الكاتب إنتاجه السردي عبر أثير تلك التقنيات الحديثة التي توجز جانبا ً مهمَّا ً وكبيراً من أثر حياته السِّيرية المُتراتبة إلى أحضان القارئ والمُتتبع لنتاجه.

هذا هو التباين السردي الواضح بين المفهومين، الذي جعل الفرق جليَّاً وكبيراً بين الأُسلوب الأدبي لفن السيرة الذاتية وفن كتابة المذكَّرات. والأسلوب السيري الذاتي يركِّز في مروياته الحكائية القصصيَّة على حياة الكاتب، ويُسلِّط الضوء ارتباطياً على زمكانية العصر الذي عاش وترعرع فيه جذريَّاً ووجوديَّاً؛ كونه المنبت الأصلي لتاريخه الحياتي الأدبي. في الوقت الذي نجد فيه أسلوب سرد المُذكِّرات النثري أقلَّ تركيزاً؛ ولكنْ أفقه الكتابي أكثر اتساعاً وحميميةً في توظيف سريان مذكَّراته وسهولة جريان مشاعره وأحاسيسه وخلجاته وحرارة دفء تدفق عواطفه الذاتية بِيُسرٍ وتساوقٍ فنِّي.

ومن بين النماذج الإبداعية الجميلة للتدليل على خاصية وقع الأُسلوب السِّيري الذاتي مجموعة (وطن عيار 7.62 ملم) القصصية للكاتب والإعلامي والقاصِّ المثابر محمَّد الكاظم الحائز فيها على جائزة الطيِّب صالح  العالمية للإبداع الكتابي عام 2013م في السودان. فلنقرأ بإمتاع شديد أولى بواكير هذه المجموعة قصته التي وسمها بالعنوان اللَّافت والمثير بتركيبه السردي للتفكير والتأمُّل، (سيرةٌ غيرُ ذاتيةٍ لِمؤلِّفِ الكِتَابِ وقُرَّائهِ)، والتي ينشرُ فيها الضوء مضيئاً على جانب كبير من محطَّات حياته الشخصية المحتدمة، وينقل فيها معاناة شعبه الآسر وفوران وطنه الجريح العراق بلغة الراوي بضمير المتكلِّم المباشر على غرار ما يتحفنا به الجاحظ في بيانه وتبينه،(إنَّ الكلمةَ إذَا خَرجَتْ مِن القَلبِ وَقَعتْ فِي القَلبِ، وَإذَا خَرَجَتْ مِنَ اللِّسانِ لَم تَتَجاوزْ الأُذنينِ). فلنرى ما يقول:

" اِثنَا عَشَرَ بَلَدَاً حَمَلْتُ حَقَائِبِي إِليهَا بِرَغبَةٍ مِنِّي أَحيَانَاً، وَبُدونَ رَغبَةٍ أَحيَانَاً أُخرَى، كَانَ الوَطَنُ يُرافِقنِي فِيهَا مِثلُ عُيُونِ أُمِّي، لَكِنَهُ لَيسَ الوَطنَ الَّذِي تَركتهُ يَرتَدِي ثِيَابَ الخَاكِي ، وَيَتَنَاوَلُ صَمُّونَ الجَيشِ والبَارودَ وَالبَيَانَاتِ العَسكريَّةَ عَلَى الفُطُورِ، َويَأكُلُ لَحم َالمُوتَى عَلَى الغَدَاءِ. وَيتَعَشَّى بِمَا تَبَقَّى مِنْ جَسَدِ الوَطَن (13)".

على الرُّغم من اللغة الشاعرية الرصينة التي كُتِبتْ بها سطور هذه الدفقة السيرية الأثيرة، فإنَّ ما يلفت النظر في توصيف سرد الكاظم القصصي التوثيقي طيَّات سطوره الوطنية النارية الملتهبة غلياناً وحنقاً، والنازفة ألماً ويأساً ومرارةً وارتكاساً ونكوصاً على ما آل إليه واقع الشعب الاعتباري المُعاش. ذلك الجرح الذي اختلط فيه الهمُّ الذاتي الفردي الخاص بأنَّات الوجع الجمعي الوطني العام، وامتزجت فيه مشاعر الهجس الجزئي الذاتي بالحال الشعبي الكُلِّي الوطني. فأيُّ وطنٍ هذا العراق؟!

