قراءات نقدية

انعكاسات مرايا النرد في المتخيل الشعري

للشاعرة الحزائرية فائزة أحمد خمقاني في مجموعة نرد

عن دار كلاما للنشر والتوزيع صدر للزميلة فائزة احمد مجموعتها الشعرية (نرد) عام 2022 - الجزائر - وهي تجمع بين طياتها باقة من القصائد التي تستمد خاماتها الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق، كي تكشف لنا صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، بمعنى آخر هي مجموعة صور لتشظيات مرآتها وانعكاسها في متخيلها الشعري الذي قام بإعادة تشكيلها وفق رؤية جدلية بين الذات الشاعرة والآخر، وحيث تتبدى وشائج وعلاقات تجعل من الشاعرة أن تطمح إلى كل ما هو جميل في هذا العالم.

تسعى هذه الدراسة الى رصد التحولات التي طالت الذات الشعرية للشاعرة فائزة من خلال نردها الذي يعكس لنا في كل رمية صورة جديدة لما تحمله ذاتها من الضجيج اليومي والقلق والوجع النفسي الذي يعتصر ذاتها فتراءى لي أوجه النرد على شكل مرايا تجسد الصورة الحقيقية.

ولكون عالم المرايا عالم مدهش و جميل و مخيف، فمرآتها تعيش معها في مجموعتها هذه كي تحاورها عندما يتعلق الأمر بتجسيد صورها الرقيقة والمتحركة كي تعبر من خلال دلالة متخيلها الشعري الى دلالة الواقع كونه مرتبط به عضوياً.

فالمرآة عند الشاعرة فائزة تعددت انعكاساتها الصورية مثلما تتعدد أوجه حجرة النرد، كونها (المرآة) تتقمط شخصية الشاعرة لتعكس ملامحها من خلال رمي حجرة النرد ففي كل رمية تطرح صورة جديدة وكأنها رمزا وعلامة تحقن الأضداد بالمجاز. فأستخدمت الشاعرة حجرة النرد ووظفتها بشكلها الصريح فجاءت الصورة لديها متعددة السمات والصفات وهي تبحث عن الذات والهوية، ولكن ليست بمفهومها الأثني أو الديني أو السياسي بل هويتها الانسانية وكما تقول في نصها (هوية):  

أنا ابنةُ المَاءْ.

لا يعْنِينِي الظَمَأُ الرَابِضُ فِي القلُوبْ

و أنا مُوسِيقَى الصّباح

لا شَأْنَ لِي بِنَشِيجِ الأرجُوحَةِ المَعْطُوبَةِ فِي مَساءٍ بَارِدْ

أنا الضِّدَانِ اجتَمعَا في وجهِ المَجَازِ فأرْبَكَاهْ

لي غَمزةُ الشَّمسِ أرَاها ...

لا يَرَاهَا سِوَايْ

إذن هويتها مرتبطة بمعالم الطبيعة، الماء، الموسيقى، المتناقضان - بمعنى الخير والشر) فصورتها مرتبطة بكل ما هو جميل كأشراقة الشمس، فلا شأن لها بعطب الأرجوحة وبكائها.

في قصيدتها هذه تكشف لنا الشاعرة شكل هويتها فتارة هي ابنة الماء وفي الاخرى هي موسيقى الصباح و... إلا أن صورتها هذه تجمع بين دفتيها ضدان متناقضان مجتمعان في صورة واحدة (الخير والشر، المادي والروحي، ما تحلم به والواقع، ..).

إلا أنها كأي فتاة تحلم ان تكون لها وحدها غمزة الشمس ودفئها ونورها و... إلا أن صورة الواقع أحيانا مغايرة وهذا مرتبط برمية نردها (الحظ) والصورة التي تعكسها وجه النرد، لذا نجد مخيلتها قادرة على التلاعب بتشظيات نردها لتصنع لنا أشكالاً عدة ولكل شكل مراكز التبئير لرؤاها والتي من خلالها تقوم بإنتاج الرؤى التي تربطها بواقعها كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل، ويكتسب دلالات جديدة فتارة تعكس مرآة وجهها صورة المقام، الموسيقى) كي تجعلها ترقص وتتمتع بالحياة وتبني لنفسها معبداً وجنة ووطناً، وفي الأخرى تعكس صورة صلابتها وقوتها في مواجهة المصاعب من خلال اعادة ترميم الوجه الذي يتراءى لك حزينا وتلملم كل ما يجعلك تراه خراباً في جمال الطبيعة، وتعيد قلبها الى مكانه كي ينبض بالحياة بعد أن يجمع أوراق الخريف الصفراء من وجه الارض... وفي صورة أخرى تجسد صورة رمل الشاطئ الذي جمع بين أحضانه ذكريات جميلة وفي صورة أخرى (قصيدة) ترسم لنا صورة لشعاع شمس كان قد عانق طفولتها و...