فكانت التقاطات عدسة القاص الصورية صادقة الرؤى في التعبير عن مشاهد وصور عسكرة المجتمع العراقي إسبارطياً في حقبة زمانية ما، تعدُّ من أصعب حقب تاريخ العراق المعاصر والحديث دمويةً من حكم النظام البعثي البائد الذي تسيَّد البلد ثلاثة عقودٍ ونيفٍ من السنين العجاف الخاليات من الفرح. سنون الوجع التي يشعر فيها المواطن بعدمية وجوده الإنساني المسيَّر لا الحُّرِّ الذي مضى حياته أسيراً حَسيراً كسيراً يعيش دوامة نفقٍ مظلمٍ في بلدٍ ليس فيه بوادر الرخاء والأمل المنشود سوى الموت وجعجعة الحروب. ورغم كلِّ ذلك يبقى الوطن رفيقاً للدرب كعيون الأُّمِّ حُنُواً.

وفي جانب قصصيِّ سيري أخر لِهمِّ الذات من التقاطات محمد الكاظم الصورية عن آثار وجع الحصار الاقتصادي الأمريكي الذي ضرب الاقتصاد الوطني العراقي وجوَّعَ أبناء الشعب إبَّان حكم النظام الجائر. الأمر الذي أودى بانهيار منظومة القيم والأخلاق وتفتيت وحدته المجتمعية المتماسكة وحمل المواطن على أن يتنازل عن بعض مبادئه السامية، ويُضحِّي بقيم ِعرضهِ وشرفه وعزة نفسه من أجل أن يسدًّ رمق جوعه وعوزه وفقره؛ لأنَّ الجوع ظالم لا يعرف المبادئ والقيم والأخلاق. وحكاية الحصار التي استمرت أكثر من عقد من الزمن تتحدث عنها قصَّة محمد الكاظم الدالة على عنوان رمزيتها السِّيريَّة العميقة،(من أين يأتي الموزُ يا تشيكيتا ؟)، والتي يجسِّد فيها الصور سارداً:

"اِفتَرَسَتْ وَجهَهَا الصَّغيرَ عَلامَاتُ اِنكِسَارٍ ذَليلَةٌ وَبَدَأتْ تُرَدِّدُ كَلماتٍ مُبَعثَرَةً مُتَلَعثِمَةً اِستطَعتُ أَنْ أَفهَمَ مِنْهَا إِنَّها مُسْتَعِدَّةٌ لَأَنْ تَنَامَ مَعِي مُقَابلَ عِشَاءِ الأَولادِ. وَفَهِمْتُ أَنَّ لَونَ بَابَ بِيتِهَا أَزرِقٌ مَكتُوبٌ عَلَيهِ يَا اللهُ (14)".

ونفهم من عبارات الكاظم السردية التي تحبس الأنفاس حياءً، وتُقطِّع نياطَ القلب مَهابةً وتُدْمِي علائقه الروحية وجعاً، تلك التي يتحدث فيها عن حال لسان بطلته المرأة العجوز رائياً سردياً  حكيماً شاهداً على جور العصر، وَراوياً سِيرياً عليماً بسيرته لقرائه. ونفهم منه بجلاءٍ في تفكيكنا الدلالي الفني لشفرات مرموزاته السِّيرية أنَّ (الافتراس) صفة دلالية وحشية اختصت بها المخلوقات الحيوانية البهائم لا الإنسان العاقل الذي تظهر عليه أُمارات التشظي والتبعثر والتلعثم نتيجة الشعور بالحياء والخوف والتردُّد من أمر جللٍ يداهمه بغتةً أو قصداً. وأنَّ الجمع التوحُّدي بين ثنائية التضاد في الصفات العقلانية وخلافها البوهيمية أمر ليس بالسهل اليسير، وما يُلقَّاه إلَّا قاصٌّ سيريٌّ مكينٌ.

ونفهم من دالة (النوم) مقابل ثمن عشاء مع الآخر الفاسد الفاجر، انتهاكٌ للشرف الرفيع وعدوان على حرمة التابو المقدَّس للمرأة الحَصَان. ونفهم من دالة اللون (الأزرق) أنَّه لون سماوي محبَّب من ألوان الطبيعة المتحركة والثابتة. ونفهم من دالة لفظ الجلالة (الله) أنَّ البيت تحفُّه رعاية الله وتحرسه ملائكة الذات الإلهية العظيمة، فكيف يُدنَّس بالعار القميء والذُّل والانكسار وينتهك الشرف العزيز؟! بهذه اللغة الحكائية القصصية الجميلة والأُسلوب البلاغي الرفيع تُصنع السِّير الذاتية الفردية والجمعية وتنتج أدبياً وفنياً لينتفع بها القارئ ويتمتَّع المتلقي بمحتواها الدلالي الفنِّي الجمالي.