من هنا نقول كان اختيار الشاعرة لعنونة مجموعتها موفقة كقراءة أولية للمتن، فالنرد هذه اللعبة البسيطة والتي تعتمد على الحظ من جهة وفي فن الرمي من جهة أخرى جعلت منها الشاعرة المنصة التي تتكئ عليها لجمع تشظي مراياها وتعقب انعكاساتها في مخيلتها كي ترسم لنا صورة شعرية بانورامية تتحرك أمامك كلما سرت خلفها... ولأن للنرد أوجه عدة هكذا تكون لصورها أوجه عدة فصورها الشعرية هي من نوع التي ترسمها لنا المرآة المحدبة وليست المسطحة كون صورها في حركة مستمر تجعلك تسير خلفها بتلهف كي تصطاد لؤلؤها وكما في قصيدتها (لستُ حزِينَة):

لست حزينة

أنا فقطْ أُرتِّقُ الرُوْحَ بماء السَّمَاءْ،

أُلَمْلِمُ خَيبَتِيْ... وأدسُّها في خَاصِرةِ اللَّحظَة،

و أغِيبُ عَنِّي فِيَّ

أُخْفِي كلَّ هذا الخراب عَنِ العُيون الَّتِي حَاصرَتْ بزوغ الشمس في عيني...

أتوهُ داخلِي

أتلمَّسُ حَوافَ النورِ

فأحترقْ

حيث تراها في قصيدتها هذه وكغيرها من قصائد المجموعة تتلاعب في تشظيات مخيلتها الشعرية فتسيل منها صورا عدة من خلال انعكاسات مرايا حجرة نردها المتشظية والمكونة لعناصر اللوحة التي يرسمها خيالها، حيث غاصت مخيلتها في عمق ذاتها المحملة بتجربة إنسانية فأستطاعت أن تستثمر مزايا النرد والمرآة بكل ما فيهما من رموز عكست لنا صورة الأنا في ذاتها لنرى فيها الآخر المتحد مع أناها مكونا بذلك الأنا الجمعية، كي تصبح صوتا داخليا يحث القارئ للسير قدما في قراءة نصوصها الأخرى، لذا تراها تكرر المفردة، لست حزينة) للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي تعيشه الشاعرة، والتقليل من آثار جيشانِ إرهاصاتها النفسيَّة واحتدام تداعياتها الشعورية التي تواجهها كأي إمرأة في حياتها الشخصية سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعها الذاتي الاجتماعي أم بواقعها المحيطي البيئي والجمعي في الوقت الراهن لذا تراها تكرر وتقول:

... لستُ حزِينـــة ولكن في رأسِي قطة انتهتْ من حَرْبٍ طويــــــلة...لستُ حزينة. أنا فقطْ مُحَاصرَةٌ بالذكرَى.. لستُ حزينة ولكن قلبي غادَرْ يلاحقُ ورقَةً صفْراءَ تــــاهتْ... لستُ حزينة ولكن القلبَ الذي غادَرْ ارْتَطَم بِطَريقٍ منْ جمرْ... لستُ حزينة ولكنّي أحبُّ الصمتَ...)

نجد إفرازات مخيلة الشاعرة وتشظياتها تجعلك تجري وراء لوحتها المتشظية كي تنقلك من مكان لآخر، وهذه التشضيات هي صور لصراعاتها الداخلية والقلق النفسي الذي يعاني منه الانسان والمرأة بصور خاصة وكما تقول في قصيدتها هذه:

لستُ حزِينـــة

ولكن في رأسِي قطة

انتهتْ من حَرْبٍ طويــــــلة

قطة تلعقُ جراحَها في صمت

تنزوي بعيدا عن أطفال الحيِّ المُشاكسين

تبرقُ في عينيها رغبةُ انتقام

ثم تخْمدُ عندَ أوَّل خُطوةٍ مِنْ قَدَمٍ مَكْسُورة.

وهكذا في قصيدتها، حضور) حيث تطرح عدة أوجه لحضورها من خلال انعكاسات الصور التي رسمها الرمل في مخيلتها وكما تقول:

(سلامٌ على الرملِ يعرفُ سرَّ الحِكاية ويعرفُ لونَ العُيونِ التي نَــامتْ على سَفْحٍ من دمُوع... سلامٌ على الرملِ يعرفُ لونَ الصَّباح ويرسمُ في الأفقِ بَحَّة ريْحِ صديقَــة... سلامٌ على الرملِ يعرفُ وجهَ القَصِيدة ويغفرُ لَها وَجَعَ الغيــابْ، ...)

الشاعرة تستخدم التكرار لتؤكد على أن الصورة هي انعكاس لذاتها وصراعها...

إن دراسة دلالة الصور التي تعكسها مراياها ما هي إلا توثيق للحظات فرحها وتوترها وقلقها، لما ينتابها من هاجس النزوع الى الزمن الجميل الذي ترسمه لنا من خلال ما تحلم به كاشفة لنا عن مآزق التصدع والانشراخ في ذاتها التي تحلم دائماً بعالم جميل خالٍ من كل وجه قبيح.