وبأسلوب سيري صادق التعبير، وحسٍّ إنساني ذاتي عالٍ كبير التقدير ينقل لنا في سِفرِ مجموعته القصصية (الثلاثيةُ الأولى) القاص والروائي العراقي المغترب جُمْعَة اللَّامي شذراتٍ ضوئية متفرقة من تاريخ حياة سيرته الذاتية. تلك الدفقات الروحية الشخصيَّة التي يُصوِّر فيها مشاهد من انتمائه الفلاحي الطبقي الجنوبي في قصبةٍ من قصبات نشأت طفولته الأولى قضاء الكحلاء التابعة لمدينة العمارة السومريَّة. حيث مرابع  الوطن الصغير والأهل والأحبَّة وأصدقاء العمر والرفقة الخلَّان.

ويستحضر اللَّامي حكائياً تأثيرات مرابع أطلال منبت صباه على طفولته النقيَّة البيضاء حين يوثّق بحبٍّ أجزاء مبثوثة من سيرته الطفولية الأولى متماهياً مع عناصر الطبيعة الريفية الساحرة لهذه القصبة الصغيرة ومدوناً لمرويته الرمزية شخصية أخته (مريم بنت مطر) التي كانت حاضنته الطفولية مثل والدته الفقيدة، فيرسم فنيَّاً وجماليَّاً في معمار هندسة أقانيم قصته صورَ الأُمِّ الرؤوم الشفوق العطوف الدائم. ويكتب بشغف الملهوف عنها بلغة الراوي العليم بأسرار قصته السيرية نثاً:

"ضَمّتنِي مَريمُ بِنتُ مَطَرٍ إِلَى صَدرِهَا، فَاستَروَحتُ عِطرَ أَزاهِيرِ الهُورِ، وَسَمِعتُ صَمتَ مَاءِ الكَحلاءِ، وَنَادتنِي قُبرَاتُ حُقُولِ الحِنطةِ، وَالتصقَ فِيَّ عُمقُ قَلبِي حَنينِ النِّياقِ، بَينمَا كَانتِ الأَرضُ صَفراءَ مِثلَ ذَهبِ جَداتِنَا، وَالسَّماءُ زَرقاءَ صَافيةُ مِثلَ قُلُوبِ عَذرَاواتِنَا. مَريمُ بِنتٌ مَطرٍ، هيَ أُمِّي. وَإذْ أستعيدُهَا الآنَ مِنْ حَضرةِ المَوتِ، لَأتحدَثَ عَنهَا – يَا شَقيقةَ رُوحِي- فِي حضرتِكِ فَلأنَّ رُوحَهَا حَلَّتْ فِيكِ، فَأنتِ الآنَّ- أُمِّي وَحَبيبتِي وَأُختِي، وَأَنتِ سَمَائِي الَّتي ألتحفُ، وَأَرضي الطَّهورُ الَّتي أتوسَدُ، وَأَنتِ بَساتينُ الرِّضَا وَغَاباتُ الشَّوقِ الَّتي لَا تَفْنَى(15)".

فجمعة اللَّامي في تلابيب قصته هذه يجمع في نصِّ محتواها الَتقنُّعي البسيط بين حميمية ثنائية لأسلوبين الغنائي الوجداني، والسيري الرمزي الذاتي كلَّ عناصر الجمال الفني وتقنياته السردية. فالإيجاز اللغوي، والتكثيف الاقتصادي الدال على جلال المعنى، ورمزية موحياته القريبة والبعيدة، وعنصر الدهشة والإمتاع، وإنسيابية شعرية عذوبة الأسلوب، وعمق وحدة الحدث الموضوعية المرتبطة شخوصه بزمان ومكان محدَّد ما، كلُّها عناصر أساسية مهمَّة التزم بها الكاتب لكي يمنح قصَّ السرد الحكائي السيري جاذبية القبول، وحسن الرضا لدى المتلقِّي الواعي أكان قارئاً أم ناقداً؟

ولم تقتصر إضاءات الكاتب السيرية في توثيقه الواقعي لمراحل من حياته الشخصية عن جذور سنين طفولته الذاتية فقط، بل تحدَّث راوياً من خلال شخصيات أبطال الرئيسة والثانوية والهامشية  عن مدينته الأُمِّ العمارة وعن أحداث متفرقة في بغداد الأزل وفي معتقل السلمان بالسماوة، وعن الرمادي الغربية وخارج حدود الوطن الكبير، لبنان وسوريا ومدن وعواصم كبيروت ودمشق الشام.

وَنُحَلِّقُ في تأملاتنا الفكرية ممعنين النظر مليَّاً في قصة (وحيداً في ليلة النسيان) للقاص والروائي حسين محمَّد شريف، والتي حملت عنوان المجموعة القصصية ذاتها، يُحاول الكاتب في دهاليز هذه القصة الدالة على سمة عنوانها الدلالي أنّ يجمع بين الواقع والمخيال السردي الأسطوري. ويسعى بوضوح إلى أن يتعرَّف القارئ على أشياء كانت مبهمةً غامضةً في مسيرة حياته. وفي مثل هذا اللون يمكن للقارئ أنْ يُميِّز من الذي كتب السيرة القصصية الأدبية، هل هو الكاتب ذاته أمْ بطل قصته المحكي(الرمزي)؟ومثل هذا النموذج  نقرؤه للقاصِّ في ثنايا سطور قصته هذه مُجسِّداً القول:

" كَانَ رُكوبُ الحَافلَةِ بِلَا نَوافِذَ أَيسرَ مِنْ هَذَا الرُّكُوبِ الَّذي كَادَ أَنْ يُوقِفَ قُلُوبَنَا فِي وَسَطِ بَحرٍ مُتَلاطمٍ هَائِجٍ، وَمَعَ آلافِ القَوارِبِ عَلَينَا الوُصُولُ إِلَى اَللَّا أَينَ، وَكَانَ القَائِدُ مَسؤولَاً أَمامَ المَلَأِ هُناكَ عَنْ الإخفاقِ بِالوصُولِ؛ لِأنَّهُ لَو صَارَ ذَلِكَ لِتَعَيَّنَ عَلَى القَائدِ العَودةُ إِلى السَّاحلِ مِنْ جَديدٍ لِقِيادةِ قَاربٍ آخرَ حَتَّى يَصلَ دُونَ فُقدانِ أَيِّ مِنْ زُمَلَاءِ الرِّحلةِ.الأنَ فَهِمتُ لِمَاذَا رَفَضَ الشَّيخُ قِيادةَ القَاربِ ؟ وَقَدْ فَهِمتُ أَيضاً بِأنَّهُ ذُو خِبرَةٍ بِهَذَا المَكَانِ بِناًءً عَلَى رُدُودِ أَفعالِهِ تُجاهِ كُلِّ شَيءٍ هُنَا (16)".

إنَّ موحيات هذا التسريد السيري الأدبي التي يرويها بطل هذه القصة والتي يقف وراءَها مُتَقَنِّعَاً بِماسكِ التَّمويهِ والتَّغطيةِ العمياء الكاتبُ نفسُهُ الذي ركب البحر برحلة المجهول نحو التِّيهِ، والتي رمز لها بالوصول إلى نقطة (اللا أينَ)، بؤرة التلاشي والضياع أمام ثُلة من المُهرِّبينَ محترفي الطريق في المخادعة والنصب والاحتيال المادي الذي راح ضحيته آلاف المهاجرين الفارين من  جحيم جور حكَّام بلادهم، ومثل هذا القصِّ التسريدي ما هو إلَّا أجزاء من محطَّات سيريَّة واضحة.

ونخلص القول في الخروج إلى نافلته في الإشارة إلى أنَّ الأدبيات الأسلوبية لكتابة فن السيرة الذاتية الأدبي تؤكد بجلاء منقطع النظير أنَّ كاتب السيرة الذاتية في مدوَّناته القصصية الجمعية قد يجمع فيها أكثر من أسلوب سيري هادف المحتوى الحكائي والفنِّي، على الرغم من أنَّ لكلِّ كاتب أوقاصٍ أو روائيٍ مبدعٍ أسلوبهُ الفنِّي التعبيري النثري الذي يُميز خاصية معجمه السردي الذي عُرِفَ بهِ عن نظائره الآخرين من الكُتَّابِ والأُدباء المبدعين في حداثة المشهد السردي المحلي والدولي. وأنَّ التعددية الأسلوبية الموضوعية في الكتابة ليس عيباً أو وصماً مخلَّاً ينال من شخصية الكاتب الأدبية المعروفة، وإنَّما هي دليل فكري  وإبداعي يوشم مقدرة المبدع الأمكن عن العاجز.

ووفقا لما تقدّم من قراءات تأملية في نقد أساليب سرديات القصة العراقية الحديثة، ولا سيَّما القصة القصيرة، والقصيرة جدَّاً أس حداثة الأدب الوجيز نثراً وشعراً يبقى الأسلوب الذاتي للكاتب سواء أكان معجمه السردي وجدانياً غنائياً أو تهكُميَّاً سَاخراً أو درامياً تمثيلياً بَصريَّاً أو سيرياً أدبياً، هو العلامة الفارقة في الحكم على المُبدع، وهو الموجِّه الفنِّي الإبداعي والشاخص الأميز للكاتب.