إنَّ الكتابةَ بلغةِ الحُلم والرؤية قد يُثري البنية العميقة من الدّلالاتِ الخفيَّة، ذلك لأنّ الشّاعرةُ تسعى إلى تعديلِ المُهشّم في نفسها من خلال طرحها لأوجه عدة لصورتها المتشظية عبر المرآة، وهي تدعوك إلى البحثِ والتأمل عن ذّاتِها الحقيقيّةِ التّي تسعى إلى تكوينها، وكأنها تعيش حلمها الإبداعيّ؛ لذا فإنّ التّعبير بلغة المرايا، قابلٌ للتماهي مع العوالم الخياليَّة التي تنتجها مخيلتها، من أجل خلقِ توازنًا نفسيًّا للذّاتِ، من خلال اللّجوءِ إلى حجر النرد والصور التي تعكسها مرآتها مكوناً صور عدة تُحقّقُ فيه رغبتَها الجامحة وكما تقول في قصيدتها، للاحتمال مزاج يقين):

لِنَتَفِقْ مُنْذُ البِدَايَة

أَنَّنِي لَا أكْتُبُ لَكَ

و أنَّكَ هَامِشٌ لِكُلِّ مَتْنٍ أَنْحَتهُ

مِنْ بُخَارِ الرُّوح

لِنَتَفِق أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ يَوْماً هُنَا

و أَنَّنِي لا أَجْتَهِدُ أبَدَا في جَعْلِكَ صِفْراً

بَائِساً يَسَارَ كُل الأرْقَام الّتِي أَكْتُبُهَا

علَى خَطِ الوَجَع.

وفي قصيدتها (ورطة) وغيرها من القصائد تلعب السردية دورها لتجعل من قصيدتها هذه وكما في قصائدها الأخرى سيرة ذاتية تفصح الشاعرة من خلالهم عن مكنونها الداخلي لما يحمله مفهومها النصي من إيحاءات نفسيَّة مُثيرة وطاقات إيجابية تعبيرية تترك خلفها إيقاعية موسيقية قادرة على دغدغة نفسية المتلقِّي، لذا كانت وقائع تردها مرآةً عاكسةً لِمَا في الرُّوح الذاتية للشاعرة الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة. إنها مرآة واقعها في الماضي والحاضر، واستشراف الغد المستقبلي الآتي لتقول لنا:

بين النُور و بيني ورطَة

تشبهُ الحُبَّ...

تُشبِهُ حُلما لذيــذا تسرّب خِلسَة

إلى القلبْ

نلاحظ القلق الشعري والإنساني حاضر في نصوصها التي وشحتها بأسلوب سلس وبصور جميلة مفعمة بالعديد من الأسئلة الغير مباشرة والمحيرة، بين رغبتها في تقمط جمال الحياة والطبيعة وما يقف في الاتجاه المعاكس لشل حركتها، لقد جاء النرد في قصائد الشاعرة فائزة بدلالات متشظية طبقا لما تعكسه مرآتها الداخلية معبرة عن الصراع والضياع فكانت لمراياها وظيفة سردية وتعبيرية معبرة عن الصورة الشعرية وهي توسع دائرتها لتنقل اِنعكاساتها الى أنا القارئ مثلما تتوسع دوائر الحجرة المرمية في مياه البحر وهي تحاول اِقتحام الشواطئ والأمواج.

ومن الجدير بالذكر أن الشاعرة اختارت عنونة مجموعتها من خلال تناصها على قصيدتها (أوشام على خاصرة الخيبة – مقام الغياب) والتي تقول فيها :

تلك الحفرة السوداء التي يسمونها

حظ

سَتسْحَب قلبَك

نحو

هاوية لعينة

يسمونها مجازا:

حُبْ !!!

وختاما أقول:

اِحتلت الصورة الشعرية مكانا أساسيا في تكوين شعرية نصوص الشاعرة فائزة أحمد خمقاني في مجموعتها هذه، لقدرة الصورة الشعرية على رفد اللغة بالدلالات العميقة، وخاصة عندما يكون الخيال الشعري هو البؤرة المركزية لكل نص شعري.

الشاعرة استثمرت بكفاءة العناصر الحسية في الطبيعة البشرية للقيام بإعادة تشكيلها وفق ما ترسمه لها مخيلتها من معان ودلالات فرسمت لنا بكلماتها الجميلة والرقيقة صور لمظاهر محسوسة عن طريق الاستعارة فمنحت المشهد سيلاً من الصور المتدفقة والجميلة وهي تشحنها بالمشاعر والأحاسيس والدلالات من خلال مزج رؤياها بالواقع مزجاً تخيلياً عميقاً.

فالمتخيل الشعري لديها يسعى إلى لملمة الصور التي تعكسها مرايا نردها فتتشظى داخل ذاتها وحيث تتصارع لديها كلا القوتين المتناقضتين، المادي والروحي) من أجل رسم صورة الأنسان الجميلة بما يتوافق مع تصورات ذاتها الداخلية، الأنا) مستعينة بمرايا نردها ففيها ما يوحي بالالتصاق بين رؤيتها الشاعرة وذاتها لذا جاءت نصوصها الشعرية محملة بالرقة والجمال وموفقة للتعبير عن أناها .

***

نزار حنا الديراني

في المثقف اليوم