وتبقى في الوقت ذاته قدرة الكاتب الرائي التعبيرية وامتلاكه لأدواته اللُّغوية الثرَّة التي هيَ سلاحه الأسلوبي في مستوياته المعرفية الابستمولوجية في بناء تراكيبه الجُملية السليمة وتدفق عباراته النظمية القويمة،هي الفيصل الحقيقي للمنتج السارد الذي يُمسك بتلابيب النص وينسج خيوط عباءته.

***

د. جبَّار ماجد البَهادلي

........................

هَوامشُ الدِّراسة

1- د. صلاح فضل، أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سورية، ط 1، 2003م، ص 9.

2- حنون مجيد، وَردةٌ لِهذا الفُطُورِ، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد- العراق، ط2، 2019م، ص 58.

3- محمَّد خضير، المملكة السوداء، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد- العراق، ط2، 1986، ص 113.

4- أمل حمزة خضير، نحيبُ المَقصلةِ، دار الوارث للطباعة والنشر، كربلاء- العراق، ط 1، 2020م، ص 31.

5- ضاري الغضبان: رهانُ العقابيلِ، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد- العراق، ط 1، 2022م، ص 22.

6- محمَّد سيِّد كرم الموسوي: أولياءُ الخبزِ،، منشورات اتَّحاد أُدباء وكُتَّاب ميسان، مطبعة أشرف وخلدون، العمارة- العراق ، ط 1، 2022م، ص 54.

7- المصدر السابق نفسه، ص 7.

8- د. صلاح فضل: أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سورية، ط 1، 2003م، ص 9.

9- المصدر السابق نفسه، ص 10.

10- إبراهيم دكس الغراوي: رياحٌ وسفن، مطبعة سراج، النجف الأشرف-  العراق، ط2، 2019م، ص 111.

10- جابر خليفة جابر: زَيدُ النَّارِ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، البصرة- العراق، (ب ط)، 2017،  ص 61، 62.

11- ضاري الغضبان: نادي الحُفاة، الشركة السودانية للهاتف السيَّار(زين)، مطابع الهناء، الخرطوم- السودان، ط1، 2021م، ص 212.

12- محمَّد الكاظم: وطن عيار 7.62ملم، بيت الكتاب السوري، ط 1، 2020م، ص 15.

13- المصدر نفسه، ص59.

14- جمعة اللَّامي: الثلاثية الأولى، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عّمّان- الأردن، ط1،

2000م، ص 46، 47.

15- حسين محمّد شريف: وحيداً في ليلة النسيان، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد، ط1، 2021م، ص 33، 34.

ثَبْتُ المَصادرِ والمَراجعِ

* إبراهيم دكس الغراوي، رياحٌ وسفن، مطبعة سراج، النجف الأشرف-  العراق، ط2، 2019م.  

* أمل حمزة خضير، نحيبُ المقصلةِ، دار الوارث للطباعة والنشر، كربلاء- العراق، ط 1، 2020م.

* جابر خليفة جابر، زَيدُ النَّارِ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، البصرة- العراق، (ب ط)، 2017م.

* جمعة الَّامي، الثلاثية الأولى، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عَمَّان –الأردن، ط!، 2000م. 

* حسين محمَّد شريف، وحيداً في ليلة النسيان، منشورات الاتَّحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد-   العراق، ط1، 2021م.

* حنون مجيد، وردةٌ لهذا الفُطورِ، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد- العراق، ط2، 2019 م.

* د. صلاح فضل، أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق- سورية، ط 1،  2003م.

* ضاري الغضبان، - رهانُ العقابيلِ، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد- العراق، ط 1، 2022م.

- نادي الحُفاةِ، الشركة السودانية للهاتف السيَّار(زين)، مطابع الهناء الخرطوم- السودان، ط1، 2021م.

* محمَّد خضيِّر، المملكة السوداء، وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد – العراق، ط2، 1986م.

* محمَّد سيِّد كرم الموسوي، أولياءُ الخبزِ، منشورات اتَّحاد أُدباء وكُتَّاب ميسان، مطبعة أشرف وخلدون، العمارة- العراق،  ط 1، 2022م.

* محمد الكاظم، وطن عيار 7. 62ملم، بيت الكتاب السوري، دمشق- سورية، ط1، 2020م.

في المثقف اليوم